صدرت هذه الرواية في أغسطس 2022 عن دار فلاماريون الفرنسية في حوالي 208 صفحة وهي من تأليف الروائية الفرنسية بريجيت جيرو التي كتبت أحد عشر عملا أدبيا من بينها رواية “في الوقت الحاضر” الحائزة على جائزة ويبلر الأدبية لعام 2001 ورواية “الحب المُبالَغ فيه جدا” الحائزة على جائزة جونكور دو لا نوفيل الأدبية لعام 2007 ورواية “سنة غريبة” الحائزة على جائزة جون جيونو الأدبية لعام 2009.
في هذه الرواية يمكن ملاحظة الاستخدام المتزايد لجملة “ماذا لو” التي تكرّرت حوالي 21 مرة والمكونة من اسم الاستفهام “ماذا” وحرف الشرط “لو”، الأمر الذي يُحيل القارئ الى ثنائية الحياة والموت ويجعل الكاتبة الفرنسية بريجيت جيرو المفجوعة بفقد زوجها تلجأ الى تصوّر سيناريوهات مختلفة تدور حول حياتها التي كان عليها أن تحياها بطريقة مختلفة، ويجعلها تلجأ أيضا الى طرح أسئلة كثيرة: ماذا لو لم تصنع شركة هوندا اليابانية هذه الدراجة النارية الخطيرة جدًا التي تم تصميمها للسير خارج المدن اليابانية فقط؟ ماذا لو لم تسمح إدارة المرور بفرنسا لمثل هذه الدراجات القوية بالسير في شوارع مدينة ليون الداخلية؟ ماذا لو أنها أعلمت زوجها بإمكانيات وقدرات ومواصفات تلك الدراجة النارية التي قادها؟ ماذا لو لم تتعرض عائلتها لهذه المأساة؟ ماذا لو لم تستطع أن تتخلص من الشعور بالذنب؟ ماذا لو لم تقتنع بأن مقتل زوجها كلود لم يكن خطأها؟ ماذا لو تغيّر قدرها وقدره وقدر العائلة كلها؟
في هذه الرواية، ستعمل بريجيت جيرو على ايقاظ ذاكرتها وستستعين بتقنية الاسترجاع للتخفيف من حدة توترها من خلال التنقيب في صندوق الذكريات، الأمر الذي يثير فضول القارئ ويجعله كمن يمشي على حبل مشدود بين ماض اجتمعت فيه الكاتبة مع زوجها وحاضر تبحث فيه عن إجابات لأسئلتها. ولأن تراكم علامات الاستفهام في ذهن الراوي تعدّ بمثابة حجر الزاوية في هذا العمل الأدبي الذي يعتمد الافتراضية التالية: “ماذا لو لم يحدث كذا” ولأن مؤلِّفة هذا العمل الأدبي لم تلتزم بالتسلسل الزمني في ترتيب الأحداث وتصنيفها، ولأن هذا العمل الأدبي ينتمي الى فئة روايات السير الذاتية المفعمة بالدراما المأساوية التي تحكي عن الأحداث الصغيرة والقرارات البسيطة والاختيارات المختلفة التي تنبئ بإمكانية وقوع حادث قد يؤدّي الى وفاة، فانّ استخدام عنوان الرواية “أن تعيش بسرعة “ كعتبة نصية يمكن اعتباره كشفرة رمزيّة ولّدت دلالات قصدتها الروائية الفرنسية بريجيت جيرو واتّخذت من عناصرها وسيلة لتعبّر بها عن رؤيتها الفلسفية عن الحياة ذات الإيقاع السريع وعن الموت الذي يخطف الإنسان بسرعة شديدة تماثل سرعة الصقر عندما ينقضّ على فريسته.
ان فلسفة الحياة والموت التي يمكن تفسيرها من خلال جدلية الحركة والسكون جعلت هذا العمل الأدبي كأنه رسالة حررتها الروائية الفرنسية بريجيت جيرو لنفسها وللقارئ وبيَّنت فيها أسباب حزنها الدفين الذي جعلها غير قادرة على الاستسلام للصمت الذي قد يجرها الى نوع آخر من الموت المعنوي. إن مظاهر مقاومتها لليأس التي صبغت أحداث هذه القصة تمثلت في صورة المرأة التي تحاول أن تعيش حياتها بجميع ألوانها وصورها وتحاول أن تخطط لنفسها أسلوب حياتها بشجاعة، الأمر الذي أدى الى زيادة جرعات الحزن والألم النفسي التي عانت منه الكاتبة.
