«اللغة» ركن مِن أهم أركان هُوية الأُمَّة، وحصن مِن أهم حصونها الثقافية، وهي لُحمة التفاعل بين أهلها، وأساس وحدتهم، وهيَ شعار الأمة، ووعاء فكرها، والصلة بين حاضرها وماضيها، والحفاظ عليها يعني ضمان بقاء المجتمع الذي يستخدمها، وإضعافها هو إضعاف لشخصية الناطقين بها، كما أنَّ الاعتزاز بها ليس اعتزازاً بذات اللغة؛ وإنما هو اعتزاز بالثقافة التي تحتضنها تلك اللغة وبالحضارة التي تُمثّلها.
وإنه كلما كانت اللغة أكثر اتصالاً بثقافة الشعوب كانت أقدر على تشكيل هويتها، بلْ لا يمكن أن تكون هناك خصوصيّة ثقافية لأيّة أُمَّة دون سيادة لغتها القومية، ولا يمكن أن تُحقِّق أُمة تنمية ناجحة بغير لغتها القومية، فـ»اليابان» حقَّقت ذلك بِلُغتها ذات العشرة آلاف مقطع، و»الصين» بِلُغتها ذات الأربعة والأربعين ألف مقطع؛ مما يؤكّد أن الاستقلال الوطني لا يكون من دون سيادة اللغة الوطنية أوْ القومية، وهذه حقائق مُسلَّم بها تاريخياً وعالمياً.
يقول العلماء: إنَّ استمرار اللغة وديمومتها يعتمد على وعي الأمة التي تنتمي إليها، ومدى حرص أهلها على رعايتها وحمايتها ونشرها والعمل على تقدمها. فالعربية ليست بِدعاً من اللغات الإنسانية، فهي تتبادل التأثُّر والتأثير، وهي تَقرِض غيرها وتَقترِض منها، وفقاً لنواميس الكون في التواصل والمثاقفة، ولا بأس من أن يستمر هذا التواصل المعرفي بين الثقافات شريطة أن نُؤثِّث هُويتنا وفْق وعيٍ يُرسِّخ ارتباطنا بجذورنا لنضمن عدم الذوبان في زمن انصهار الهُويّات واختفاء الخصوصيّات القومية والثقافية. فمطالبتنا بأمن لغوي نحفظ فيه وجودنا وكياننا ضرورة تقتضيها السياسة اللغوية التي يجب أن تتجذَّر في تُربتنا العربية، أُسوة بالمكوّنات الحياتية التي توليها الحكومات رعايتها كالغذاء والماء والصناعة، والاستثمار ... فاللغة تتجاوز دور الوسيط المجرَّد لمعارف الأمة وعلومها، إنها نسيج الهوية ولُحمتها. فالشعب يَفتقِر ويُستعبَد، عندما يُسْلَب اللسان، الذي تركه له الأجداد، وعندها يضيع للأبد.
وهناك وشائج قوية بين اللغة والفكْر والحضارة، فلا أُصول للفكر دون اللغة، ولا حياة للأمة بمنأى عن اللغة، فهي هُويتها القومية وعنوان وحدتها، وسِر وجودها وأساس بنائها الحضاري. لذا؛ يؤسفنا ما تُعانيهِ اللغةُ العربية من الإهمال والضعف في الحقبة الأخيرة، وفقدان مواقعها الأمامية في الحراك الاجتماعي والثقافي في سمائنا العربية، بالرغم من أن اللغة تُعدُّ المؤسسة الاجتماعية الأشدّ صموداً في وجه المتغيّرات الحضارية.
