في مناسبة أدبية؛ دخلت في حوار حول الوضع الثقافي في إحدى مناطق الوطن، مع شابة تنتمي إلى تلك المنطقة، وتهتم بالشأن الثقافي فيها، أو هكذا ظننتها أنا على الأقل، فتطرقتُ إلى أنشطة «المقاهي» فبادرتني قائلة بامتعاض: أفضل أن أسميها «الشريك الأدبي»!
بدا واضحاً أنها أخذت استعمالي مصطلح «المقهى» على محمل الاستنقاص والسخرية، ولا أشك في أن كثيرين سيعتقدون هذا، وكنت سأصوب فهمها لولا أن حساب الحقل لم يتطابق مع حساب البيدر.
المهم؛ من المعلوم أن «الشريك الأدبي» برنامج ثقافي معتمد ضمن مبادرات فاعلة ومؤثرة لهيئة الأدب والنشر والترجمة، يسعى إلى تعزيز الحراك الأدبي في المقاهي السعودية من خلال إقامة الأنشطة الأدبية المتنوعة فيها بشكل مستدام، وفق معايير تنافسية، وحزمات دعم لوجستي وتسويقي، ولا شك أن هذا هدف ثمين؛ يوجِد رابطة ثقافية شمولية تعزز قيمة الأدب في المجتمع، وتوطد العلاقة بين الفرد والكتاب كما هي مستهدفات البرنامج؛ على أن ثمة تأملات مصطلحية ثم تنظيمية ستكرس، فيما أرى، شخصية المقهى الأدبي كما لها أن تكون.
أما عن المصطلح فيتناول اسم البرنامج الذي يضبّب شخصية المقهى الثقافية بإلباسه صفة الشريك، وهذا مدعاة للتساؤل؛ فلطالما كان للمقهى وجود ثقافي وأدبي مستقل وفاعل؛ الأمر الذي خلّد أسماء الكثير من المقاهي المحلية والعربية والعالمية.
إن التتبع التاريخي لنشأة المقاهي الثقافية يعود بها إلى زمن العثمانيين؛ حيث عُرفت المقاهي أحيانًا بصفتها الثقافية فأُطلق عليها «القَرْأة خان» أي مكان قراءة الكتب والصحف، ثم شهدت الظاهرة تكريسًا في المدن الأوروبية الكبرى، واشتهرت بروادها من كبار الأدباء والمفكرين الذين أنتجت حواراتهم مدارس وتيارات ذائعة، فكان المقهى معتزَلًا كتابيًا يوفر أجواء محفزة، وهذا جعل طائلة المقاهي الثقافية تجلل الأحياء التي تكثر فيها بسمعة مميزة وحضور ممتد، وللمثال فميدان سان ميشيل في الحي اللاتيني بباريس عرف بصبغته الثقافية المستمدة من مقاهيه مما أدخله بجدارة إلى الخريطة السياحية للمدينة التي تحافظ على مركزها المتقدم ضمن المدن الأكثر رواجًا.
في العالم العربي تعددت المقاهي الأدبية المعروفة بروادها ذوي الأسماء اللامعة؛ وللمثال فمقهى ريش القاهري الذي أسس عام 1908م كان له قوانين خاصة ومحاذير تراعي صفته الثقافية، وتجسد إلهام المكان وخصوصيته النشطة في بعض الإبداعات الصادرة عنه كديوان «بروتوكولات حكماء ريش» لنجيب سرور (1932-1978) ومنه انطلقت مجلات ثقافية مهمة، وعنه استلهم نجيب محفوظ أجواء روايته الشهيرة «الكرنك» وغير هذا كثير مما سجلته «ميسون صقر» في كتابها « مقهى ريش؛ عين على مصر» حيث تناولت تاريخ المقهى بوصفه إحدى نقاط السحر والتأثير في وسط المدينة.
إن الحديث يطول حول عراقة المقهى الثقافي، وليست غاية المقال حصر معالمها، وإنما إثبات الاستحقاق المعلن لاسم «المقهى الأدبي أو الثقافي» دون تلبيسه بصفة الشريك الأدبي، فالمفترض أنه يمتلك استقلاليته التي يعتد بها، ويستهدف البرنامج تنشيطها وإعادة زخمها، وهذا لا ينفي بأي حال الصفة الإشرافية لهيئة الأدب والنشر والترجمة.
أما عن التنظيم؛ فمعلوم أن للمقهى غايته الاستثمارية، وله بيئته الطبيعية التي لا تكون إلا بالتحلق حول طاولاته، وتقبّل مقاطعة الحديث بمقدم خدمة يسجل الطلبات، ثم يقدمها، ويرفع الأطباق، وثمة قائم هنا وقاعد هناك؛ ناهيك عن الأصوات المعتادة لمكائن الطحن والخلط وسواها، ووسط هذه الفوضى الخلّاقة يفترض أن يجري الحوار بانسيابية وتعددية أصوات تكفل جذب الناشئين المرتقين في السلم الأدبي، والمثقفين الذين يتطلعون إلى الالتقاء بأندادهم فكرًا لإجراء نقاش متكافئ، وليس للتعلم أو التلقي، وهذا كله لا يوائم النمط المتحفظ الذي تحتمه استضافة الناقد أو الشاعر أو الروائي الكبير، والحق أن ما نراه من تفريغ مكان خاص، أو وضع منصة للمتحدث، ومدير فعالية يقدمه، ومقاعد متحلقة حوله أو حتى مدرج خاص بالجمهور؛ كل هذا شكل مصطنع لا يمثل بيئة المقهى الكلاسيكية على الإطلاق، بل هو استنساخ لأجواء الندوات والملتقيات التي لن تعدم مكانها الطبيعي في المؤسسات الأكاديمية والثقافية الرصينة والمختصة.
إن أفكارًا تنظيمية كثيرة يمكن أن تفعَل دور المقهى في خلق جيل ثقافي ينطلق منه ويرتبط اسمه به، وعلى سبيل النمذجة؛ يمكن إنشاء بوابة إلكترونية يتاح فيها التسجيل للمجموعات الراغبة في طرح موضوع وعرضه للنقاش، أو تكوين لجنة إشرافية في كل مقهى على أن تكون من المثقفين الناشئين والشباب مهمتها جذب الطاقات الفكرية المتكونة، وإيجاد بيئة محفزة لتداعي الحوارات الثقافية، أو عرض عمل إبداعي يتلمس طريقه، وإتاحته ل مساحات التلقي؛ وهذا لا ينفي، بالطبع، الزخم الكبير الذي سيمثله حضور ذوي الخبرة؛ طالما كان ذلك بمبادرة منهم، ورغبة محضة في استلهام أجواء المقهى والناس، أو مشاركة نقاش مُثرٍ حول طاولة مقهى عادية.
** **
أ.د. هيلة عبدالله العسّاف - أستاذ الأدب والنقد الحديث بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن.