اتسمت المرأة القروية في منطقة عسير بسمات جليلةٍ من الأنفة، وتحمُّل المسؤولية، والاعتداد بالذات، وخوض معارك إلى جنب الرجل؛ فهـي تحملُ عنه، ولا تكونُ حملاً عليه، تشهدُ بذلك مواقفُ وحكاياتٌ ومشاهداتٌ تستعصي على الحصر، وكم منهن أقامت بيتًا من العدم، أو ثبتت أركان بيتٍ آيلٍ للسقوط، فجعلت من نفسها جسرًا لأسرتها عـبرت بها إلى بر الأمان، وأكثـرُ ما يكون ذلك في غَيْبَةِ رجلٍ غَالَهُ الموت، أو أقصاه الطلاق، أو غيَّبه طلب الرزق، أولم يؤت من العزم ما تقتضيه مسؤوليته، أو نأى به التخلي عن حَمْلِها.
وكم أنبتت هذه الشعاب والشعوف والقرى، من ذوات الفضل، اللاتي ما اكتسبن الفضل من المعارف والكتب، وإنما هي شيمٌ توارثنها من أخلاق القرى، فجُبلتْ نفوسهن على العطاء، والمشاركة؛ وإذا غلب على كرماء الرجال البذلُ والتضحية طلبًا للمجد، فإن النساء أقل تعلُّقًا بذلك الحظ المعنوي، وإنما هي فطرةٌ جُبِلنَ عليها، وشيمٌ نشأن فيها، فأنكرن ذواتِـهن دون حساب، راضياتٍ بما يهبنَ من نُجْحٍ وسعادة لمن حولهن. وكم عرفنا وسمعنا عن سيدات اضطلعن بمسؤوليات تنوء بها كواهل الرجال، وما فيهنَّ إلا من جزاها الله على عظيم صنيعها، في الدنيا، بصلاح بنيها وبناتها، والله لن يُخيِّبَ مسعاها يومَ لا ينفعُ مالٌ ولا بنون.
وأتذكَّرُ أني حين قرأت كتاب: (قطرات من سحائب الذكريات) لمعالي الأستاذ عبدالرحمن السدحان، حين صدوره عام(2007م)، تألمتُ لمعاناة والدته السيدة (فاطمة بنت محمد السليمان)، من (قرية مشيَّع) على الطرف الشرقي لمدينة أبها، لمعاناتها إثر انفصالها عن زوجها، وسفره تبعًا لتجارته.. وما عانت في سبيل رعاية ابنها، ثم لوعتها بفراقه حين لحق بأبيه..
فلما قرأت سيرة الدكتور إسحاق السعدي، (سالف الذكريات) الصادرة هذا العام2023م، قرأت من خبر والدته السيدة (فاطمة بنت يحيى آل صايل) من (قرية الغال)، شمال أبها. ما يتقاصر أمامه ما سمعتُ وما قرأت من قبل..
وإني لأحسبُ أن هناك جامعًا بين الفاطمتين، جعل حياتهما الزوجية لا تستقر؛ فالزوجانِ وإن كان أحدهما مشتغلا بالتجارة، والآخر مشتغلٌ بالدعوة، إلا أنهما بخلفيتهما الدينيةِ قَصَدا إلى تقييد حركة المرأة في مساحة لا تجاوز رغبات الزوج، لتذوب شخصيتها في شخصيته، فاصطدمت تلك الرغبة بطبيعة سيدتين عسيريتين قرويتين، تَعْتدانِ بنفسيهما، فلكل منهما حضورُها ومشاركتها في الحياة الأسرية، ومرجعيتها الثقافية الـتي لا تقبل منها أن تنـزوي في ظلِّ الرجل، ولا أن تتخلى عن إرادتها؛ وهي بالضرورة إرادةٌ وتطلُّعٌ لمعالي الأمور، وفعل الخيـرات، ونجدةِ الملهوفين، وعونِ الجيـران، ورعايةِ الأيتام؛ فهما بنتا بيئةٍ تجمعُ المرأةُ فيها بين القوة في المواجهة، واللطف في المعاشرة، والعطف في الرعاية، والاعتداد بالنفس في المنافسة، ولعل ذلك ما لم يُطِقْهُ الزوجان الكريمان رحمة الله عليهم جميعًا.
