القراءة هي أولى خطوة للعبور إلى الطرف الآخر، وإلى المعنى الخفي في الكلمة مرةً، وفي العبارات التي تليها عدة مرات.. هذا بعض ما تعلمته من قراءتي لروايات وكثيرة وأكدته لي قراءتي لرواية «حوش عباس» الصادرة عن دار تشكيل في طبعتيها الأولى والثانية في العام 2022 للروائي والصحفي جابر محمد مدخلي.
إنها رواية متسلسلة دراميًا، في مشاهد قلما تقرأها في رواية أخرى فإذا ما توقفنا خارج أسوار «حوش عباس» قبل ولوجه كقرّاء وأمامنا غلاف جذاب كغلافها على الرف فإن أول ما سيتبادر لأذهاننا ما الذي يعنيه هذا الحوش بالنسبة للراوي والبطل يا ترى؟ ولربما كبرت تساؤلاتنا التي قد تدفع بنا للدخول إلى هذا الحوش دون طرق بابه؛ لأننا بكل تأكيد عندها سنصير مجبرين للدخول، سواءً دُعينا إليه ألم تتم دعوتنا.. وما أن نقرر القفز فوق أسواره المعتمة حتى نكتشف بأن حوش عباس في الرواية هو مكان أودع فيه بطل هذه الرواية «جيلان» ولا تنسوه هذا الاسم؛ لأنكم ستظلون تذكرونه طوال أعماركم، وليس على طول امتداد الرواية.
جيلان» الذي انتُزِع من طفولته انتزاعًا وأودع فيه، وفيه تمزقت براءته من قبل وحش معاقٍ اسمه «ميمون».
هذه هي البوابة الأولى للحوش كما ستبدو لنا من خطواتنا الأولى فيه، وتوقفنا أمام «منيرة المعسولة» ونظراتها الرحيمة. ولكننا ومع تقادم الصفحات سنعلم أن «الحوش» قد يكون أي شيء آخر في حياة كل واحد منا: كالشكل، والجنسية، واللهجة، والطبقة الاجتماعية، ولون البشرة، والآخرين. المكان الذي لا يجد فيه المرء لا الطمأنينة ولا السكينة، ولا العزلة التي يظل يصرخ داخلها دون مجيب، ويصفع وجهه الخائف باستمرار، ويُعنف حين لا يرضخ أو يقبل ما يُطلب منه!.
ثم حين نتعمق أكثر فأكثر داخل هذا الحوش أو أحواشنا الخاصة بنا فإننا سنعلم أن لكل منا حوشه الخاص به ومهما اختلفت مسمياته فإنه سيكون حوش يحيط بنا، نعيش داخل مساحته وحدوده، ومع ذلك إلا أننا لا نجرؤ على الهروب منه؛ فهو جحيمنا الذي لا خلاص لنا منه أبداً إلا بالأمل، أو الركض، ومحاولة القفز فوق أسواره طوال العمر لنجدنا من جديد داخله وكأننا للتو قفزنا إليه لا إلى خارجه.
تعد «حوش عباس» بصدق وحق رواية سعودية وعربية غير مألوفة، ومغامرة قرائية جميلة بكل معنى الكلمة. إنها سرد روائي مُدهش؛ فالمؤلف كتب لنا أحداث روايته بأسلوب درامي مؤثر يشدك خلاله منذ بداية سرده حتى نهايته لتلحظ، فتتأكد أثناء قراءتك بأنه على قدر عال من الدراية والتجربة، والخبرة والحكمة والفلسفة والبحث الجاد والاطلاع.. وكل هذه لا يتصف بها روائي إلا وصار كاتبًا كبيرًا في اليوم الحاضر أو الغد...
في حوش عباس لا يتوقف الراوي عن الركض طوال روايته.. فمنذ بدايته وبطله «جيلان» يعيش طفولة بائسة؛ لهذا جعلنا الكاتب نحبه، ونتبعه في كامل خطواته داخل قريته الحدودية «المجدّعة» وذكريات طفولته وأحلامه الصغيرة التي كبرت معه. وفي حنينه، ونبض لياليه الأليمة، وخلاصة التمييز العنصري الذي مورس عليه وعلى أسرته من قبل زوجة أبيه الأولى، والتي رمز إليها الكاتب هنا باسم «فايزة» بل وأُجبِر على أن يناديها «عمتي» التزامًا بالأعراف والتربية التي غرستها فيه أمه.. ورغم كل الذي رآه منها إلا أنه ظل يناديها «عمتي».
إن هذه الرواية الجميلة في كامل تفاصيلها هي رواية «جيلان» التي جعلتنا نتعمق في نفسيته، ونستكشف لحظات حياتنا من حياته، ونلمس شتات أحوالنا من أحواله ومصادفاته وتنقلاته.. وإن كانت هي روايته بالدرجة الأولى –وعلى هذا اتفقنا- إلا أنها قد تجاوزته وتخطته ووصلت مباشرة إلى أحوالنا، ووطننا وثقافتنا وحياتنا، بل وقفزت إلينا وسكنتنا منذ خروجها من تلك المساحات والسلاسل الجبلية المشتركة بين السعودية واليمن والتي تربطهم معًا كدولتين ومجتمعين، متجاورين ومتصلين في حدود برية واحدة يجتازها من يجتازها ويموت بينها من يموت...
** **
- ماجدة محمد