هذه قراءة في قصة «قبلة مؤلمة» للروائي والقاص السعودي حامد الشريف، منشورة في كتاب «مئة قصة قصيرة من السعودية» الذي أشرف على جمعه وتنسيقه ونشره القاص والروائي السعودي أ. خالد اليوسف وسبق نشرها في صحيفة الجزيرة السعودية.
الملخص:
النص بكامله يجري على لسان طفلة تحب زيارة حديقة الحيوانات، كانت تمر من أمام تلك الحديقة مع أمها كل يوم في طريقهما الى البيت، وكلما شاهدت الأطفال يصطفون لدخول الحديقة كانت تحلم بمشاركتهم، ولكن أمها تسحبها. في أحد الأيام حققت أمها هذا الحلم. في الحديقة، تسللت من يدها و ذهبت لرؤية الأسد وتسلقت الى أعلى الحاجز الحديدي لتراه بوضوح أكثر، كان الأسد يستمتع بأكل اللحم الطري، وبعد أن انتهى من أكله نظر إليها واتجه نحوها، فصرخت من الخوف وسقطت من فوق الحاجز. حملها رجل (مواصفات يهودي بلباسه) ضمها الى صدره وقبلها على خدها وأعطاها قطعة حلوى فهدأت وسكتت. جاءت أمها وشدتها بقوة من يده، لم تنظر إليه ولم تشكره وأدارت ظهرها. وبعد أن كبرت، صارت تشعر بأن «مكان القبلة يؤلمها كثيراً» «كلما حدثت مجزرة على يد الصهاينة».
تحليل النص:
أعجبني النص لعدة أسباب منها: بساطة خطة الكتابة، الصيغة التي اختارها الكاتب، بساطة الحدث مع خطورته وأهميته ودلالاته العميقة، واحتواء النص على غاية مهمة، وعلى عناصر جمالية لافتة في هذه المساحة الصغيرة.
خطة البناء بسيطة، تبدو مباشرة ولكنها من ذلك النوع الموصوف بـ» السهل الممتنع» أو المحمل بالدلالات التاريخية والاجتماعية والنفسية والسياسية العميقة. النهاية تشعرنا بأن الطفلة التي كبرت قد عرفت أسباب موقف والدتها واقتنعت به لدرجة أنها في كل مرة تسمع أخبار ما يحدث في فلسطين تشعر بالألم في مكان القبلة التي تركها الصهيوني على خدها.
استخدام الكاتب لصيغة ضمير المتكلم قد خدم النص وأخذه إلى أبعاد جميلة، رغم انه على لسان طفلة صغيرة ولكنه كان منطقياً فهو لم يبالغ ولم ينطق الطفلة بلسان الوعظ أو الحكمة والمعرفة والفلسفة، فكان النص طبيعياً في أحداثه وصوره بلا تكلف، وحين أنهاه على لسان الفتاة وقد كبرت في العمر، كان كذلك منطقياً وطبيعياً أيضاً، وهذا عادة ما يحدث لكل البشر حين يستعيدون بعض ذكريات طفولتهم.
العنصر الرئيسي هو الحدث المتمثل في خوف الطفلة من الأسد وقيام شخص من بين الحضور بتهدئة الطفلة، التي ليس لديها خبرة ومعرفة بالناس والحياة ويبدو أنها شعرت بالامتنان في داخلها لما قام به الرجل، ولكن أمها التي خبرت الحياة وعاشتها وعرفت الناس والنوايا الخفية لم تتصرف كما كانت تتمنى الطفلة في حينه ببراءتها، ولكن حين كبرت الطفلة وشافت وعاشت وخبرت الحياة عرفت لماذا تصرفت والدتها بتلك الطريقة في ذلك اليوم، ويبدو أنها سارت هي على خطى أمها. هذا الحدث يحمل في طياته موقفا سياسيا وأخلاقيا وإنسانيا صريحا من الحركة الصهيونية…
غايات النص يفترض أن تأخذنا إلى أمور مهمة ، منها العناصر الجمالية فيه، قال من سبقونا وقلنا ونكرر بأن المواضيع على «قارعة الطريق»، وأن الأهم والأخطر هو البناء الجمالي للنص، سواء كان شعراً أو نثراُ، وكذلك غايات النص (الغرض من كتابته). أحد العناصر الجمالية هو أن الكاتب اعتمد أسلوب التلميح مبتعداً عن التصريح، وهذا أعطى النص جمالية وميزة، دعونا نستل بعض الأمثلة لتوضيح المقصود:
مثلاً حين نقرأ:»بينما تعاني أمي كثيراً للتخلص من إلحاحي وبكائي، وركلي لها بقدمي ومحاولتي التملص من قبضتها عندما نتجاوزها في طريقنا للمنزل»، هذا المقطع لابد وأن يترك سؤالاً في ذهن القارئ: لماذا تتصرف الأم بهذه الطريقة؟
يأتي الجواب: ربما أن ضيق الحال، الفقر هو السبب، كأحد الاحتمالات، ضعف الحال الى الحد الذي لا تستطيع معه شراء تذكرة لطفلتها لتزور حديقة الحيوانات.
ومثال آخر حين وصف/صور الرجل في الحديقة دون أن يذكر جنسيته أو دينه أو لغته، ولكن اكتفى بتصويره أو وصفه :»ما زلت أذكر قبعته السوداء، وضفائره شديدة السواد التي انسابت على أكتافه كان يرتدي معطفاً لونه أسود…»، من الوصف نعرف بأنه يهودي لأن هذه هي الصورة النمطية التاريخية لليهود أينما كانوا.
