في رأْس أبجدية ؛«ألف باء» فهي الصناعة الحيوية و«الحسّاسة على أن الكتابةَ الإبداعيةَ منهجٌ في المقام الأول وآليّة، لأى عملية تواصليّة وتكامل من فعلٍ رئيسٍ هو المؤلِّف بحيث تواكب الجهةُ الناشرة عمله الإبداعي وتطوّره من خلال أحد أهم عناصره هو؛ الكاتبُ الذي يملكُ حقَّ الخيال والجمال بإسهاب فإنّ المحرِّرَ يملكُ التقنيةَ التي تتيح له أنْ يزنَ الخيالَ والجمالَ المسهبيْن بمكيال.. فلا تستوي العمليةُ الكتابيةُ الإبداعية دون «تحرير»، بمنطق المراجعة والصّقل والتشذيب، التصويب والتصحيح، التدقيق وإعادة التدقيق، إعادة الكتابة وإعادة على الإعادة، في نوع من الموازنة والمواءمة التي تقتضي فرض قدرٍ من الانضباط على الكتابة الإبداعية التي تميل بطبيعتها إلى التفلّت» من عمليّة التحرير الأدبي في الأساس إلى فرْض أطُر تقنيّة وتكتيكيّة تجعل العملية الإبداعية،ككلّ، تجربةً تزاوج بين الأفكار في محيط الخيال الهائج والإبحار الحصيف، لغوياً وتعبيرياً وبنائياً، فتحيل الالتماعات السائبة إلى إضاءات موزَّعة بانتظام في بؤر التعبير، إذ تضيء أكثر في المواقع التي تقتضي التوسع والإسهاب بموظات في المساحات التي تستلزم الاختزال والاختصار. إذا كان المؤلِّف أوالكاتب هو شجرة العمل، فإنّ المحرِّر الأدبيّ هو«المقصّ» الذي لا غنى عنه، لقطع ما زاد من الغصون، وما ترهّل؛ وهو قصٌّ مؤلمٌ تارة، يأخذ شكل الجزّ الأفقي والرأسي؛ وقد يكون جراحياً، أشبه باستئصال أورام موضوعية، تماماً كما قد يكون من قبيل التقليم الخفيف الذي يُراد به حفّ الزوائد. الوصف الوظيفي يشكِّل «المحرِّر الأدبي» عنصراً إلزامياً، عاملاً وفاعلاً، في دور النشر العالمية المعنيّة بإنتاج وتسويق المنتج الأدبي. كتوصيف وظيفي، فإنّ مهمّةَ المحرِّر الأدبي تتمثل في تحضير المؤلَّف أو العمل الأدبي وإعداده للنشر، بحيث يعمل المحرِّر مع المؤلِّف، لضمان تقديم صيغة نهائية «مثالية» لعمل يقوم على أرفع المعايير الجمالية والإبداعية والفنية، خالياً من التضاربات والتناقضات، منقَّحاً من الأخطاء النحوية والإملائية والتراكيبية، مجرّداً من الاختلالات البنائية. في الغالب، تبدأ وظيفة المحرِّر الأدبي بعد انتهاء العملية الإبداعية، ليضع قلمه وملاحظاته وتعديلاته واقتراحاته على مسودة الكاتب. على أنه في عديد من دور النشر التي تتعامل مع أسماء إبداعية مكرَّسة، والتي تعاطى مع النشر كصناعة«كُبرى» تتألّف من مراحل إنتاجية، يقوم المحرِّر الأدبي بوظيفته أثناء انشغال الكاتب بعمله، أو بالتزامن معه، فيرافقه أثناء عملية الكتابة، يقرأ الفصول أولاً بأول، مقدِّماً مداخلاته واعتراضاته، ضمن مراجعة نقديّة
«تشريحية» تسعى في المبتدأ على أن يظلّ الكاتب على «الطريق» أوالمضمار التعبيري الذي يستلزم انسجاماً وتكاملاً وتواصلاً واستمرارية في الرؤى والأفكار والتصوّرات. وفي بعض الحالات، قد يرافق المحرِّرُ المؤلَّفَ منذ النواة الأولى للعمل؛ أي الفكرة وتجلّياتها، في تعاون قلّما نجده في صناعة النشر الحالية، ذلك أنه يستدعي التزاماً مطلقاً من المحرِّر للعمل الإبداعي، كما يتطلّب انصياعاً شبه تام من المؤلِّف لآراء محرِّره فوظيفة
