هل يحق للمبدع الفنان أن يتصور قصة خيالية من بنات فكره وينسب أحداثها مع شخصيات وأطراف أخرى وهي بعيدة كل البعد عن واقع الحقيقة؟ عندما يذكر الشاعر المبدع أن هذه القصة من بنات أفكاره فلا ضير من ذلك، لكن الإشكالية هنا عندما يدعي المبدع أن هذه القصة حقيقية والتي يأتي الحب محورها في أغلب الأحيان بينما ينكرها الطرف الآخر جملة وتفصيلاً، أو يكتشف الباحث الناقد أن أحداث القصيدة مجرد تبريرات يقدمها الشاعر في تجربته وليس لها واقع حقيقي، ما أقصده أننا في الأدب العربي قد أدركنا وجهة نظر قيس بن الملوح مثلاً في معشوقته ليلى ولكننا لم نعرف وجهة نظر ليلى العامرية تجاه قيس، هل كانت تبادله نفس المشاعر والمحبة كما صورها لنا قيس في شعره؟ فقيس مبدع فنان لديه من أدوات الشعر والأدب ما مكنه من تخليد وجهة نظره ولكن ليلى لم تمتلك هذه الأدوات فغابت عنا وجهة نظرها التي ربما قد تكون صادمة لنا!
في هذا المقال سنستعرض قصة أدبية مثيرة حدثت في بغداد العراق في أوائل سبعينيات القرن الماضي، عندما أحب الشاعر حسن مرواني زميلته في المعهد معشوقته ليلى، لقد صور لنا هذا المبدع الفنان بشاعريته الفائقة وحسه الإبداعي صورة محبوبته التي فضلت المال والجاه على حبه فهجرته نحو رجل آخر، كتب المرواني رائعته الشعرية والتي اعتبرها العديد من النقاد من روائع الشعر العربي في العصر الحديث، بيد أننا نعيش اليوم في زمن التكنولوجيا والاتصالات المتطورة ومعشوقته التي تفتقد أدوات الشاعر الفنان تمتلك حساباً في الفيس بوك مثلاً، وتستطيع من خلاله أن تدافع عن نفسها وتكذب وجهة نظر الشاعر!
القصيدة مثيرة للجدل طيلة نصف قرن، منذ كتابتها وحتى الآن وفي هذا المقال سنتطرق إلى هذه الإثارة التي صاحبت هذه المنظومة الإبداعية،، ففي ثمانينيات القرن الماضي، وبينما يجلس الشاب المثقف الفنان العراقي كاظم الساهر على مكتبه يتصفح إحدى المجلات الأدبية، وأثناء انهماكه في قراءة النتاج الأدبي لشعراء العراق، وقع تحت ناظريه بيتين من الشعر لم يدون شاعرهما:
لامو افتتاني بزرقاء العيون ولو
رأوا جمال عينيك ما لامو افتتاناتي
لو لم يكن أزرق الألوان أجملها
ما اختاره الله لوناً للسماوات
أعجب الساهر بهذين البيتين كثيراً، وظل يتساءل مع نفسه من هو هذا الشاعر المبدع؟، ومن هي السيدة ذات العيون الزرقاء التي افتتن بها الشاعر كل هذا الافتتان؟ ومرت السنون والأعوام، وإذ بالقصيدة كاملة تقع بين يدي الساهر، ولكنها أيضاً غير مذيلة باسم قائلها!
قرر الفنان كاظم الساهر أن يغني القصيدة، ويضع لها لحناً أسطورياً يتلاءم مع كبرياء القصيدة ومعاناة شاعرها مع محبوبته ليلى، وبالفعل بدأ القيصر يختار أبياته التي سيلحنها من بين أبيات هذه القصيدة الطويلة، لكن هاجس هوية الشاعر قائل هذه الأبيات ظل يطارده حيثما حل وارتحل، وفي أي مكان قام فيه أو نزل، وأخيراً قرر الساهر أن ينشر إعلاناً في الصحف العراقية بأنه يريد غناء وتلحين هذه القصيدة، وعلى الشاعر أن يتواصل معه، وهنا حدثت مفاجأة أخرى، اتصل على مكتب الفنان كاظم الساهر مجموعة من الشعراء، الكل يدعي أنها قصيدته، وأنها من بنات أفكاره، وقد صدق قول القائل القديم : كل يدعي الوصل بليلى!
يقول كاظم الساهر في أحد لقاءاته أنه ظل يبحث عن الشاعر ما يقارب الخمس سنوات، وعندما التقى الساهر بالشعراء ظهر من بينهم الأستاذ حسن مرواني، الكاتب الحقيقي لقصيدة أنا وليلى، ذلك المعلم البائس الفقير، والذي كان يدرس اللغة العربية في إحدى المناطق النائية ببغداد، قدم المعلم قصيدته إلى القيصر بمسودتها الأصلية والتي تحتوي على 355 بيتاً من الشعر.