بدا للوهلة الأولى أن عنوان هذه الرواية “أن تعيش بسرعة” مقتبس من أغنية مغني الروك الأمريكي “لوريد” الذي أحبه كلود زوج بريجيت جيرو مؤلفة هذا العمل وتأثر به لدرجة أنه تخصّص في موسيقى الروك أثناء عمله في جريدة لوموند الفرنسية، الأمر الذي رفع منسوب التوتر الدرامي لهذا النص الروائي وأضفى على مضمونه أشباحا من الخوف والقلق والوحدة والشعور بالغضب نتيجة لإيقاع الأحداث المتسارع الذي يشبه ايقاع موسيقى الروك.
في رواية “أن تعيش بسرعة،” توالت سلسلة من المفاجآت غير المتوقعة ورسمت بشكل ضمني صورة قاتمة عن ذكريات عائلة بريجيت جيرو في فترة التسعينيات من القرن الماضي. ستحلّل الكاتبة الفرنسية بريجيت جيرو الأسباب التي أدت إلى وفاة زوجها كلود وستتذكر جميع الأحداث التي توالت تباعا والتي انتهت بموته نتيجة لحادث تعرض له أثناء قيادته دراجة نارية من طراز هوندا 900 سي بي آر في 22 يونيو 1999 في مدينة ليون الفرنسية. ستسترجع الكاتبة بعض الأوقات العصيبة التي مرت بها من خلال فصول الرواية الـ 23 وستحاول أن تسجل جميع الظروف والملابسات التي صاحبت وقوع الحادث الذي أودى بحياة زوجها بعد أن لعب الزمن لعبته ومرّ بسرعة البرق عشرون عامًا من عمر مؤلفة هذا العمل الأدبي منذ وقوع تلك الحادثة.
تعبِّر بريجيت جيرو الأرملة عن هذه المأساة التي خلفتها وفاة زوجها من خلال الحديث عن المنزل الذي كانت تحلم أن يأويها مع ابنها الصغير وزوجها، الا أن مصرع هذا الأخير جعلها تنتقل للعيش هناك بمفردها مع الطفل الذي أصبح يتيما. ستقيس هذه الأرملة مستوى غضبها وكيفية تأثيره على حياتها من خلال مقاومتها لمواد بناء منزلها. لكنها ترفض العيش في قيود لقب السيدة الأرملة: سيتحتم عليها كسر هذه القيود والتخلص من تلك الأغلال عندما تحاول تجديد المنزل بهدم جدرانه وكسر حواجزه.
ختاما: يمكن النظر الى رواية “أن تعيش بسرعة” على أنها آتية من المخاوف والذكريات المؤلمة التي جعلت الكاتبة، المثقلة بالحزن، تفرغ شحنة الغضب التي انتابتها وصارت جزءا من تكوينها في الكتابة التي وجدتها حلا وطريقا للتنفيس عن مشاعرها الداخلية بعدما تعرض زوجها لحادث أليم. إن الغموض والتشويق الذي لفّ هذا العمل الأدبي يعدّ سرا من أسرار أسلوب المؤلفة الإبداعي الذي جعلها تفك شفرة اختياراتها البسيطة وتحللها وتعرض وجهة نظرها حول ما يربطها بالعالم ويفصلها عنه. فالحياة، بالنسبة إليها، لم تكن مبهجة ولم تكن كذلك محفوفة بالمخاطر: فكل قرار اتخذته مع زوجها كقرار بيع منزل أو شراء آخر أو تأجيل اجتماع أو الذهاب الى مدرسة ابنهما أثر بشكل سلبي على مصير كلود المأساوي.
أخيرا إن انتقاء الكاتبة مفردات لغتها الدراماتيكية الساخرة جعلت القارئ بدوره يتساءل: ماذا لو حاولت الكاتبة في هذه الرواية ألا تتحدى القدر الذي لا مفرّ منه وماذا لو أنها لم تسخر منه؟ ماذا لو...؟
** **
- د. أيمن منير