إن المتأمل في خطابات ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود -حفظه الله- يرى بوضوح قدرة هذه الخطابات الكريمة على التأثير في المتلقي، وإقناعه وحمله على الإنجاز؛ فهي خطابات عالية القيمة والقدر، تعالج قضايا الإنسان في الحاضر، وتستشرف آفاق المستقبل بحكمة وبصيرة وإرادة قوية؛ وهذا ما جعلها خطابات حية، وجزءاً لا يتجزأ من مظاهر التطور الكبير الذي تعيشه بلادنا الحبيبة.
إن أول ما يلفت النظر في خطاب ولي العهد في قمة بريكس، هو سيميائية الفضاء التخاطبي، وتداولية المقام التواصلي؛ فتأثيث الفضاء في الخطاب اتخذ من فضاء الملك فيصل بن عبد العزيز آل سعود -رحمه الله- منبراً للاتصال بالآخر؛ تأكيداً لموقف المملكة العربية السعودية الثابت من القضية الفلسطينية، ورفضاً للأعمال الوحشية بحق المواطنين الأبرياء العزل في غزة.
بدأ ولي العهد -حفظه الله- كلمته بعمل تلفظي إنجازي، وهو عمل التحية الذي يعدّ من الأفعال التعبيرية عند منظري التداولية، يقول -حفظه الله-: «أنقل لكم تحيات سيدي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، وتمنياته بنجاح أعمال هذه القمة الاستثنائية التي تنعقد في وقت عصيب يمر به قطاع غزة».
إن هذا الافتتاح العالي الكريم يؤكد علاقة اللغة بالسياسة؛ فالربط بين زمن انعقاد القمة، وزمن الأحداث في غزة، يجعل الخطاب السياسي خطابا ذا سلطة إقناعية تأثيرية، ثم إن العمل القولي الوصفي (وقت عصيب) أعطى اللغة قوة خطابية كبيرة، تتمثل في ربط زمن القمة بحاضر التلفظ الخطابي.
وبعد عمل التحية، جاء عمل الشكر، وذلك في قول سيدي ولي العهد -حفظه الله-: «نود أن نشكر فخامة الرئيس رئيس جمهورية جنوب أفريقيا؛ لاستضافة القمة، ودعوة المملكة للمشاركة فيها»، وعمل الشكر السابق جاء نتيجة لعمل تأثيري، وهو عمل الدعوة، ونلحظ في مقدمة الخطاب غلبة الأعمال القولية التعبيرية، وهذا يمنح الخطاب السياسي قوةً وتأثيراً.
وبعد عملي التحية والشكر، عرض ولي العهد -حفظه الله- عمل الشهادة، وهو عمل قولي تلفظي تقريري مرتبط بزمن التلفظ، يركّز على نواة حدثية ذات قيمة إنسانية فارقة، وهي رفض العدوان الإسرائيلي؛ لذلك تعددت في الخطاب مظاهر الخراب والدمار، يقول ولي العهد -حفظه الله-: «إن ما تشهده غزة من جرائم وحشية في حق المواطنين الأبرياء، وتدمير المنشآت، والبنى التحتية، بما فيها المنشآت الصحية، ودور العبادة، يتطلب القيام بجهد جماعي؛ لوقف هذه الكارثة الإنسانية التي تستمر بالتفاقم يوماً بعد يوم، ووضع حلول حاسمة لها».
إن عمل الشهادة في المقطع السابق من الخطاب تصويرٌ حيٌّ لخطاب الكارثة في العصر الحديث، وعنصر مهم في تأكيد مرجعية الحدث وواقعيته.
ومما يعطف النظر في المقطع السابق من الخطاب، كثرة استعمال الأوصاف والنعوت (جرائم وحشية، المواطنين الأبرياء، الكارثة الإنسانية، حلول حاسمة)، وفي ذلك بيانٌ لموقف المتكلم من أحداث غزة، وتوجيهٌ للمخاطَب؛ لإنجاز عملٍ متضمنٍ في القول، وهو وقف الكارثة الإنسانية في غزة، وقد اتكأ الخطاب في ذلك على القيم الإنسانية المشتركة التي ترفض الظلم والدمار والتخريب في حق الإنسان، وهذا مظهرٌ من مظاهر قوة الخطاب.
وقد استعمل ولي العهد -حفظه الله- الصيغ الدالة على الرفض الشديد للعمليات العسكرية في غزة، يقول: «ونجدد تأكيدنا القاطع على رفض هذه العمليات التي أزهقت الأرواح لآلاف الأطفال والنساء والشيوخ، وطالبنا بوقف العمليات العسكرية فوراً، وتوفير ممرات إنسانية لإغاثة المدنيين». ففي هذا المقطع تظهر بجلاء القوة الإنجازية للخطاب بالألفاظ الدالة على المشيرات المقامية التي تحيل إلى علاقة الحدث بزمن التلفظ الخطابي، وسياقه التواصلي (رفض هذه العمليات، بوقف العمليات العسكرية فورا)، وبالنسق التصوري (العمليات التي أزهقت الأرواح لآلاف الأطفال والنساء والشيوخ) بوصفه عملا قولياً استدلالياً، يهدف إلى وقوف العمل العسكري حالاً ودون تأخير.