وفي سيرة الدكتور إسحاق السعدي (سالف الذكريات) تتجسَّدُ تلك السمات في شخصية: (فاطمة بنت يحيى آل صايل) رحمة الله عليها، تلك السيدة التي:
أملتْ عليها سماءُ الرِّيفِ حكمتَها
فكلُّ أعمالِـها سمحاءُ غراءُ(3)
فلا يملك قارئ (سالف الذكريات) إلا الدموعَ تعاطُفًا، والخشوعَ إجلالًا أمام سيرة هذه السيدة العظيمة؛ التي دخلت الحياة الزوجية غيـر المتكافئة في العمر، ولا في طبيعة الحياة، فواجهت شتى المصاعب، وعصفت بها أقسى العواصف، فاستجمعت ما آتاها الله من إيمانٍ وعزيمة، وما وهبها من عقلٍ وبصيرة، وما أورثتها أسرتها من رُشدٍ وأرومة، وما نشأت عليه من أخلاق القرية، وما فُطِرَتْ عليه من عطفٍ وأمومة، وواجهت بذلك مُجْتَمِعًا عواصفَ الحياة، فخرجت منتصرةً، موفورةَ الكرامةِ، مرفوعةَ الرأسِ، باذلةً حياتها جِسْرًا بين واقعها المؤلـم والمستقبل المشرق لولديها: (إسحاقَ ويحيـى)، فوصلت بهما إلى بَرِّ الأمان: أستاذَين جامِعَيين، وعَلَمَين عالِـمَين، ووجيهين مُقَدَّرين، ورمزَين وطنيَين، مشهورَين بالـخُلُقِ الكريم، والتدين القويم؛ والأدب الرفيع.
رعتْ بنيها فربَّتهم على قِيَمٍ
فهاهمُ قِمَمٌ للمجدِ شماءُ(4)
على أن معركتها الطويلة في الحياة؛ وإن خرجت منها منتصرةً قد ألحقتْ بها جراحًا ثخينة، ومتاعبَ متصلة؛ بدأت بزواجها من رجلٍ يكبرها بمثل عمرها، ثم انتقالها من فضاء القرية الرَّحْبِ إلى أزقة المدينة الضيقة، وإنجابها من زوجٍ نذرَ حياته للدعوة، وتصحيح عقائد الناس، وتعليمهم الدين وفق المنهج الذي أخذه عن علماء السلفية في رحلاته العلمية. ثم تنفصل عن زوجها، وتعود بطفليها إلى قريتها؛ فتجدُ القرية على غيـر ما عهدتها، فقد توفي الوالدان، وارتحل الأخَوَان طلبًا للوظائف، وأمسى البيتُ المكتظُّ بالحياة أطلالًا، والمزارعُ التـي كانت تؤتي أُكُلَها كُلَّ حين مغابيرَ مباحةً للجميع. فكانَ عليها أن تُعيدَ تأهيلَ بيتِ والدها للسكن، وأن تستصلح مزارعه، لتقوتَ ابنيها ونفسَها، وأعانها أهل (قرية الغال) حين رأوا عزمها، وكأنما رأى شوقي من أم إسحاق ما رأى منها أهلها في (قرية الغال) حين قال في أمه:
نَمَتكِ مناجيبُ العُلا ونَمَيْتِها
فلم تُلحقي بنتًا، ولم تُسبقي أُمَّا
وتقضي خمس سنوات منفصلةً عن زوجها، بين عامي: (1378هـ/1383هـ)-(/1958م/1963م)، مقيمة بولديها في قريتها (الغال)، أميـرةَ نفسِها، عائلةً ابنيها، فأعادت الحياة إلى بيت والدها؛ «قامت بتنظيفه وصيانته وفرشه وإعادة الروح له حتى أصبح مأهولاً، يُشارُ إليه بالبنان»(5)
لقد كانت أمًا وأبًا لولديها؛ تحمَّلت في سبيل ذلك من المشقات، ما ينوء بكواهل الرجال، ورفضتْ كُلَّ عروضِ الزواج؛ حمايةً لولديها مِن سُلْطَةِ زوج الأم، وأعادت الخِصبَ إلى مزارع أبيها، ففي «غضون العام أو العامين ملأت المخازن بالحبوب... وتملَّكَتِ الأبقارَ والأغنامَ، وأنتجت اللَّبنَ والسَّمْنَ، وكانت ملاذاً للأقارب والفقراء والأيتام؛ يتوجَّهونَ بعد الله إليها، فيجدون الضيافة والمعاونة والمشورة»(6)
