تأملت العلاقة بين الفقيه والمثقف تاريخياً فوجدتها مرتبكة، وربما ارتقى الأمر إلى مرحلة الصراع بينهما، وصعوبة الالتقاء في كثير من المسائل الفقهية والعقدية والثقافية، ويبدو أن المشكلة في طريقة القراءة لكل منهما وأسلوب تلقي المعلومة والتعامل مع النصوص، فالقارئ المثقف والقارئ الفقيه كلاهما يقرأ، وكلاهما مشغوف في البحث لكن المثقف لديه أفق أوسع وعقل تحليلي للفكرة أو الرأي بل إن المثقف مستعد لتلقي المعلومات والروئ التي لاتتوافق مع هواه ومستعد لتفهم كل القناعات التي لايؤمن بها، وعنده استعداد لمناقشتها من منظور ديني وثقافي وإنساني، ويطرح التساؤل بطريقة هادئة ومنطقية، وكلاهما يعشق المعرفة وقد يفوق الفقيه المثقف بكمية المعلومات والذكاء والحفظ للمتون ولديه أفق واسع أيضاً، لكن قراءة المثقف للمعلومة يمكن تسميتها بالقراءة المفتوحة الواعية المتسلسلة التي تنظر للمعلومة من جميع زواياها، ولامحظور عنده حين يبحث ويحلل مسألة فقهية أو عقدية أو تاريخية، فهدفه الصواب وتلمُّس الحقيقة دون حدود أو معوقات فكرية، أما الفقية فالقراءة لديه مقيدة بنصوص وقواعد وأصول وأحكام وضعها له الفقهاء اجتهاداً، وليس عليه تجاوزها تفكيراً ونطقاً, وهذا ماجعل الفقهاء ينقسمون إلى مذاهب فقهية وعقدية وفكرية متشعبة وكل فرقة أو مذهب يرى أن الصواب عنده وغيره خطأ، فتضيع الحقيقة بينهم ويتشتت تفكير الإنسان العادي، وتُنهك بعضهم الحيرة وأحياناً الحماس غير المنضبط نتيجة لتقييد تلك النصوص لتفكيرهم وحسب فهم من يرشحونه إماماً للفقه، مع أن آيات القرآن في ذاتها تدعو الإنسان للتأمل في كل شيء في هذا الكون، والتأمل لايكون إلا بإعمال العقل بشكل مطلق كي تكون استنتاجات التأمل واضحة لاغبش فيها، لذلك تجد الفقيه قيّد نفسه حسب فهمه للقرآن ولأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وربما قيد عقله بنصوص مأثورة لأشخاص ذوي قدسية فقهية دينية عقدية فرضتها الظروف، حتى أن تقبُّل الفقيه للمنطق يجب أن يخضع لتلك النصوص بل إن بعضهم يرفض تعلم وتعليم المنطق لذلك رأينا بعضهم يصف البعض الآخر بأوصاف نقص مثل (مبتدع كافر مرتد مرجئ معتزلي مجسم أشعري قدري ...) فما خالف مفهومه للنص فهو خطأ محض، بينما المثقف يرى أن هذا نسف للعقل وقيمته ونتائجه، العقل الذي قدسه القرآن ذاته حين قال: (أفلا تعقلون) وأشار إلى قيمته بأكثر من آية وليت بعضهم ينسف العقل فقط, بل إن من الفقهاء والواظ من يحارب العقلاء والمثقفين نخبة كانوا أو عامة لمجرد أنهم خالفوا رأيه الفقهي أو العقدي، ولذلك تقوم الحروب الدينية والمذهبية والصراعات الضخمة بسبب رأي ديني متشدد يقوده واعظ متشدد، ويحدث ذلك حين يختفي صوت العقل ويعلو صوت الفقيه المتشدد أو الواعظ المتطرف، وربما بعضهم يفتي بالقتل لأمر تافه، وقد يحرض لمجرد أن فلاناً خالفه في مسألة عقدية أو فقهية وعمل على حد رأيه معصية، فهو يستنجد بالنصوص مؤولاً لها وفق رأيه، بل تجد بعض الواعظين لديهم مقدرة لغوية على استثارة عواطف أتباعه ويستخدم أقوى المفردات الحماسية اللغوية التي تشعل مشاعر المعجبين، وليس لدى بعض الواعظين الذين هما نتاج تفكير الفقيه ليس لديهم مانع في الزج بمعجبيهم بحروب غوغائية غير محسوبة النتائج، وإذا ماتوا تباكى عليهم وأنهم من الشهداء، والمثقف يركز في مناظراته على الأدلة والبراهين النقلية والعقلية، بينما الفقيه يركز على الأدلة النقلية وأقوال مشاهير الفقه. ولا أعمم فهناك من الفقهاء من أحسن إعمال العقل في بعض المسائل فأبو حامد الغزالي يقول في كتابه إحياء علوم الدين (من لم يحرّكه الربيعُ وأزهاره، والعودُ وأوتاره، فهو فاسدُ المزاج ليس له علاج).
كما أن الفقيه ابن حزم الأندلسي الذي كان يجيز العزف وفق النصوص قد ألف كتاب طوق الحمامة وأبدع فيه القول حيث تناول فيه الحب وقصص العشاق تناولها بأسلوب تحليلي فريد والتي يتورع الفقهاء من ذكرها ويرون أنها من اللهو.
أما الزمخشري صاحب تفسير الكشاف فلم يهمش عقله في بعض المسائل العقدية، ولم يسلم من الهجوم والتصنيف مع أن تفسيره يعد من أعظم المراجع التي خدمت المهتمين فقهياً ولغوياً.
** **
- صالح بن سليمان الربيعان