وهنا انتهت حكاية البحث عن شاعر القصيدة، لكن ما حكاية الأغنية مع الشاعر، لا بد أن وراء تلك العاطفة الجياشة التي تمتلئ بها القصيدة حكاية حب عنيفة أوجعت قلب الشاعر حتى نظمها بهذا القدر العظيم من العمق والألم والحسرة، وحتى سببت له تلك الصدمة القوية التي جعلته يكتب بهذا الأسلوب المتفجر عشقاً ولوعة، فالعامل المشترك بين القراء هو التعاطف الحميم الذي أبدوه تجاه الشاعر، تقول بعض تلك الحكايا أن الساهر عندما اصطحب الشاعر إلى الأستوديو ليستمع إلى اللحن بكى المرواني بكاءً مراً، لقد أعادت له الأبيات الألم الذي ظل يعتصره كل تلك العقود، ذكرته بحبيبته التي كانت زميلة له في معهد المعلمين العالي في بغداد، وأحيت فيه قصة الحب التي ألهبت مشاعره الجياشة أمام صاحبة العيون الزرقاء، هذه الفتاة التي تركته وبدون سابق إنذار لتختار شاباً آخر ذو غنى وثراء:
ممزق أنا لا جاه ولا ترف
يغريك فيَ، فخليني لآهاتي
لو كنت ذا ترف ما كنت رافضة
حبي ولكن عسر الحال مأساتي
ويصل مدى عاطفة الألم إلى منتهاه عند الشاعر عندما يقول:
نفيت واستوطن الأغراب في بلدي
وحطموا كل أشيائي الحبيباتي
وأذكر أن هذا المقطع من الأغنية كان يتردد في أغلب وسائل الإعلام العربية أبان الغزو الأمريكي لبغداد في عام 2003م، كانت صورة اللحن الإبداعي الذي رسمه القيصر يتناغم مع حالة الألم العراقي لبغداد وهي تسقط بين يدي القوات الأجنبية بكل سهولة وبدون مقاومة .
لقد عبرت القصيدة وبمنتهى الجمال الأدبي عن عاطفة الألم العنيفة التي جاشت في نفس حسن المرواني :
لو تعصرين سنين العمر أكملها
لسال منها نزيف من جراحاتي
أمشي وأضحك يا ليلى مكابرة
علي أخبي عن الناس احتضاراتي
للناس تعرف ما بي فتعذرني
ولا سبيل لديهم في مواساتي
في مقطع وثائقي على اليوتيوب، يذكر بعض الباحثين أن الشاعر ألقى القصيدة في محفل ضم حشد من الطلبة والضيوف في عام 1971م، ومن تلك الواقعة، حازت القصيدة على اهتمام العديد من الأدباء والكتاب والشعراء وبدأت تتناقلها الشفاة في بغداد وتتداولها الصحف والمجلات في ملاحقها الأدبية، وقد غناها مجموعة من المطربين العراقيين، يبدو أن أولهم كان الفنان التركماني أكرم دوزلو، كما غناها غيره من الفنانين، لكن الشهرة الحقيقية للقصيدة خارج الحدود العراقية قد بلغت ذروتها عند الفنان كاظم الساهر والتي نال على إثرها المركز السادس عالمياً حسب دراسة أجرتها هيئة الإذاعة البريطانية، ولا شك، أن أجمل الألحان الموسيقية ما كان متلائماً مع جمال النص الأدبي، وهنا لا بد من الإشادة باللحن الأسطوري الذي صنعه الموسيقار الكبير كاظم الساهر، فكل نغمة أو جملة في اللحن تتواءم فنياً مع معاناة الشاعر وأسلوبه الأدبي الرفيع، وللقارئ الكريم أن يتخيل أن هذا الشاعر المبدع له قصائد عديدة لكنه لم يشتهر إلا بهذه القصيدة الإعجازية، وهذه الظاهرة موجودة في تاريخ الأدب العربي، كقصيدة الشاعر البغدادي ابن زريق التي يقول في مطلعها:
لا تعذليه فإن العذل يوجعه
قد قلت حقاً، ولكن ليس يسمعه
بعض النقاد يعدون هذه العينية من عيون الشعر العربي على مر العصور، وليس ابن زريق البغدادي وحده من اشتهر بقصيدة واحدة دون باقي شعره، فهناك شعراء كثر اختلف النقاد حول حقيقة قصيدتهم الواحدة التي عرفوا بها، فهناك الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد البكري، ومعاصره المنخل اليشكري، ومن بين هؤلاء الأعلام أيضاً : متمم بن نويرة ومالك بن الريب وعبد يغوث الحارثي والأحيمر السعدي وأبي البقاء الرندي، وآخر هؤلاء الشعراء كان شاعرنا الكبير حسن المرواني .
