صدرت الموسوعة الفرنسية «الشرق الأوسط نحو إعادة هيكلة» عن دار نشر هارمتان في 2020 وتضم بين دفتيها خمسة أجزاء. تقع هذه الموسوعة في حوالي2500 صفحة وتتناول بالتحليل الرصين المواقف التي تتبناها جميع دول الشرق الأوسط كل على حدة، وتستعرض المشهد الجيوسياسي لكل دول المنطقة وتأثير التحولات الجيوسياسية على هذه البقعة التي تقع على صفيح ساخن من عالمنا المعاصر.
ولأن منطقة الشرق الأوسط تتميز بوجودها وسط عالَم معبأ بقضاياه السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولأن دول هذه المنطقة تطل على البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود وبحر قزوين والبحر الأحمر وبحر العرب، ولأن هذه منطقة أصبحت محل تنافس على الهيمنة والنفوذ بين القوى الدولية والاقليمية، فإن الشرق الأوسط مُعرّض لا محالة لحروب إقليمية وصراعات دموية واضطرابات داخلية.
أما عن مؤلف موسوعة « الشرق الأوسط نحو إعادة هيكلة « الكاتب والصحفي جيرار فيلو Gérard Fellous، فهو خبير في الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي والمجلس الأوروبي لحقوق الإنسان والمنظمة الدولية للناطقين باللغة الفرنسية، وأمين عام اللجنة الوطنية الاستشارية لحقوق الإنسان CNCDH بين عام1986 وعام 2007.
يستعرض الجزء الأول من هذه الموسوعة المواجهة الشيعيّة السنيّة والبترول والانتفاضات الشعبية (436 صفحة)، ومن خلاله يؤكد مؤلِّف هذه الموسوعة جيرار فيلو على أن منبع الصدامات السياسية والعسكرية التي مزَّقت الشرق الأوسط منذ منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين يكاد ينحصر في الصراعات الدينية بين المتطرفين من التيارين الإسلاميين: السنة والشيعة. إن الأزمات المتعددة التي ضربت ولا تزال منطقة الشرق الأوسط تمكِّن المحلّل السياسي من طرح تفسير منطقي لصحة تساؤل صامويل هنتنجتون: هل يمكن جرّ العالم إلى حرب أديان؟ يجيب مؤلِّف هذه الموسوعة بنعم، حيث ان المتطرفين من كلا التيارين في منطقة الشرق الأوسط يهدفون إلى إثارة حرب عالمية ثالثة باسم الحرب المقدسة، الأمر الذي يتطلب تشكيل تحالف عسكري من الدول الغربية والدول العربية الإسلامية المعتدلة لمواجهة هؤلاء المتطرفين. ووفقا لنظرية صامويل هنتنجتون عن صراع الحضارات، فإن أطروحته تقول إن العالم يتجه نحو التجزئة بدلا من الوحدة ونحو الانقسامات والتنافسات بدلا من العيش في سلام: فإذا كان القرن التاسع عشر قد اتّسم بصراعات الدول القومية واتّسم القرن العشرين بصراع الأيديولوجيات، فإن القرن الحادي والعشرين سيشهد صراع الحضارات لأن الحدود بين الثقافات والأديان والأجناس أصبحت تشبه خطوط الصدع والانكسارات.
يتناول الجزء الثاني الأدوار التي تلعبها ثلاث قوى إقليمية ووقوفها في مواجهة بعضها بعضا: السعودية وإيران وتركيا (528 صفحة). جدير بالذكر أن الشرق الأوسط يدخل بقوة إلى عالم جيوسياسي جديد منذ بداية القرن الحادي والعشرين مع تنافس هذه القوى الإقليمية على الهيمنة والقيادة: فإيران الشيعيّة تُحقِّق قفزة نووية كبيرة، والمملكة العربية السعودية تشهد نموا اقتصاديا متصاعدا وغير مسبوق تحافظ من خلاله على ريادتها للعالم السُنيّ، وتركيا الممزقة بين أوروبا وحلف شمال الأطلسي وروسيا تطمح إلى استعادة مجد الإمبراطورية العثمانية.