وفي خطاب ولي العهد صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود إلى قمة بريكس إستراتيجيات إقناعية متعددة؛ تهدف إلى التواصل مع المتلقين والتأثير فيهم، ومن ذلك: الصيغ الدالة على استجابة المملكة السريعة لأحداث غزة، وقد جاءت هذه الصيغ بأسلوب التوكيد؛ لتنجز بذلك أعمالاً قولية مرتبطة بزمن الحدث التواصلي، وفي ذلك دلالة على دور المملكة الرائد في الأحداث العالمية، يقول سيدي ولي العهد -حفظه الله-: «لقد بذلت المملكة جهوداً حثيثة منذ بداية الأحداث؛ لمساعدة وحماية المدنيين في قطاع غزة، بتقديم المساعدات الإنسانية والإغاثية جواً وبحراً»
- استعمال لغة الأرقام؛ بوصفها حقائق لا تقبل النقاش، وتعدد الآراء، يقول سيدي ولي العهد -حفظه الله- مبيناً الجانب الإنساني للمملكة في أحداث غزة: «وإطلاق حملات تبرعات شعبية عاجلة، تتجاوز حتى الآن نصف مليار ريال سعودي»ونلحظ في هذا المقطع من الخطاب الاستعانة بالعمل القولي الوصفي (تبرعات شعبية عاجلة)، والمشير الزماني (الآن)؛ لربط الخطاب بحاضر التلفظ، إمعاناً في الإقناع والتأثير.
- تعدد طرائق الاستدلال على القصدية التخاطبية، والمعنى التواصلي للنشاط اللغوي، ومن مظاهر ذلك:
1-اللجوء إلى العمل القولي (الطلبي/ التوجيهي)؛ لتنزيل الحدث في حاضر التلفظ بالخطاب، وهذا الحدث، هو عقد قمة عربية إسلامية مشتركة، يقول سيدي ولي العهد -حفظه الله-: «كما دعت المملكة إلى عقد عربية إسلامية مشتركة غير عادية في الرياض بتاريخ 11 نوفمبر 2023؛ لبحث العدوان الإسرائيلي».
2-تكرار الأعمال القولية الدالة على الحكم والقرار؛ لإنجاز عمل الرفض الجماعي للعدوان الإسرائيلي، وفي ذلك تقوية للنشاط اللغوي، وتوجيه لقصدية المعنى، يقول ولي العهد -حفظه الله- متحدثاً عن قرارات القمة العربية الإسلامية المشتركة غير العادية التي عقدت في الرياض: «وصدر عن القمة قرار جماعي يتضمن إدانة العدوان الإسرائيلي على غزة، ورفض تبريرها تحت أي ذريعة...ورفضها التهجير القسري للشعب الفلسطيني، وإدانة تدمير إسرائيل للمستشفيات في القطاع، مطالبة جميع الدول بوقف تصدير الأسلحة والذخائر لإسرائيل».
3- استعمال النواسخ الفعلية المظهرية؛ لتأكيد موقف المملكة الثابت والدائم من القضية الفلسطينية، وفي ذلك إنجاز لعمل الإحالة على الماضي والحاضر معاً، يقول سيدي ولي العهد -حفظه الله-: «وقد كان ولا يزال موقف المملكة الثابت والراسخ، أنه لا سبيل لتحقيق الأمن والاستقرار في فلسطين إلا من خلال تنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بحل الدولتين لتمكين الشعب الفلسطيني من نيل حقوقه المشروعة في إقامة دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة على حدود 1967، وعاصمتها القدس الشرقية».
وختم سمو ولي العهد -حفظه الله- خطابه بعمل قولي إنجازي تعبيري، وقد جاء هذا العمل المتضمن في القول متعدد الصيغ (نقدر، نثمن، نكرر شكرنا، متمنين، شكراً) وفي ذلك تأكيد لسلطة الخطاب السياسي، وقدرته الإنجازية والتأثيرية، يقول سيدي ولي العهد -حفظه الله-: «ونقدر كافة الجهود التي سيتم بذلها وبخاصة من الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الهادفة للوصول إلى سلام عادل للجميع، وإذ نثمن الدور والجهد الذي تقوم به مجموعة بريكس لمساعدة الشعب الفلسطيني الشقيق، ونكرر شكرنا لفخامة الرئيس والقادة المجتمعين متمنين أن تحقق هذه القمة الأهداف النبيلة التي عقدت من أجلها، شكراً».
وفي الختام نسأل الله العلي القدير أن يحفظ سيدي خادم الحرمين الشريفين، وولي عهده الأمين، وأن يديم على بلادنا الغالية نعمة الأمن والأمان والرخاء.
** **
د. قالط بن حجي العنزي - باحث في السرديات التداولية
@qalit2010