يتضح أن عنوان هذه القراءة الانطباعية شائك وذلك يتمثل في السؤال الذي قد يطرحه قارئ ما عن المجموعة الشعرية الرابعة للشاعر السعودي علي جدعان والتي صدرت مؤخرا عن دار أدب للنشر والتوزيع ضمن مشروع 100 كتاب في نهاية عام 2023
أين تظهر الثنائية في هذا العمل؟
وللإجابة عنه فإننا نقسم ديوان الشاعر لثلاثة أقسام حيث يحتوي كل قسم منه على اثنتي عشرة قصيدة من جنس القصيدة التناظرية.
تحتدم القصائد في هذه المجموعة في صراع دامٍ بين فكرتي البقاء والفناء. فقصائد تغني للحياة والطبيعة والمكان وأخرى تعزف الحزن والأسى إيذانا بالرحيل والعدمية.
يتضمن هذا الديوان قصائد يتضح من خلال عناوينها سمات موضوعية متعددة ومتجددة يلتمسها القارئ بعد نهايته منه فالشاعر وظف بالعمل هذا قصائد تصف علاقة الإنسان بالوطن وانتمائه له وهي فكرة ليست مستحدثة في تجربة (جدعان) ولكنها مكثفة في هذا العمل وذلك من خلال وجود ثلاثة نصوص حاضر فيها الانتماء لهذا الوطن الغالي وهي: (وطني أول القصائد)،
(معزوفة لوطن يغني حبا) و (زغاريد تملأ صدر الوطن) حيث أن القصائد الثلاث
موزعة على جهات الديوان الثلاث فواحدة في مقدمته والثانية في منتصفه والأخيرة
اختار لها الشاعر أن تكون في القسم الأخير منه. وهذه سمة لم تكن من قبل في أعماله الثلاثة واضحة تماما ولكنها حضرت هنا بعمق حيث يرى أن المكان بطبيعة الحال يشكل جزءا كبيرا من روح الشاعر وما يدور في خلده ويظهر هذا التأثر جليا من خلال النصوص الثلاثة التي ذكرناها آنفا.
لا يكتفي الشاعر بالكتابة في هذا العمل عن الوطن فحسب ولكنه يذهب بالقارئ إلى نقطة أعمق وذلك بتبيان تعلقه
بحبه الأول للبقعة الطيبة التي نشأ بها وكونت منه شاعرا مرهف الحس صائدا للجمال في قصائده وأعني بذلك المدينة المنورة مهد السكينة والحب والجمال فقد
خصها أيضا بثلاث قصائد بديعة وفاتنة تليق بسحر المدينة المنورة التي تسرق فتنتها الألباب حيث ألبس تلك النصوص عناوين راقية وهي: (تشبهها المآذن) التي قال في مطلعها:
لطيبة خافقي بالحب رقا وأوحى الله في روحي وألقى
ثم تبعت تلك القصيدة قصيدتان منحهما هذين العنوانين: (العقيق نهر يخيط المجازات)
وقصيدة: (للعشق سبل وللحب مدينة) صور فيهما جمال الأمكنة وعبر عن عواطفه الجياشة تجاهها وما القصيدة إلا عاطفة متوقدة لا تنطفئ ما لم تنطفئ روح شاعرها حيث قال في النص الثاني:
قلبي لطيبة والمسيل ومائه
غنى وروحي شاعر وقصيد
لم يفت الشاعر الكتابة عن المقدسات فألحق تلك القصائد بالكتابة عن مكة المكرمة
وظهرت في ذلك النص أبيات تتجلى فيها جمالية المكان وهو بعنوان: (في البياض كنت).
وظف (جدعان) الكثير من موضوعات الشعر في هذا العمل فحضرت هناك قصيدة الابتهال الإلهي والتي اشتغل فيها على توطيد صلته مع المحبوب المطلق وتزكيتها وهو الخالق سبحانه وتعالى وأرى ذلك جليا في القصيدة التي كانت مطلع العمل (متن رسولي) وهي قصيدة بلغة ساحرة فيها من الشعر الحداثي كما في البيت التالي:
أنا المتن الرسولي الموشى بعشقي والمريدون الشروح
وأيضا نلاحظ ذلك في نص لاحق تظهر فيه صور شعرية ومجازات متجددة وهو بعنوان: (طواف حول كأس فارغ).
للشعر مكانة كبيرة في قلب كل شاعر فلم يترك العمل خاليا من التغني به فقد أورد نصوصً يطرب لها القارئ وهي: (خيمة تظلل المعنى) و (ضوء في عتمة الذات).
القصائد لم تخلُ أيضا من توظيف سمة التغزل بالمكان وبالحبيبة أيضا، وقد أبدع
(جدعان) في هذا الجانب بقصائد مليئة باللغة المكثفة بالمعاني، فالبيت الواحد يجعلك
تعتقد أنه يمثل حالة وجدانية مكتملة، وقفت على نصوص مثل (إليها)
و(يوسفيات تعزفهن الريح). قصيدتان فيهما من الشعر والموسيقى والمعاني الشفيفة
ما يجعل أبياتها ترسخ في وجدان القارئ وكأن الشاعر هنا مَثل لنا الحب في إطار
وجعلنا نراه.
هناك سمات لابد من الوقوف عليها في قصائد هذه المجموعة وكما هي عادة شاعر
مثقف مثل (علي جدعان) أن يستحضر عناصر من حضارات متعددة كما في البيت
الخامس عشر من قصيدة (دمعة أجا وحزن سلمى) الذي قال به:
(إيروس) أسهمه العيون ونبضه القبلات حين يبلها العنقودُ
وإيروس في الحضارة اليونانية هو اسم إله الحب والرغبة والجنس. وفي ذات
القصيدة يحضر كبار شعراء العرب في البيت الذي قال به:
غنى (امرئ القيس) العظيم وملكه لهما وتأريخ الصبا و(لبيد)
سمة أخرى بارزة جدا في هذا العمل يلعب فيها الشاعر باللغة جيدا وهو العارف بها أيما معرفة فيكتب عناوين للقصائد بها الكثير من المعاني المتضادة والتي يريد الشاعر فيها أن يقابل الضد بالضد كي يقول إن الشيء يعرف بضده كما ذكرنا قي البداية وظهر ذلك جليا في نصوص مثل: (للسؤال شعلة وللبوح انطفاء)، وآخر بعنوان (ضوء في عتمة الذات) وهذا العنوان يختبئ وراءه معنى عميق يحتاج
سطورا كثيرة لتفكيكه. وينسخ الشاعر هذا المعنى في نص
(قنديلي الذي سرقه القمر) ولعله أراد هنا أن يشبه روحه بالقنديل الذي انطفأ لأن القمر سرق ضوءه وشع.
ويستمر الشاعر بعزف موال التضاد في المفردات في قصيدة (وطن يسكن المنفى)
وأيضا (أول الطريق آخر النشيد) وآخر تلك القصائد هي (صمت على قارعة الشفاه).
اقتناص المفردات القليلة وتكثيف معانيها هي سمة يمتاز بها هذا العمل من أوله لآخره ولعل هذه السمة كان لها الأثر بداخلي كقارئ في طرح الأسئلة عن مغزى
تلك التوظيفات فلماذا يسير الموتى وما شكل وجهة ذلك المسير؟
وكما قال في ختام إحدى القصائد بيتا يشف عن جواب لتلك الأسئلة ولكنه يوقعنا في حيرة أخرى مجددا:
هكذا الموت سؤال مشرع كيف نبقى؟ كيف نمضي قدماً؟
** **
- عبد الله أحمد النخلي