أما الجزء الثالث من هذه الموسوعة، فيتطرق الى مثلث الدول الغربية المتورطة في الشرق الأوسط بشكل أو بآخر: روسيا وأمريكا وأوروبا (318 صفحة). ولأن هذه القوى تتواجد في الشرق الأوسط فعليا، ولأن لكل منها طموحاتها الخاصة، ولأن هذه القوى الأجنبية غير قادرة على فرض القانون الدولي الذي لا يزال يُنتهك بسبب الصراعات الاقليمية، فقد أصبح من الضروري والعاجل أن تقوم الأمم المتحدة بالاضطلاع بمسؤولياتها والقيام بإصلاحات داخلية عميقة ومنطقية حتى تتمكن من فرض حلول سياسية في منطقة الشرق الأوسط تحول دون ديمومة هذه الصراعات.
الجزء الرابع من هذه الموسوعة يتطرق الى القضية السورية والصراع غير المتناسق والمدمر بين أبناء الشعب الواحد (654 صفحة)، حيث تقدم سوريا نموذجا جيوسياسيا يسمح بإعادة هيكلة الشرق الأوسط بأكمله، حيث سقطت سوريا ضحية لنظام تدعمه روسيا التي تحاول أن ترسِّخ وجودها في البحر الأبيض المتوسط على أمل استعادة القوة المفقودة للاتحاد السوفييتي أو الحلم التَّوسُّعي للإمبراطورة كاترين الثانية، كما أن سوريا سقطت أيضا ضحية لكل من الأصولية الطوباوية وإيران الثيوقراطية.
أخيرا جاء الجزء الخامس ليناقش أوضاع المنطقة برمتها من العراق إلى ليبيا وأسباب انعدام الاستقرار (650 صفحة). ان الفوضى العنيفة الهائلة التي عمَّت بعض أجزاء من منطقة الشرق الأوسط أدخلت المنطقة بأكملها في أزمات جيوسياسية يمكن لنا أن نصفها بالخطيرة. ولأن تدمير العراق كان له دور كبير في تعميق الانقسامات وتفاقمها، فإن مستقبل منطقة الشرق الأوسط يُنذر بالعودة إلى مرحلة من الصراعات القبلية والعشائرية، الأمر الذي يجعل من الصعب التنبؤ بمستقبل العديد من دول المنطقة.
وبشكل إجمالي، يمكن للقارئ النموذجي أن يجد في هذه الموسوعة حديثا عن صراعات الثلاثين عاما الدامية التي مزقت أوروبا بين عامي 1618 و1648 وعن التشابه التاريخي بين أوروبا والشرق الأوسط الذي لم تتوقف فيه الصراعات الدامية. ولأنه حتى الآن لا يوجد في الشرق الأوسط ما يشير إلى مثيل لمعاهدة ويستفاليا التي سمحت بوضع أسس لقانون عام مُلزم للجميع يحول دون الوقوع في براثن نزاعات دموية لا تنتهي، فإن إعادة قراءة الشرق الأوسط بمراجع تاريخية أوروبية من شأنه أن يقودنا إلى سوء في الفهم. إن النماذج الغربية للتفاهم، المبنية على أساس الثقافة اليونانية اللاتينية أو في ضوء الدول الغربية الديمقراطية لن تتيح لنا فهم الواقع الجيوسياسي لهذه المنطقة الذي يوصف بأنه واقع لشرق أوسط معقّد.