وفي إبراز العلاقة بين اللغة والثقافة أفاضَ العلماءُ في التأكيد على أنَّ «العربية» هي أبرز مظاهر الثقافة العربية، وأكثرها تعبيراً وأثراً بوصفها وعاء الوجدان القومي، فلا ثقافة قومية بدون لغة قومية، فالمناطق الثقافية يربطها بعضها إلى بعض الوحدة اللغوية بالدرجة الأولى، فما بينَ اللغة والمجتمع علاقة متبادلة؛ فلا لغة تتحرك بدون مجتمع يتحرك، ولا مجتمع يتحرك بدون لغة حركيّة تماثله وتواكبه، واللغة العربية لهذه الأسباب جميعاً تتصل بعدة ميادين ثقافية هي من أكثر الميادين خطراً وشأناً: ففيها الخصوصية القومية والوحدة السياسية والتراث، والاستمرارية الثقافية وحيوية الفكر العلمي، والإبداع الأدبي. ليس هذا فحسب، بلْ العلاقة عضوية بين كل من الثقافة والمجتمع والمعرفة، ولا يمكن فصل الواحد عن الآخَر دون إحداث اختلال في منظومة الهوية وفي كل عنصر من عناصر هذا التركيب ... فالثقافة تستدعي علماً بها، والمعرفة تقتضي الدراية بمنظومتها وإحكاماً للغتها: كيف تتأسَّس، وكيف تنمو، وكيف يُعبر عنها، وإذا انعطفت هذه على تلك كان عِلْم الثقافة، وكان عِلْم المعرفة، وكان عِلْم اللغة، فإذا باستراتيجية الثقافة هي في جزئها الأكبر استراتيجية للمعرفة وللغة التي بها المعرفة.
وفي كتابهِ «الهويّة العربية والأمن اللغوي» يُطلِق الدكتور «عبد السلام المسدّي» صرخةً عالية من أجل الحفاظ على اللغة، إذْ يقول[1]: «لن يَندم العربُ على شيء كما قد يندمون يوماً على أنهم لم يُلبُّوا نداءَ لغتهم وهي تستجير بهم منذ عقود أن أدرِكوني، هتفتْ بهم همساً منذ أيام الاستعمار، ثمَّ صاحت عند انقشاع غُمّته، وها هيَ لا تبرح تشكو وتستغيث».
ولعلَّ السبب في ذلك أنَّ وجود أيّ أمةٍ واستمرارها رهين بلغتها ومدى اعتزازها وتعزيزها للغتها، يقول المسدّي: «إنه لا غِنَى للعربية عن أبنائها، ولا غِنَى للعرب عن لغتهم، قد يصدق الأمر على كل الألسنة، ولكنه على لغة الضاد وأهلها أصدق منه على سائر اللغات في كل الثقافات، ففي العربية مآل أهلها، وعلى مآل العرب مآل لغتهم، ذلك هو الذي عندنا وليس عند غيرنا».
وهذا الارتباط العضوي بين العرب والمسلمين وبين اللغة العربية هو ما جعل المسدّي يربط -أيضاً- بين الخسران الحضاري وبين خسران اللغة، يقول في هذا الصدد: «لن يُفلِح العربُ في كسْب رهان التاريخ لا بواسطة اللغة الأجنبية ولا بواسطة لهجاتهم العامية، ولوْ أرادوا أن يفعلوا ذلك بالأولى لظلُّوا تابعين طول الدهر، ولعجزِوا أن يصيروا يوماً متبوعين، ولوْ أرادوا أن يفعلوا ذلك بالثانية لتراكمَ عليهم التخلُّف عقوداً».
نعم؛ إنَّ المتأمل في تكوين المجتمعات الإنسانية، والمؤثرات المباشرة على ثقافتها وتاريخها وتكوينها الاجتماعي يلحظ الآثار الكبرى للغة على الهويّة الثقافية؛ إذْ تعتبر اللغة مِن أخص المكونات المؤثرة على الهوية، ووعاء المعرفة والثقافة، ومهد انطلاقاتها الكبرى. وحين تتطور الثقافة وتزدهر فانظر إلى الجانب الآخَر تجد اللغةَ في أفضل عصور ازدهارها. وكما تتدافع الأممُ في حيازة الأرض؛ تتدافع -أيضاً- في بسط هيمنتها اللغويّة. ومِن هنا نشأت «حرب اللغات» التي أسفرتْ عن ولادة مصطلح (الأمن اللغوي) كجزءٍ أصيل مِن أمن الأُمّة العام.
فأمنها اللغوي يَفرِض عليها أن تحفظ لغتها الخاصة، فلا تستبدل بها غيرها، وأن تذود عن مكوّناتها وطرائقها في التعبير، وأن تحرص على سلامتها، وبخاصة أصواتها وصرفها وتراكيبها.