مثال ثالث، صورة الأسد:»كان وقتها - فيما يبدو - يتناول فيه غداءه، ينهش لحماً طرياً وضع أمامه، ينشب أنيابه فيه بشراسة قبل أن يرفع رأسه ويبتسم. وعند فراغه، باغتني بالاتجاه نحوي فلم أتمالك نفسي، تعالت صرخاتي..»، هذه صورة سوف نعرف دلالاتها فيما سيأتي من القصة لنعرف بأن المقصود ليس الأسد فقط بل هو شخص آخر يبدو إنسانياً في ظاهر تصرفه ولطافته وهو على العكس من ذلك في حقيقته...
وكذلك في نهاية القصة نقرأ:»الآن وقد كبرت، أصبح موضع قبلته يؤلمني كثيراً ..» الجميل هنا بأنها لم تقل بأنني فهمت لماذا تصرفت أمي معه بتلك الطريقة.
النص لعب بذكاء على نقطة التنوير، نعم نهاية النص ساعدت على إضاءة المقصود من كل القصة والحدث، وشجعت القارئ على إعادة قراءة النص والتركيز على مفرداته ودلالات المفردات والصور المرسومة (الأسد وهو يفترس اللحم الطري) النهاية كانت صريحة ومربوطة بالألم في مكان القبلة، وكشفت لماذا لم تشكر الأم ذلك الشخص ولم تعره أي إهتمام، لأنه صهيوني، والصهاينة يحتلون أرضاً عربية ويقتلون الأطفال والنساء والشيوخ بكل إجرام ووحشية، ولهذا فهم ليسوا أهلاً للثقة والاحترام .. نص يغوص في عمق الإشكالية التاريخية والنفسية والإجتماعية والسياسية للتاريخ العربي الحديث بكل إمتياز.
أكد لي هذا النص عدة أمور منها:
• خطورة وأهمية القصة القصيرة حيث أنها تستطيع طرح قضايا «مصيرية» مهمة في مساحة محدودة مع قدرتها على الإحتفاظ بجماليات السرد وأصوله، وكأنها تستجيب لمتطلبات العصر المتميز بسرعته.
• قد يعترض بعضهم بأن النص عمم الصورة على اليهود كصهاينة، وهذا غير صحيح لأن هناك فرقا بين اليهودي والصهيوني، اليهودية دين سماوي، والصهيونية مشروع عنصري استعماري..، حتى إن طائفة من اليهود يرفضون المشروع الصهيوني وينددون به ليل نهار. يمكننا أن نتفهم هذا الاعتراض، ولكن لباس اليهودي والصهيوني وكذلك طقوسهم هي نفس الطقوس. والنص هنا يعالج مشكلة حضارية، ومن خلال روح النص نستطيع أن ندرك بأن المقصود هم الصهاينة.
• حين يولد النص بعيداً عن المؤثرات المباشرة تكون لديه مساحة للهدوء والتأمل بعيداً عن الإنفعال. رغم أن المواجهات كثيرة على أرض فلسطين وكلها تتشابه بشكل أو بآخر، ولكن من يقرأ النص الآن يشعر بأنه يتحدث عن اللحظة الحاضرة وما يحدث على أرض غزة هذه الأيام رغم أنه كتب قبل عدة سنوات.
• المواقف التربوية تتخذ بالمثال، الطفل يرصد تصرف والديه وقد لا يفهم أسباب الموقف في حينه، بل قد يعارضه ويعتبره تصرفاً أرعن أو غير مناسب لأن موقف الرجل في ظاهره كان موقفاً «إنسانياً» ولكن من هو أكبر منه في العمر والتجربة كان يرى التاريخ بعمقه النفسي والاجتماعي والسياسي والإنساني بشكل أوضح (الأم).
• النهاية كانت قوية لأنها جمعت كل إشارات النص، واسترجعت تاريخاً طويلاً من الصراع والمرارة والبشاعة بين العرب والصهاينة .. بكل بساطة وهدوء وسلاسة ولكنها حادة كنصل سكين، والأجمل في كل ذلك أن النهاية لم تحدد أرضاً عربية واحدة أو شعبا واحدا، بل قالت: «.. بعد كل مجزرة من المجازر التي يرتكبها الصهاينة بحقنا»، وكلمة «بحقنا» في هذه النهاية أعطت النص بعده القومي والوطني والإنساني دون تعسف أو جور.
• كيف أن النص الجميل، يضع القارئ في حسابه، ولهذا يتيح له منصة يقف عليها القارئ ويجول بذهنه وبصره ويشارك في إعادة بناء النص من خلال الحذف والإضافة (الذهنية طبعاً)، مثال على ذلك: « .. يتناول غذاءه، ينهش لحماً طرياً وضع أمامه، ينشب أنيابه فيه بشراسة قبل أن يرفع رأسه ويبتسم». مثل هذا المنظر لن يكتمل بدون صورة الدم وهو يغطي فم الأسد ويسيل على شفتيه ويغطي يديه ويصبغ وجه الأرض التي وضعت عليها قطع اللحم الطري ..
• تعلمنا التمييز بين «الخبر» وبين «السرد» ومدى خطورة هذا التمييز. قد يقول الخبر بأن «قنبلة تزن عشرة أطنان ألقيت على حي من الأحياء ..» ويكتفي بذلك، ولكن على القارئ النبيه أن يتخيل بأن هذه القنبلة سقطت على منازل، المنازل يعيش بداخلها بشر من الرضع والأطفال والنساء والشيوخ ..، ويتخيل كيف تتقطع الأجساد وتتفحم، وكيف تصرخ الضحايا تحت الأنقاض .. وهذه الصور هي التي تسكن عقل القاريء وتؤثر فيه عاطفياً ووجدانياً.. وهذا هو دور السرد، التأثير في عاطفة وعقل القارئ ودفعه للمشاركة في إعادة بناء النص.
** **
- عيد عبدالله الناصر