يؤكِّد الموسوعي جيرار فيلو على أن الشرق الأوسط قد دخل مرحلته التاريخية الأخيرة من إعادة الهيكلة بعد حرب الخليج الأولى (1990-1991) وانهيار الاتحاد السوفييتي وإعلان جورج بوش عن نظام عالمي جديد. ووفقا لما ورد في هذه الموسوعة، يذكّرنا المؤلف بابتهاج جورج بوش في الأول من مايو 2003 عندما صرح لوسائل الاعلام العالمية: «لقد تم إنجاز المهمة.» نعم، نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في الإطاحة بصدام حسين، الا أن نجاحها كان بمثابة بداية فشل السياسية الأمريكية خاصة بعد قرار انسحاب الجيش الأميركي من العراق الذي عدَّه الخبراء بمثابة نهاية الوجود الأميركي في المنطقة، الأمر الذي مهّد لإعادة هيكلة الشرق الأوسط.
ولأن العديد من القوى الإقليمية في هذه المنطقة قد استفادت من هذا «الفراغ» ضمن ما يسمى «باللعبة الكبرى» في الشرق الأوسط، فإننا سنقرأ في هذه الموسوعة عن طموح ايران في المنطقة ورغبتها في إنشاء «قوس شيعي» في الشرق الأوسط، يبدأ من طهران ويصل إلى البحر الأبيض المتوسط عبر العراق وسوريا ولبنان. ولهذا لم تتردد إيران في التدخل في العديد من دول الشرق الأوسط بفضل «أذرعها المسلحة» الرئيسية حيث تتمتع إيران الشيعية بنفوذ عميق في العديد من دول الشرق الأوسط (العراق وسوريا واليمن ولبنان).
من خلال هذه الموسوعة، يدرك القارئ أن الهيكلة الأولى للشرق الأوسط بدأت في أعقاب الحرب العالمية الأولى التي دارت رحاها في الفترة من 14 19إلى 18 19، عندما كانت المنطقة بالكامل تقريبا تحت السيطرة العثمانية، كما أن الهيكلة الثانية للمنطقة بدأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية. أما في مطلع القرن الحادي والعشرين، فقد بدأت مرحلة جديدة من إعادة الهيكلة الثالثة من شأنها أن تمثل الصورة الرمزية الأخيرة لمرحلة ما بعد إنهاء الاستعمار. ان هذه الموسوعة تأخذ في الاعتبار الأحداث الجارية التي هزت منطقة الشرق الأوسط خلال العقد الماضي وتسلِّط الضوء على التطورات التي أدت إلى إعادة الهيكلة الجيوسياسية الإقليمية الثالثة والأخيرة.
ختاما: تطرح موسوعة» الشرق الأوسط نحو إعادة هيكلة « عدد من الأسئلة الهامة من بينها: هل الأمم المتحدة قادرة على تحقيق السلام العادل والدائم في هذه المنطقة؟ هل يمكن ضمان التعايش بين مختلف الأقليات المذهبية والعرقية والمناطقية؟ هل يظهر في الأفق القريب نظام للسلام والتعاون مماثل لذلك الذي تم تأسيسه في أوروبا؟ هل يوفر التعاون المشترك بين دول المنطقة حلولا بيئية؟ ما مصير الموارد المائية التي تتصارع حولها كل من مصر/إثيوبيا، تركيا/سوريا/ العراق، إسرائيل وجيرانها على نهر الأردن؟
وبما أن هذه الموسوعة تجيب على العديد من الأسئلة التي تتعلق بخارطة منطقة الشرق الأوسط الجيوسياسي بما تمثله من نقطة التقاء لثلاث قارات، وكما أن كاتبها بهذا الطرح العقلاني والمنطقي يساعد القارئ، الذي يحاول مع الكاتب أن يجد إجابة شافية عن هذه الأسئلة، على التنبؤ بمستقبل لهذه المنطقة المفتوحة على كل الاحتمالات، فهل تستطيع منطقة الشرق الأوسط أن تصمد أمام تحديات مصيرية داخلية وخارجية أم أنها لا تزال تنتظر الشرارة الأولى التي ستُشعل حروبا تلتهم الأخضر واليابس والشجر والحجر.
** **
- د. أيمن منير