يهدف كتاب «نظرية الهجائن الإرهاب والجريمة المنظمة» تأليف جون فرانسوا جيرو Jean-François Gayraud (صدر عن المركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي CNRS في حوالي 256 صفحة) إلى تقديم عرض شامل عن عالمنا المعاصر، عالَم ما بعد الحرب الباردة، الذي يواجه نوعين من التمرد: تمرد سُفلي، رجال العصابات وتمرد علويّ، البلوتوقراطيون. فبينما يُشكِّل المتمردون من ذوي الطبقة العليا دولة بلوتوقراطية (دولة الأغنياء من خلال الأغنياء وللأغنياء)، يُشكِّل المتمردين من ذوي الطبقة السفلى دولة العصابات (دولة المجرمين من خلال المجرمين وللمجرمين). يميل هذان الكيانان الجديدان إلى التواصل مع بعضهما البعض وصولاً إلى درجة الاندماج: أي التهجين المتبادل. وهكذا فإن التّهجين الإجرامي للمستويات العليا الذي يضم طبقات المجتمع العليا المُعولَمة يُشير إلى وجود تهجين إجرامي للمستويات السفلى التي تنفرد بعالَمها الإجرامي الخاص. وبالتالي يمكن قراءة «نظرية الهجائن» التي يطرحها جيرو GAYRAUD باعتبارها النظرية التي تُفسر إشكالية التداخل الوثيق بين الجريمة والإرهاب بشكل عام والإرهاب المنظّم بشكل خاص.
مؤلف الكتاب جون فرانسوا جيرو، الحاصل على الدكتوراه في القانون الدولي، بدأ حياته المهنية في إدارة المراقبة الوطنية (DST) ومكافحة التجسس ومكافحة الإرهاب بعدما تخرج في معهد الدراسات السياسية ومعهد علم الجريمة والقانون الجنائي بباريس.
تأتي مقدمة الكتاب لتتحدث عن أول اتفاقية تمت في عصرنا الحالي وترتبط بصلح وستفاليا الذي أنهى حروباً دموية استمرت لسنوات بين الدول الأوروبية. يستفيد المؤلف من كتابات المؤلِّفين السابقين ويذكر منهم هيدلي بول Hedley Bullوكتابه عن المجتمع الفوضوي، دراسة النظام في السياسة العالمية، الذي يؤكد من خلاله بول على الطبيعة الفوضوية للعلاقات الدولية. انطلاقاً من هذه الرؤية، يرى، جون فرانسوا جيرو، مؤلف كتاب «نظرية الهجائن» أن عالمنا المعاصر يعيش حالة من الفوضى تُقوِّض سلطة الدول وسيادة القانون، وأنه منذ سقوط سور برلين (1989) أصبح انسحاب الدول من المواجهة مع كُبريات المؤسسات الإقطاعية الصناعية والمالية أمرًا لا مفرّ منه، وبالتالي سيكون من الصعب على الدول أنْ تفرض على هذه المؤسسات المثول أمام محكمة العدل، وستكون الشركات الكبيرة متعددة الجنسيات، في المقابل، قادرة على ملاحقة الدول في حال كانت قوانينها غير ملائمة لها.
يستمر الخبير الدولي الفرنسي جيرو GAYRAUD في أطروحته مؤكداً على أن الحدود التقليدية بين الدول في طريقها إلى أن تتلاشى تماماً وأن الروابط التي نلاحظها اليوم بين الإرهاب والجريمة المنظمة تُعتبر حقيقة لا جدال فيها في ظل التكنولوجيا العابرة للحدود التي أدت بدورها إلى التحرُّر من كل القيود، يرافق ذلك تنامٍ غير مسبوق للمخاطر الأمنية التي تتعرض لها الدول في إطار الجريمة المنظمة.
الجزء الأوّل من هذا الكتاب «نظرية الهجائن» يتعرّض لتوصيف الحرب الباردة التي تميزت بالتوتر الحاصل على المستوى الاقتصادي والسياسي والعسكري بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. يبحر بنا المؤلف في عالَم ما بعد الحرب الباردة الذي أصبح فيه التهجين هو القاعدة وليس الاستثناء، الأمر الذي أدى إلى توليد كيانات إرهابية يصعب تصنيفها: انطلاقاً من الطوائف الدينية القديمة والحديثة، ومروراً بالطوائف اللادينية، ووصولاً إلى المتمردين الماركسيين الذين يعيشون على تهريب الكوكايين، وأخيراً المضاربات والجرائم المالية وعمليات تمويل الجماعات شبه العسكرية ومختلف العصابات الإجرامية الأخرى.
في هذا الجزء من الكتاب، يسلِّط المؤلف الضوء على دراسة تمت عام 2010 تحت عنوان مباشر «الجريمة وعدم الاستقرار» وفيها يتناول مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة UNODC الآثار الجيوسياسية المُزعزعة للاستقرار والناجمة عن تفشي الجريمة المنظمة بشكل كبير في عدد من المناطق من بينها: جبال الأنديز وغرب إفريقيا وأمريكا الوسطى وجنوب غرب ووسط آسيا وجنوب شرق آسيا ومنطقة البلقان.