والقُوَى الكبرى التي تسعى إلى تحقيق تلك الأهداف؛ تَعرِف أنها لا تُحارِب فقط كلماتٍ وقواعد وتراكيب، وتراثًا ثقافياً، ولكنها تُحارِب ما يَرمُز إليه ذلك كله، وتسعى إلى السَّيْطَرة على مُقَدَّرات أبناء هذه اللغة وثرواتهم؛ لكيْ يكونوا لقمةً سائغةً في خدمة مطامِع التوسُّع الاستعماري ... وذلك هدف أصبح مُعلَناً على المَلأ لا يَخفى على أحد.
وهذا التحدّي الذي يواجه العربي في هذا العصر مَردُّه إلى الانبهار بكل ما هو غربي. فالمجتمع أصبح مجتمعاً كونياً متحرراً من كل الانتماءات، فالعولمة تخرِق اليوم جدران الهُويّات المغلَقة، وتجعل الحديث عن الإنسان العالمي أمراً ممكناً.
مِن هنا نعلم: أنَّ أشرس أنواع الحروب التي تخوضها دولة غازية ضدّ دولة مغزوّة، وأكثرها نجاعة، هي (الحرب اللغويّة), يعني «تفريغ» اللغة المغزوّة و»إحلال» اللغة الغازية. ومِن نتائجها الخطيرة زرْع الفكر اللغويّ الغريب في الذهنيّة المغزوّة، و(الفكْر) هو المُولّد الأساسيّ للغة، وبالتالي فالفكر المتبنى سيولّد لغة متبناة، بعيدة عن البنوّة الحقيقية، هيَ أشبه بنطق اللغة الغازية بحروف اللغة المغزوة ورموزها إلى حين استبدال هذه الرموز أيضا.
هذا؛ وقد اجتاحت الغربَ -في الحقبة الأخيرة- موجةٌ واسعةٌ من التوجُّس والارتياب والقلَق على حاضر لغاتهم ومستقبلها. فقد أبدى المؤرخ اللغوي «دينيس بارون» توجّسه مِن حالة انعدام الأمن اللغوي التي أصابت الثقافة الأمريكية، وتساءل: لماذا نشعر بالدونيّة الثقافية وانعدام الأمن اللغوي أمام اللغة الإنجليزية البريطانية؟ وما هو سبب تفوق الإنجليز اللغوي؟
وفي دراسة ميدانيّة عن الأنماط الاجتماعية اللغوية، اضطلع بها الخبير الثقافي «وليام لابوف»، توصّل مِن خلالها إلى انعدام الأمن اللغوي في الولايات المتحدة، وقال[2]: «هناك قدر كبير من الأدلّة يُبرهن على أنَّ المتكلِّمين من الطبقة المتوسطة لديهم الميل الأكبر نحو انعدام الأمن اللغوي، وبالتالي يميلون إلى تبنِّي أشكال الهيبة التي يستخدمها أصغر أعضاء الطبقة العليا، ويظهر انعدام الأمن من خلال مجموعة واسعة جداً من الاختلافات الأسلوبية التي تستخدمها مكبرات الصوت ذات الطبقة المتوسطة؛ وتذبذبها الكبير داخل سياق أسلوب معين؛ وبسبب مواقفها السلبية الشديدة تجاه نمط خطابها الأصلي».
* * *
إذن؛ هناك حروب لُغويّة مُستعِرة، وهناك مؤامرات عاتية ضد الهويّات الثقافية, ولا أدلّ على ذلك؛ أنه عندما شعرت فرنسا بأنَّ نفوذ اللغة الفرنسية أصبح مُهدداً بالانحِسار أنشأت رابطة «الفرانكفونية» من الدوَل التي تتحدث الفرنسية، وشكَّلت مؤسسات علمية ترعى الفرنسية في العالَم، وتُتابِع المتكلِّمين بها، وتبحث عما يعترضهم من مشاكل في سبيل المحافظة على لغتهم الأصلية أوْ المكتسَبة، وتعقد المؤتمرات التعليمية والثقافية والعلمية بالفرنسية في مختلف البلدان، وترصد استخدام وسائل الإعلام لها، لتقدِّم التوصيات بعدم شيوع الأخطاء في اللغة. وتضمّ رابطة «الفرانكفونية» في عضويتها كثيراً من الرؤساء وكبار المسؤولين والوزراء في الدول الناطقة بالفرنسية، ومن خِلالها يتمّ تنسيق جهودهم جميعاً لحماية الفرنسية، والعمل على المزيد من الانتشار والصحة والحيوية لها.