نعود إلى قصيدة أنا وليلى، والتي يبدو من خلال سياق الأبيات أنها لم تنظم كلها مرة واحدة، وأن الشاعر نظمها في فترات زمنية مختلفة، كما أن بعض الإضافات الموجودة في بعض المنشورات على صفحات الإنترنت هي لشعراء آخرين، وقد ادعى القصيدة زمناً الشاعر العراقي خالد الشطري وتنازع بها مع حسن المرواني، ولولا النسخة الأولى الأصلية التي احتفظ بها الأديب محمد القزويني بخط يد الشاعر ولمدة خمسون عاماً- لا تزال معه - لضاعت أحقية المرواني في القصيدة!
وقد تداولت وسائل الإعلام مؤخراً أن بطلة الأغنية قد ظهرت للعلن، وأنها قد التقت بالفنان كاظم الساهر، وقد أوضحت له أن الحب كان من طرف وأحد، وبالتالي فإن قصيدة أنا وليلى قد ظلمتها كثيراً، وقد ذكرت أنها لم تترك الشاعر أو تهجره كما صورها في القصيدة بسبب فقره وعسر حاله، فكل ما صنعت أنها اختارت الزواج من الشاب الذي أحبته، وفي حوار صحفي مع بطلة القصيدة المقيمة في إسطنبول في تركيا، نشرته صحيفة عراقية أوضحت بطلة القصيدة أن عشق مرواني لها كان من طرف واحد، وأنه لم يسع أبداً للتواصل معها بشكل مباشر رغم كونهما في مرحلة دراسية واحدة، وقد بينت في حوارها أن المرواني كان شاباً مهذباً جداً وخجولاً، ولم يقترب منها طيلة فترة الدراسة سوى أخر أيام الفصل الأخير عندما اعترف لها بحبه، لكنها اعتذرت منه، وشرحت له حينها أنها تحب زميلاً آخر لها، والذي أصبح زوجها لاحقاً، وقد أبدت استغرابها من خلال الحوار الصحفي، كيف له أن يضمن القصيدة أفكاراً غير واقعية ولم تحدث أبداً وكأنهما كانا على علاقة في الماضي، وقد أوضحت بطلة القصيدة أنها تألمت كثيراً عندما صورتها الأبيات بهذه القسوة والأنانية!
وفي حوار صحفي مع الشاعر حسن المرواني أكد هو الآخر أنه قد التقى محبوبته ليلى بعد أن وجد منها طلب صداقة على حسابه الشخصي في الفيس بوك، وعندما التقاها وجهاً لوجه وجهت له اللوم والعتاب على تصويرها بهذا الشكل، وقد ذكر أن اسمها ليس ليلى، وأن اختار اسم ليلى لأنه رمز الحب والعشق في التراث الأدبي .
وهذا الأمر قد يأخذنا إلى صلب الموضوع، هل الخيال الواسع الذي يتمتع به الشعراء يعطيهم الحق أن يأخذهم إلى تخيل حكايات الحب والعشق بعيداً عن الصورة الحقيقية للواقع؟، هذا الأمر إن صح قد يجعلنا نعيد النظر تجاه حقيقة الحكايات والقصص التي رويت كتفسير لقصائد الشعراء العشاق من أمثال عنترة بن شداد العبسي وقيس بن الملوح وجميل بن معمر والمرقش الأكبر وعمر بن أبي ربيعة والشاعر الأندلسي ابن زيدون وغيرهم، فربما يكون الخيال الجامح يتصور أحداثاً لم تحصل البتة، وربما يكون لهيب الحب قد اشتعل لدى طرف واحد فقط، وهذا اللهيب المتوقد قد أوقد جمرات الإبداع الفني في نفس الشاعر فقال تلك القصائد الخالدة رغم بعدها عن حقيقة الواقع، تماماً كما أكدت بطلة أنا وليلى، ولكن هذا الأمر لا يهم عشاق وقراء الإبداع الفني، فلولا هذا الخيال الجامح والتخيل الكاذب لما كانت هذه الروائع الخالدات، ففي عالم الإبداع يعد هذا التجاوز حقاً مشروعاً لدى المبدع ما دام أنه يلقي في أنفسنا الروعة والألق والإحساس بالجمال، ويحيي في نفوسنا مشاعر الإنسان الفطري، وينمي لدينا حاسة الذوق الأدبي في ذاكرتنا الأدبية، وقديماً قالت العرب: أجمل الشعر أكذبه.
** **
- عبد الله العولقي
@albakry1814