الصورة الذهنية عن العسكرية فيها شيء من الغلظة، والصرامة و... إلا أن هناك عساكر كسروا هذه الصورة المعلقة في الأذهان. كسروها بشعرهم العذب، وكتاباتهم الرقيقة، ومؤلفاتهم التي أثروا بها الساحتين الأدبية والثقافية، فأصبحوا فيها رموزًا كبيرة، ويأتي على رأس هؤلاء القائد العسكري، والشاعر الكبير: أبو فراس الحمداني أحد كبار القادة العسكريين في الدولة الحمدانية، وأحد كبار الشعراء في العصر العباسي، ورغم وجود المتنبي بلحمه وشحمه معه في قصر سيف الدولة، إلا أنه تمكن أن يأخذ مكانته الشعرية من فم ( المتنبي!) وانقسم النقاد واللغويون في القصر بين الشاعرين، فكان ابن خالوّيه وجماعة من أنصار أبي فراس، وابن جنيّ وجماعة من أنصار المتنبي.
أبو فراس الحمداني هذا القائد العسكري له ديوان فيه قصائد هي من عيون الشعر العربي، ولاسيما قصائده التي نظمها بعد أن وقع في إحدى المعارك أسيرًا عند الروم ولم يخرج من الأسر إلا بعد ثلاث سنوات!
وكانت قصيدته الشهيرة: (أراك عصي الدمع) نفثة مصدور وأنَّة محزون، سكب فيها مكنونات فارس خذله أقرب الناس إليه! وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث وجدنا في مطلعه قائدًا عسكريًّا كبيرًا، هو الذي أعاد إلى الشعر العربي حياته، فضَخَّ فيه الدماء من جديد، بعد أن كان طريحًا على الفراش ينتظر الموت من قرون طويلة، هذا القائد العسكري هو: الشاعر الكبير محمود سامي البارودي الذي قاد مدرسة إحياء الشعر العربي، وقاد قبلها الجيش لمحاربة المستعمر الإنجليزي، فنفاه الإنجليز إلى سيرلانكا، وهناك نفع الله به، فأخذ يقيم الدروس والمحاضرات لتعليم أهل سيريلانكا اللغة العربية وشعائر الإسلام، وهناك نظم قصائد تقطر عذوبةً ورقةً، سكب فيها عبراته وآلامه وحنينه إلى أهله ووطنه.
وجاء بعد البارودي شاعر من كبار شعراء العصر الحديث، دخل الكلية الحربية وتخرج فيها، وعمل فترةً ليست بالطويلة في العسكرية هو: شاعر النيل: حافظ إبراهيم، فقد كان ضابطًا في الجيش المصري، ولكن الإنجليز
أخرجوه بسرعة من الجيش بعد أن شكَّوا في ولائه لهم.
وإذا انتقلنا إلى العسكر السعوديين الذين أبدعوا في الشعر والأدب فإننا نذكر ابن مكة اللواء الشاعر: علي عابدين زين العابدين الذي كان أول مدير لكلية الملك عبد العزيز الحربية، وتولَّى بعدها عددًا من المناصب العسكرية العليا، إلى أن أصبح ملحقًا عسكريًّا في باريس. هذا الشاعر العسكري المرهف الأحاسيس، شاعر مطبوع يرسل نفسه على سجيتها، لا يتعمق ولا يتكلف، ذو عاطفة أبوية حانية، ولذلك خص ابنته بديوان كامل، أسماه باسمها (هديل) كما خص زوجته وأولاده بديوان كامل من ضمن دواوينه الخمسة.
وإن تحدثنا عن العساكر الأدباء فلا يمكن أن ننسى الفريق لأديب: يحيى المعلمي -رحمه الله- الذي حقق نجاحات كبيرة في العسكرية، وحقق نجاحات أكبر في الشعر والأدب، فقد صال وجال في سماء الأدب واللغة حتى أصبح من كبار سدنتها، ألَّف المعلمي -رحمه الله-أكثر من ثلاثين كتابًا في الدفاع عن اللغة العربية، بل إنه دخل في معارك مع كبار الأدباء دفاعًا عن الفصحى، واضطر أن ينازل كبار الأدباء أمثال الشيخ : عبدالله بن خميس- رحمه الله-الذي كان من أنصار الشعر الشعبي، ودارت معارك طاحنة في الصحافة بين الأديبين الكبيرين واستمرت فترةً طويلة أثرت الساحتين الأدبية والثقافية، ولكن تلاميذ الشيخ عبدالله بن خميس وأنصاره الذين دخلوا في هذه المعارك خرجوا عن الموضوع الرئيس، وخرجوا عن آداب الحوار، عندما همزوا الفريق المعلمي ولمزوه في أصله بقولهم: (إنه دخيل على البلاد، ومستورد) وعندها خرج المعلمي من هذه المعركة، بعد أن رد عليهم بمقالة بيَّن فيها أنه ابن هذه البلاد أبًا عن جد، ويُحسب للمعلمي -رحمه الله-أنَّه رفع نفسه عن هذه المنزلقات التي خرجت عن الأدب والأخلاق، ولم ينجر في هذه المعركة ولا في غيرها إلى الخروج عن الموضوع الأصلي وهو: الدفاع عن الفصحى، هذا الفريق الأديب أصبح عضوًا فاعلاً في مجمع اللغة العربية بالقاهرة، بعد أن رشَّحه كبار علماء اللغة العربية في ذلك الوقت.
ومن الأدباء العساكر الذين دخلوا عالم الأدب بشكل إبداعي لطيف، الصديق اللواء الطيار : عبدالله السعدون، العسكري الذي أصبح له مقالة ثابتة في جريدة الرياض، وله كتاب جميل عنونه بـ: عِشتُ سعيدًا من الدراجة إلى الطائرة، هذا الكتاب حقق انتشارًا واسعًا، وقبولًا كبيرًا عند القراء، لدرجة أن الدكتور عبدالعزيز الخويطر-رحمه الله- عندما قرأ الكتاب ردَّ عليه ردًا جميلاً بكتاب: هنيئًا لك السعادة.
وكتاب عشتُ سعيدًا، هو: سيرة ذاتية لقائد كلية الملك فيصل الجوية الذي كان في يومٍ من الأيام طفلًا يتيمًا يذهب إلى مدرسته حافيًا, واللواء السعدون في كتابه هذا يسرد سيرته سردًا أدبيًا رائعًا، وينثر فيها تجاربه وخبراته وعواطفه وآلامه وأفراحه بأسلوب غير متكلف، وعذوبة تنساب إلى روح القارئ، فيجد اللذة والمتعة والفائدة من حياة المؤلف التي عاشها معه، فأصبح الاثنان سعيدين الكاتب والقارئ.
وأختم هذه المقالة بصديق الطفولة العميد الطيار:
سعد عبيد الشهراني، الذي درستُ معه في المرحلة الابتدائية، وتنافسنا سويًا في حب اللغة، وبعد أن التحق بالعسكرية، ظننت أنَّ العسكرية أخذته من اللغة والأدب، فإذا هو يكتب في الإعلام الجديد كتابات في غاية الرِّقة والعذوبة، وامتاز بكتابة المقالات القصيرة، والخواطر الذاتية التي تتبختر جمالاً، وتذوب رِقَّة، وتفوح عبيرًا، لدرجة أن القارئ لهذه الخواطر، يسأل نفسه متعجبًا: أيعقل أن يكتب عسكريٌّ مثل هذه الخواطر التي من حلاوتها
تذوب في وجدان كل من قرأها؟
** **
- راشد بن محمد الشعلان