«المحرِّر الأدبي» تقتضي مواصفاتٍ مهنيةً وشخصيةً صارمة، بحيث يتعيّن عليه أن يكون قادراً على اتخاذ أحكام نقدية مهنية، بعيداً عن الهوى الشخصي، محيِّداً مشاعره الشخصية إزاء الكاتب، وإزاء العمل نفسه.وبالطبع،فإنّ المقدرةَ على بناء حكمٍ نقدي سليم لا تتأتّى إلا من خلال تمتُّع المحرِّر بثقافة أصيلة ومعرفة متجدِّدة، تراكميّة، وتاريخ ملتزم ومتواصل من القراءات النوعية، يُضاف إلى ذلك الإحاطة بأسس التحرير اللغوي والنحوي وألا يكون المحرر الأدبي ذو أعمال روائية لشخصه لأنه سيفقد المصداقية في الرأي وعرضة للاقتباس أوالنقل بطرق مختلفة وغني عن القول فإن الكثير من الروائيين لا غنى لهم عن محرر أدبي كما كان عميد الأدب دكتور طه حسين محرراً أدبياً للفائز بجائزة نوبل الأستاذ الروائي الشهير نجيب محفوظ..وغيرهم كُثر ولم أضف إلا مقالة أدبية لعبد العزيز الرفاعي في فصل «المقالة» وقصة قصيرة لمحمود تيمور شيخ كتاب القصة العربية، في فصل «القصة»، نعم نحتاج إلى محرّر أدبي لتحسين منتجنا الروائي، هذا ما يقوله أحد المثقفين المخضرمين الذين ضمرت أعينهم بفعل القراءة ولانت عظامهم من فرط الجلوس، ولكن هذا المثقف ليس الوحيد الذي يقول ذلك، ففي عالمنا العربي مقولات مفصلة وجاهزة للاستهلاك في مختلف المناسبات الثقافية؛ لأنها تلقى قبولاً كبيراً في الوسط نفسه، وهي عبارات يرونها صحيحة دائمًا وفي كل سياق، ولا يبدو أن هناك من أخذ على عاتقه مراجعتها، والأمثلة على ذلك كثيرة.منها: «لدينا مشكلة نص ولذلك أفلامنا سيئة»، أو «لدينا إنتاج روائي ضخم!» إلخ.. وكلها عبارات لا تستند إلى ما يدعمها إحصائيًا أو إلى حجج أخرى.. ومن هذه المقولات أيضًا احتياجنا إلى محرر أدبي لإنتاج روايات أكثر جودة. لست هنا أقول بصحة أو خطأ هذه الأفكار، بل أشير إلى تداولها في الوسط الثقافي على أنها مقولات تحمل حجتها معها بالنسبة لقائليها، وكأنها أفكار صحيحة بدهيًّا، لكن إن كنا تعلمنا شيئًا في الاشتغال الثقافي فهو أن الأفكار التي نظنها بدهية هي الأشدّ تعقيدًا، وهي ما يستحق التمحيص والمجادلة.ثم أتساءل مَن المحرر الأدبي؟ كيف يصبح أحدنا محررًا أدبيًّا؟ فيما يخص الجانب الأكاديمي، ليس هناك تخصص أكاديمي تقليدي عنوانه «التحرير الأدبي»، لكن قد توجد برامج أكاديمية بدرجات أقل كالدبلوم أو غيرها، ولكن كل هذا اعتباطي، فبإمكان أي مؤسسة أكاديمية تكوين برنامج أكاديميتنطوي تحته جملة من «الكورسات» أو الموضوعات وينال مجتازوها درجة أكاديمية في التحرير الأدبي. التخصصات الأكاديمية اعتباطية أيضًا، أي: بإمكان أي مؤسسة تكوين برنامج أكاديمي في أي موضوع من موضوعات المعرفة وإطلاق اسم عليه، إذ لا توجد هذه المعارف منفصلةً في الواقع، والسؤال الأهم هو: ما تلك الموضوعات التي يدرسها المتخصص الأكاديمي في التحريرالأدبيّ، والتي تجعله محررًا أدبيًّا كفؤًا ؟ يبدوأن محاولة فهم هوية المحرر الأدبي ودوره وسلطته المعرفية والمهنية من الناحية الأكاديمية غير واردة، وإشكاليّة أيضًا.من الصعب منح استحقاق معرفيّ يثبت كفاءة فردٍ في موضوع مثل التحرير الأدبي، حيث إن مجال اشتغاله هو الحقل الإبداعي الذي لا يمكن حصره أوالقبض عليه. تمامًا مثل النقد الأدبي، ففهم النظريات النقدية المعرفية والإلمام بتاريخ الأفكار غير كافٍ لتقديم قراءة نقدية جيدة لكل رواية، أو لأيّ رواية. كذلك التحرير الأدبي، فمعرفة الحبكة وأنواعها ودورها في الرواية وبقية العناصر الأخرى لا يعني قدرة المحرر وكفاءته في التحرير الأدبي عمليًا. ما يبدو أكثر منطقية لي هو أن ينال المحررالأدبي صفته من خلال المؤسسات الثقافية، وأكثرتلك المؤسسات صلابة في سوق الكتاب العربي وفي هذا الشأن تحديدًا هي دور النشر. وبما أن التحرير مهارة عملية، فالمحرر يكتسب أهمية دوره من خلال الممارسة العملية مع دور النشر، ويكوّن كل محرر رأس ماله الأدبي ودوره من خلال ما أنجزه من تحرير لأعمال أدبية، وهذا ما قد يلتقي فيه محرر سوق الكتاب العربي هذا إن وجد..!! والله ولي التوفيق.
** **
صالح السويِّد - الرياض: (روائي وقارئ)
mr.salih@yahoo.com