وبعد سنواتٍ من الكفاح المرير في (قرية الغال)، نجح الوسطاء من الوجهاء في الإصلاح بينها وبين الشيخ عبدالله السعدي؛ وفي مقدمة الوسطاء الأديب عبدالله الحميد -رحمه الله-، الذي أرسل سائقه بسيارته لإحضار السيدة فاطمة وولديها من (قرية الغال) إلى بيت الشيخ السعدي. بعد أن اشترى مزرعةً وبـنى فيها بيتًا في (قرية آل بن نعمان) شرق أبها بنحو عشرة أكيال؛ فانتقلت بولديها إلى البيت الجديد، ولم يلبث الشيخ السعدي أن استأنف رحلاته الدعوية بمجرد استقرار الأسرة في بيتها الجديد، ليغيب غيابًا متصلاً؛ إلا من زيارات متباعدة؛ فتولَّت منفردةً رعايةَ ولديها، وبعض أولاد زوجها من أمهاتٍ أخريات، والإشرافَ على المزارع، والمواشي، وألحقتْ ولديها بمدرسة ابتدائية تبعد عن بيتهما خمسة أكيال، وتَـحَمَّلت مؤنة دراستهما وحيدة، ثم دفعتهما للالتحاق بالمعهد العلمـي بأبها لدراسة المرحلتين: المتوسطة والثانوية، ثم التحقا بكلية الشريعة، بأبها وتخرجا فيها عام (1401هـ/1981م). ومن جامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض نالا درجـتي الماجستير والدكتوراه. ولم تتخلَّ عن شعورها بالمسؤولية باستقلالهما، إذ يذكر الدكتور إسحاق أنَّه لما تباطأ في إنجاز رسالة الدكتوراه، اتصلت به – وكان في الرياض - وذَكَّرَتْهُ بعَلْقَةٍ نالها حين تلكأ يومًا عن الذهاب إلى المدرسة الابتدائية، وأوعدته بمثلها إن لم ينجز رسالته خلال عام؛ يقول: «فكان وعيدُها حافزًا وما مرَّ العامُ حتى ناقشتُ الرسالة».
وفوق ذلك نجحتْ في حفظ التوازن النفسي والاجتماعي لولديها، فلم ينساقا للتشدد الديني أو التطرف الفكري، ولم تعصف بهما رداتُ فعل تجاه تشدد والدهما فيسلكان مسلكًا متمردًا على القِيَم، بل وحمتهما من أن يأخذهما والدهما بما يأخذُ به نفسَه ومريدِيه من الشدة، وأخذتهما إلى جادة الاعتدال، حتـى صارا في صباهُما وشبابِهما صورةً زاهيةً للإنسان الجميل في إنسانيته، القدوة في تدينه، والمرجع في تخصصه العلمي، المسؤول في آرائه ومواقفه. فما أحراها بقول الشريف الرضي:
لو كان مثلَها كلُّ أُمٍّ بَرَّةٍ
غَنِـيَ البنونُ بها عن الآباء
وتمضي السنوات وهي تَتَحَمَّلُ وحيدةً تلك المسؤولياتِ الشاقة برغم لوم اللائمين؛ الذين يرون أنها تُبَدِّدُ سنوات عمرها مُرْتَـهَنَةً لزوجٍ منصرفٍ عنها، فلا تُعـيرُ الناصحين أُذُنًا، وتستمر في رعاية ما ترك لها زوجها من مسؤوليات، رافعةً شعارها النبيل: «الشجرةُ تُظلُّ ما تحتها»، وتلتـزم ما ألزمها به زوجها من عدمِ الخروج من بيته؛ لا لزيارة أخٍ أو أختٍ أو صديقةٍ أو جارة.
