تقاطيع الإسبريسو
يحكى أن شاعراً سودانياً أصيب بجنون آخر عمره، وأراد أهله معالجته بالخارج، وفي المطار التقت عينه بامرأة راقت له برفقه زوجها فأطال النظر إليها، والزوج يحاول أن يمنعه فأنشد:
أعلى الجمال تغار منّا
ماذا علينا إذا نظرنا
هي نظرة تنسي الوقار
وتسعد القلب المعنّى
سمعها العقاد فسأل عن قائلها، فقالوا: إنه شاعر سوداني اسمه إدريس جماع، وهو الآن في مستشفى المجانين، قال: «هذا مكانه الطبيعي، لأن هذا الكلام لا يستطيعه ذو الفكر». تذكرت هذه القصة، وأنا أقرأ «طوق الحمامة» لابن حزم، فالأسلوب والجمال، والحس المرهف في هذا الكتاب لا يكتبه إلا كاتب عاش في الأندلس بكل تناقضاتها وعجائبها التي لا تنتهي.
البداية كانت رغبة من صديق لابن حزم في الكتابة عن «الحب» فأطلق ذلك نار الذكريات عنده في ظروف الفتنة والشدة التي عاشتها الأندلس، وكأنه وجد في الأمر فرصة للهروب من واقع سيء، والعودة بنفسه إلى ذكريات وآهات قديمة، فترك العنان لقلمه ليكتب في ثلاثين باباً عن الحب أولها «علامات الحب»، وآخرها «التعفف» بأسلوب سلس يبدأه بعرض الفكرة، ويدلل عليه بقصص واقعية، ويجمّل النص بخواطر شعرية تعبّر عن ذات مرهفة، تؤكد أنه حتى الفقهاء «يعشقون»!.
يستخرج لنا خمس عشرة علامة يعتبرها من علامات الحب، أولها إدمان النظر، والإقبال بالحديث، والسير نحو المكان الذي يكون فيه الحبيب، وغيرها مثل السهر والجزع الشديد، والبكاء، وسوء الظن، وآخرها مراعاة المحب لمحبوبه. من العلامات التي تستحق الوقوف عندها ما أشار إليه بـ «العلامات المتضادة»، حيث يشير إلى أن المحبين إذا تأكدت بينهما المحبة «كثر شجارهما بغير معنى»، وفي ذلك يقول نزار معنى شبيهاً عن الحب:
هو أن نثور على أي شيء تافه
هو يأسنا هو شكّنا القتّال
ومن علامات المحب أنك تراه يحب محبوبه حتى على حساب نفسه، في حالة خطيرة تشبه «حالة الفناء الصوفي». يذكر قصة أبو عبدالله بن كليب من القيروان، والذي كان يحب محبوباً لا يبادله الشعور نفسه، فعلى الرغم من حبه الشديد لمحبوبه، إلا أنه يفضل ألا يراه حتى لا يكون سبباً في تكدير خاطر محبوبه، وأعتقد أن هذه حالة مرضية يستحق صاحبها العلاج، فلست بحاجة لهذا الحب المُذل.
ومن ضمن ما تحدث به «باب القنوع» وهو المحب القانع بأقل القليل من حبيبه، حتى لو وصل الأمر إلى أن يعده بلقاء كاذب، فانتظار اللقاء بحد ذاته متعة، يقول في ذلك:
إن كان وصلك ليس فيه مطمع
والقرب ممنوع فعدني واكذب.
فعسى التعلل بالتقائك ممسك
لحياة قلب الصدود معذب
وقلت لحظتها: ...
لا تكن صادقاً في الحب إن كان حبك كاذبا
اكذب وزد عليه حتى يكون حبك صادقا
فالكذب في الحب دليل صدقه
والصدق قد ينهي محباً عاشقا
دعني أسمع ما أريد واشجني
واكذب حتى ولو كنت للأكاذيب سارقا
أخيراً ...
عبارات ابن حزم... تقاطيع شعرية جميلة على طريقة قهوة الإسبريسو...
تضرب في الرأس من أول رشفة...
ما بعد أخيراً...
لا تستعجل البقية في المقال القادم.
** **
- خالد الذييب