ووفقاً لدائرة أبحاث الكونجرس الأمريكي، عام 2011، ذكرت وكالة مكافحة المخدرات DEA عن وزارة الخارجية الأمريكية أن 19 من أصل 49 مجموعة أجنبية متَّصفة بالإرهاب (أي بمعدل 39 %) لديها «روابط مؤكدة بالاتِّجار بالمخدرات». في عام 2003، قدَّرت إدارة مكافحة المخدرات DEA بالفعل أن 14 من أصل 36 مجموعة أجنبية إرهابية تم التعرُّف عليها كانت «متورِّطة بشكل أو بآخر بالاتِّجار بالمخدرات». في عام 2010، ذكرت وزارة العدل الأمريكية أن 29 من أصل أول 63 مجموعة تعمل بالاتِّجار بالمخدرات كانت مرتبطة بكيانات إرهابية.
فالكيان الإجرامي الذي كان يُصنَّف ذات يوم على أنه إرهابي لم يعد كذلك اليوم بما أنه سيصبح طرفاً فاعلاً وعنصراً سياسياً عندما يَنظر إلى الدولة والمجتمع كعدو حقيقي. فعل سبيل المثال، تهدف الحملات الإرهابية التي قامت بها كارتيلات المخدرات، مثل كارتيل ميديلين، ضد الدولة والطبقة السياسية الكولومبية في الثمانيّنيات من القرن الماضي إلى منع تسليم قادتها إلى العدالة.
يستند مؤلف كتاب «نظرية الهجائن» إلى تقرير التنمية البشرية الإقليمي 2013-2014 التابع لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي الذي يخلص إلى أن الحروب التي تشنها الكيانات الهجينة تعتبر حروباً فتَّاكة إلى حدٍّ بعيد بشكل يفوق بكثير القتل الذي تسببه الحروب «الكلاسيكية ومن ثم فهذا التقرير يرصد الحقائق التالية:» بين عامي 2000 و2010، ارتفع معدل جرائم القتل في 18 دولة في أمريكا اللاتينية بنسبة 12% بينما كان مستقراً أو متناقصاً في معظم مناطق العالم الأخرى. بمعنى آخر، تُعتبر أمريكا اللاتينية (مع منطقة البحر الكاريبي) المنطقة الوحيدة في العالَم التي يزداد فيها العنف القاتل بسبب الجريمة المنظمة الهجينة وديناميكيات الاتَّجار بالمخدرات.
يتطرّق الجزء الثاني من كتاب «نظرية الهجائن» إلى الجغرافيا السياسية للتهجين من خلال الحديث عن الجرائم الإرهابية المنظمة التي تتبناها القراصنة والطوائف والعصابات الإرهابية في مختلف أنحاء العالم، ويتناول بالتحليل الفضاء السيبراني والإرهاب السيبراني والحرب السيبرانية وعصابات المافيا والمتطرفين اليمينيين واليساريين أو ما يمكن أن نطلق عليه التحالف الضمني بين مختلف العصابات الإجرامية التي تجمعها بِنية تنظيمية مشتركة وقواعد سلوكية واحدة. يضرب المؤلف أمثلة عديدة على هذه الكيانات. سنكتفي في هذا المقال بحديث موجز عن كيانين أولهما منظمة Aum Shinrikyo اليابانية الإرهابية التي نفذّت في الفترة من 1994 إلى 1995 العمليات التالية: إطلاق غاز السارين في مدينة ماتسوموتو (في يونيو 1994 وأدّى إلى مقتل 8 وجرح 200) وأيضاً إطلاق غاز السارين في مترو طوكيو (في مارس 1995 وأدّى إلى مقتل 12 وجرح 5500) وإطلاق النار على قائد الشرطة اليابانية (في مارس 1995). ثانيهما الكارتيلات المكسيكية، حيث شهدت المكسيك في الفترة من 1996 إلى 2016 حوالي 175000 جريمة قتل، وكان عام 2016 هو الأكثر دموية بشكل خاص حيث بلغ عدد القتلى حوالي 20792 أي بزيادة قدرها 22% مقارنة بعام 2015 وبزيادة قدرها 35 % مقارنة بعام 2014. يتحدث سجل هذه الكارتيلات عن مئات الآلاف من الوفيات نتيجة لأعمال العنف، فمنذ عام 2006، قُتل ما يقرب من 200000 شخص وتعرّض حوالي 20.000 آخرون للاختفاء بسبب فوضى المواجهات المتبادلة بين الضالعين في الاتِّجار بالمخدرات والدولة، وللتعبير عن مستوى العنف الإجرامي أصبح من الممكن اللجوء إلى استخدام مفردات أخرى لوصف آثاره: ساحات القتال ومعسكرات الموت والمقابر الجماعية.
ختاما: يعتقد جون فرانسوا جيرو Jean-François Gayraud أن العصابات الإجرامية والمافيا وغيرهم مِن محترفي الجريمة المنظمة تكتسب قوتها من خلال استغلال الفرص الجديدة الناشئة عن عولمة التبادل التجاري وتكنولوجيا المعلومات العابرة للحدود والانفتاح المخيف على الأوطان. كما يصف جون فرانسوا جيرو مختلف الكيانات الارهابية بما يلي:
- مجموعات إجرامية وافتراسية لها من الأهداف الاقتصادية ما يجعلها تُدار كمؤسسات متعددة الجنسيات؛
- مجموعات عسكرية بما تحوزه من وسائل تسليح، وبمن يتم تجنيدهم (أفراد سابقون في القوات الخاصة) وبما لديها من تكتيكات مستخدمة؛
- مجموعات إرهابية بما تنفّذه من حملات الاعتداءات المتكرّرة التي تهدف إلى جعل الجميع في حالة شلل تام؛
- ميليشيات سياسية أو رجالات عصابات بما لديها من قدرات ورغبات من أجل تحقيق مصالحها فرض السيطرة النفوذ في العالم.
** **
- د. أيمن منير