وتعيش الأسرة شبه معزولة؛ في مزرعةٍ منتحية جانبًا من (قرية آل بن نعمان)؛ تُقاربُ حدودَها السباع؛ يصف إسحاق السعدي ما أحاطهم في مسكنهم الجديد من الـمَخُوفات فيقول: «كان منزلنا حينذاك بعيداً عن منازل القرية، وعلى مقربة منه مغارة للذئاب، نراها بين الحين والآخر حول تلك المغارة، ونخشى سطوتها بالليل، وكنا نغلق علينا المنـزل في أول الليل، ونعيشُ في خوفٍ وترقُّبٍ حتـى يُسفِرَ الصُّبْح؛ نخافُ من ظلام الليل الدامس وطوارقه، وما يتحرك تحت جنحه من تلك الذئاب الـتي تباغت الأغنام، وما نتوقعه من سباع، وهوام، ولصوص»(7)
وتمضي السنوات وأم إسحاق سيدةُ العائلة، وحارستُها، وخادمتُها أيضًا. ويبلغ منها الجهد والإعياء ما رواه إسحاق السعدي فقال: «ذات يوم بعد فراغي من امتحانات شهادة الكفاءة المتوسطة استيقظتُ على وضعٍ مفزع وحالة خطرة ألَـمَّتْ بها، وسقطت مغشيًّا عليها فهويتُ عند قدميها صارخًا باكيًا فَتَحَامَلَتْ وساعدتني بنفسها حتى ارتمت على فراش سارعتُ في تجهيـزه لها بجوار الصلل، وأحضرتُ لها فنجاناً من القهوة قمتُ بعملها كيفما اتفق... أظلمتْ صبيحة ذلك اليوم في وجهي وانطلقتُ مسرعًا إلى الطريق العام؛ أهيمُ على وجهـي في صدمة نفسية شديدة وحالة من البؤس والانهيار والبكاء»(8).
ويصادف صديقًا ويُحضران الطبيب، فينصحها بالراحة التامة؛ فما هنالك سوى الإعياء من الجهد المتصل.!!
على أن مخاوفَ فَقْدِ الأم لازمتْ الدكتور إسحاق السعدي منذ وقتٍ مبكر؛ لارتباطه العاطفي الشديد بأُمِّه، ولأنه يدركُ أنَّ الأسرةَ -بفقدها- ستصبحُ في العراء مكشوفةً لكل صوارف الزمان، وعواصفِ الحياة؛ فيقول: «منذ وقت مبكر من عمر والدتي- رحمها الله- وهي تعاني من عوارضَ صحية وأزمات مرضية تشعر معها بدنو الأجل مما استرهبني وأدخل الخوفَ في قرارة وجداني وبخاصة مدى دراستي المرحلة الثانوية»(9).
ولقد اضطرتْ في ظل غياب الشيخ السعدي أن تدفع بإسحاقَ إلى مقام المسؤولية، والمشاركة في إدارة شؤون الأسرة، ومواجهة مشاق الحياة، ومعالجة ما يعتـرض الأسرة من عوارض وطوارئ؛ فلم يكن بد من أن يتحمَّل مسؤولية الدفاع عن أملاك الأسرة، في غياب الأب، الذي لم يكن ليشغل نفسه بالنزاعات الدنيوية التافهة -كما يراها-، فهو منشغلٌ بما هو أعظم من ذلك؛ بالدعوة إلى الله تعالى.