بلْ اتخذت فرنسا أكثر من ذلك؛ فعندما أبدى «السود الأفارقة» تمسّكهم بـ»العربية»، لجأتْ إلى القوة والقانون معاً، فبدأت حملة سنّ تشريعات لجعل سياسة الحصار الثقافي أمراً واقعاً، وكذا شكَّلتْ منابر ثقافية (روابط) ظاهرها سياسي اقتصادي، وباطنها استعمار فكري ثقافي، كـ(الفرانكُفُونِيّة) التي أُسِّسَتْ مقابل رابطة الدول الناطقة بالإنجليزية (الكُومُنْوِلْثَ) وكلتاهما لتثبيت أقدام المستعمرين في مستعمراتهم.
فقد اتخذت فرنسا منظمة «الفَرانكُفُونِيّةَ» نمطاً استعمارياً لغوياً ثقافياً جديداً، يربط الدول الأعضاء بفرنسا سياسياً وثقافياً وفكرياً واقتصادياً، وينشر الفرنسية، ويحارب اللغات المحلية، وخاصة العربية، ويمارس الغزو الفكري وغسل الأدمغة من خلال إنشاء جامعات وإذاعات وتِلِفِزيونات فرانكفونية. فالاستعمار الغربي، قبل أن يستنزف الثروات والخيرات ويَهلك الحرث والنسل؛ يُغيِّر الألسنة، ويمحو الهوية، ويجعل أعزّة القوم أذلّة.
وقد نجحت فرنسا في خطتها بشكلٍ منقطع النظير، فلا يوجد اليوم مجتمع إفريقي -من مستعمرات فرنسا- إلاَّ وقد اتخذ الفرنسيّة «لغته الوطنية».
لكن؛ لمْ يألُ العلماءُ والمصلحون جهداً في الدعوة إلى أن تكون «العربيّة» لغةً رسميةً في جميع الدول التي يكَونُ فيها المسلمون الغالبية العظمى، ونادوا بضرورة احترام الدعوات المتتالية لحماية العربية والحفاظ على أمنها اللغوي، وتفعيل القوانين التي سُنّت من أجل ذلك، ولم تجد حظَّها من التفعيل.
أليسَ من العار على «المسلم» أن يُحسِن اللغات الأجنبية «لغات المستعمرِين»، بلْ ويُفاخر بإتقانها، في الوقت الذي لا يتقِن لغة دِينه الحنيف؟
أوَ ليسَ من الواجب علينا أن نُحقِّق «الأمن اللغوي» من أجل استقرار اللغة على نحوٍ صحيح سليم مِن كل ما يُهدِّدها، ويعبَث بها، ويَهبط بمُستواها، ويكون ذلك باتِّباع وسائل وقائية جادَّة تضمَن لها حياتها وبقاءها ونقاءها.
أوَ ليسَ من الواجب على الأمّة أن تتمتّع بأمن لُغوي يدرأ عنها هجمة عولميّة عاتية تجتاحها، ويرأب صدع تخاذل أبنائها وعزوفهم عن تلّقيها تلقياً حسناً، وتحقيق هذا الأمن فرض عين على أبناء الأمة عامة، وبخاصة الطلاب الجامعيين الذين يتأهلون للانخراط في الحياة العلمية والعملية؛ فعليهم أن يُدركوا خطورة ما يتعرض له أمنهم اللغوي، فيعملوا على تصحيح استعمالهم اللغوي، وجعل لغتهم لسان بحوثهم ومشاريعهم العلمية، وحمايتها من تأثير لغات أخرى يستعملونها لتعلمهم ولبحوثهم.
**__**__**__**__**
الهوامش:
[1] عبد السلام المسدّي، الهويّة العربية والأمن اللغوي، المركز العربي للأبحاث، قطر.
[2] وليام لابوف، الأنماط الاجتماعية اللغوية، جامعة بنسلفانيا، 1972م.
** **
- محمَّد عبد الشَّافي القُوصِي