والدكتور السعدي يدرك منذ وقتٍ مبكر ما تخوضه أمه من معارك ومكابدة لحماية الأسرة والإبقاء على استقرارها، واستقلالها؛ فهو يقول: «لقد بذلتْ والدتي -رحمها الله- جهوداً ضخمةً مباركةً في سدِّ فراغاتٍ وفجواتٍ أحدثتها ظروف الحياة وتغيراتها وتقلباتها، وتَحَمَّلَتْ أعباءً جسيمةً ينوء بحملها العُصبة من الرجال، أولي القوة، وقاومتِ المرضَ والعَوَزَ والحاجة بالعمل الجاد والمثابرة وحسن التوكل على الله والثقة في عونه ونصره وتأييده»(10)
أما سيرتها في كِبَرِها فيصفها الدكتور السعدي قائلًا: « كانت طوال عمرها وحتـى تمكَّنَ المرضُ منها، تحافظ على الصلاة في طهارة مستمرة، ونظافة مشرقة مبهجة، وإخلاص مطبوع. تنثال على ذهني صور مضحكة وأخر ى مبكية، وتعرض ببالي أحوال مفرحة وأخرى محزنة وأنا أستعرض مسار حياتها وكفاحها مدة تجاوزت الثمانين عاماً، بعضها حكتها لي... وبعضها الآخر شاهدتُـها بنفسي، وأخرى حدثني عنها بعض من شاهدها؛ جميعها تشهد لها بالعظمة والتُّـقى والإخلاص والصدق والتفاني والصلاح والإصلاح حيثُما ذَهَبَتْ وأنَّـى اتجهتْ...»(11). ا.ه
على أن الله تعالى لم يتخلَّ عنها، ولم يكلها إلى نفسها، بل استجاب لدعواتها، وحقق في ولديها آمالَـها، فأصبحا لها أرضًا وسماءً، وعاشت في كنفهما مُتَوَّجَةً بالـحُبِّ، أمنياتها مُحَقَّقَةٌ، وطلباتها مجابة، وقد بلغا ما بلغا من علو المنزلة، ورزقهما الله الذُّرية الصالحة، فوجدتْ في الأحفاد امتدادًا لولديها، وثمارًا لغرسِها الطَّيِبِ الذي رعته فوق ما ترعى أمٌ بنيها، ومضت حياتها سيدةً للأبناء والأحفاد، حتى عادت فتوسدَّت تراب قريتها (الغال) عصر الأربعاء، غرة رجب1443هـ/الثاني من فبراير2022م.
ولطالما تخوَّف الدكتور السعدي من هذه اللحظة، التـي كان موقنًا أنها آتية، فكتب قبل رحيلها بسبعِ سنوات: «لستُ أدري ما يخفي القدر، إذ تلوح في أجوائي النُّذر، تستفزُّ في كياني الحنين، توقظُ فيَّ الخوفَ من فراقها»(12)
وحين حمَّ الفراق، وتَيَـقَّن أنه الغياب الطويل؛ كتب: «أيُّ معـنىً بعد رحيلك أبتغيه لما تبقى من حياتي؟! غيـرَ سفري في المدى، ألملمُ طيوفَكِ وتخيلاتي. عُدتِ لأرضِ الغال طُهرًا يُعانق مزونَ السماوات»(13). إ.ه.
وإني لأحسب أن رحيلها الموجع كان دافعًا لتأليفه كتابَ (سالف الذكريات)؛ ليلوذَ بالكلمات من الأحزان، ويتعزَّى بالذكريات عن الفُقدان، وتلك واحدة أُخْرَى من عطاياها، أن سطَّر لنا الدكتور إسحاق السعدي هذا الكتاب؛ الذي انحاز فيه بعواطفه كلها إلى حياة البدايات، وأماكن الذكريات، والقرى، وناسها، وطبيعتها.
فكتبَ ذكرياته كأنما يتحدَّث إلى صديقٍ، بذاكرة تصويرية، تنقلُ الأحوالَ والمشاهداتِ بأدقِّ تفصيلاتها، مستعينًا بطلاقته في الحديث، وثقافته الواسعة، وتجربته العميقة، وتلقائيته الفطرية؛ وكأنما يحاول مقاومة تَبَدُّلِ الأحوال، وتغيُّـرِ المعالم، بنقل صورتها إلى مخيلة القارئ كما هي في ذاكرته هو. ويجاوز رسم الأماكن والمشاهد بالكلمات إلى تقنية الباركود (Barcode)؛ القابل للقراءة بواسطة كاميرا الهاتف، فكثـيرًا ما تنتهي الفقرة أو الحدث بعلامة الباركود التـي ستأخذك بدورها إلى وصف تفصيلي من تصوير وتعليق المؤلف، أومما يتوافر عبـر اليوتيوب ووسائل التواصل من منشورات، توضيحية، فَيَقْرِنُ المكتوبَ بالمنظورِ، وذلك سبق لم أر مَن اهتدى إليه قبله فيما اطَّلَعْتُ عليه من السِّيـَـرِ الذاتية.
وتبدأ ذكريات السعدي بالتعريف بوالده (عبدالله بن سعدي الغامدي) الذي قَدِمَ إلى أبها، مطلع سبعينيات القرن الرابع عشر الهجري، خمسينيات قرن العشرين الميلادي، بعد رَحلاتٍ علمية إلى مكةَ، ونجدٍ، واليمن.
وفي أبها التقى بأحد أصدقائه من أبناء (قرية الغَال) فدعاه صديقه العسيري إلى قريته، وسعى في تزويجه من (فاطمة) بنت نائب القرية (الشيخ يحيـى آل صايل).
وكتاب سالف الذكريات الصادر هذا العام2023م، عن دار ريادة، في (355صفحة)، زاخرٌ بنماذجَ من الشخصيات، وصور الحياة في أبها، ومساكنها، وشوارعها، وناسها. وكذا حياة القرية التي عاشها المؤلف في طفولته المبكرة في (قرية الغال)، ثم في صباه وشبابِه في (قرية آل بن نعمان)، وفي (قرية الدارة)؛ حيث درس المرحلة الابتدائية. فتشرَّبَ أخلاق القرية، وارتسمتْ في ذاكرته تفاصيلها، وحنَّ إليها، وتمسَّك بالوفاء لتلك الربوع، وأهلها.
وتكشِفُ سيرةُ السعدي كيف أغنتِ النشأةُ القرويةُ قاموسَه اللغوي، والنباتي، والبيئـي، وعرَّفَتْهُ طبيعةَ المجتمع القروي، وربطته بِقِيَمِ القريةِ التراحمية، وأعراف القبائل، وحكايا الأولين، وآفاق الحياة الملتصقة بالطبيعة، التي لا تتسنى لابن المدينة.
وتَشِفُّ سيرة السعدي عن مدى حساسيته تجاه الجمال، وتذوقِهِ الفنون، وتماهيه مع ما يَعْرِضُ له من مناظرَ جميلة، أو ظلالٍ وارفة، أو ينابيعَ دفَّاقة، أو نغماتٍ شجية، مع قدرة فائقة على وصفها، والتعبيـر عن تأثيرها.
وكذلك تضمَّنَ الكتاب فصولاً مورقة عن شخصيات عديدة احتلَّتْ مساحةً من الود والإجلال في كلماته، وذكرياته، وأساتذةٍ أجلاءَ؛ تعلَّم منهم، وتأثَّرَ بهم، وخؤولةٍ كرام تركوا بصمةً في حياته.
** **
- إبراهيم مضواح الألمعي