الثقافية - علي بن سعد القحطاني:
من الظواهر الأدبية اللافتة للنظر في المشهد الثقافي السعودي اكتفاء الروائيات السعوديات بالرواية الواحدة، وهي تشابه القصائد اليتيمات التي يكتفي بقولها الشعراء في عصور الأدب العربي ،إما للاكتفاء بجودة العمل الأول.
والنجاح الذي حققته الرواية الأولى، والخوف من عدم تقديم رواية أخرى بالمستوى المأمول، وتتخذ الروائيات قرارهن بعدم إصدار روايات أخرى أو انشغالهن عن الكتابة الروائية بالدراسات العليا أو العمل والحياة الأسرية، وتكثر الالتزامات لديهن ومشتتات الحياة أو لاصطدام بعض الروائيات بالسوق الثقافي وتجاهل النقاد لكتابتهن وتكدس النسخ المطبوعة من الروايات في المستودعات والمخازن، ولذلك تنعدم الحماس والشغف لتكرار التجربة عند كتابة رواية أخرى بالإضافة إلى ما يكتنف حياة المرأة من حساسية النقاش والطرح في القضايا الإنسانية والظواهر الاجتماعية كما تمثل العادات والتقاليد حاجزاً آخر لبعض الروائيات اللواتي كنا يستخدمن أسماء مستعارة، ويقعن في إشكالية نشر الرواية الثانية أو الثالثة عبر البوح بأسمائهن الحقيقية.
واستضافت «الثقافية» في جزأين عددا من المهتمين بهذا الشأن .
ضريبة النجاح
في البداية أدلى د. سامي جريدي المنصوري الذي تتنوع اهتماماته النقدية بين السرد والمسرح والفنون التشكيلية، ورأى أن الروائي يخاف من أن يخذل قارئه من عدم تحقيق نجاح آخر لروايته الثانية والثالثة فلهذا يركن إلى عدم النشر أو يتأخر في ذلك، ولذا يبقى حبيس صدمة نجاح روايته الأولى والاكتفاء بها وقال :
إن قضية أصحاب المنتج الروائي الواحد أو الوحيد تعد من القضايا الأدبية التي يمكنها أن تكشف عن أمور تتعلق بأسئلة الكتابة وما بعدها، ولا سيما الكتابة في مراحلها الأخيرة، وهي التي يكون فيها العمل جاهزاً للعرض والطرح في السوق الأدبي، وهي فترة زمنية ونفسية حرجة للكاتب الجديد، ففي هذه الفترة يعيش الكاتب قلق التعامل مع القارئ بعد أن كان يعيش قلق كتابة النص، فقد استطاع بعض الكتّاب أن يصفوا لنا بداياتهم غير المستقرة في تعاملهم مع المتلقي، فقد يكون المتلقي راضياً بالمنتج الابداعي الذي قرأه لهذا الكاتب الجديد أو يكون على العكس غير راضٍ عن منتجه الأول ، كما تكشف هذه المسألة عن نوازع الكاتب السرية والمرتبط بعضها بالأحاسيس النفسية من حيث طبيعة خوفه من القارئ؛ وهنا يكون الروائي أكثر حذراً من الخوض في تجربة جديدة يتردد في طرحها، ويشك في مستواها الذي يخاف أن تخذله، أو تكون أقل نجاحا.
بالفعل قد يكون النجاح سبباً في زيادة وتيرة الخوف والقلق؛ وهو عدم خروج الروائي من صدمة نجاح عمله الأول، وهذه هي ضريبة النجاح، فهو يستمر في التسويف الكتابي والمراجعة الدقيقة في كل مرة دون أن يدرك مع ذلك مرور السنوات وتغيرها وعبء المسؤولية.
أما الزاوية المعاكسة التي نجدها لدى الكاتب الفاشل فهو أقل قلقاً من الكاتب الناجح، لأنه مستعد إلى تطوير كتاباته القادمة، وهو ما تمليه عليه أحاسيسه الداخلية ورغبته الدؤوبة في الكتابة مع التغيير والتعديل والاستفادة من تجربته السابقة، ولهذا للأسف استمر بعض الفاشلين في الكتابة في المشهد الأدبي لتوقعهم أنهم سوف ينجحون يوماً ما، وربما إرادتهم بالقوة، ومن خلال منظور الكم الذي يضخون به في الأسواق الأدبية كل عام عبر منتج متواضع وهزيل.
وعلى المستوى الآخر لعل الروائي يخاف من أن يخذل قارئه من عدم تحقيق نجاح آخر لروايته الثانية والثالثة فلهذا يركن إلى عدم النشر أو يتأخر في ذلك.
ومن جهة أخرى تمثل العادات والتقاليد حاجزاً آخر لبعض الروائيات اللاتي برزن في البداية ولا سيما اللاتي استخدمن أسماء مستعارة تنكرن من خلالها، ولم يبحن بأسمائهن، يقعن في إشكالية نشر الرواية الثانية أو الثالثة عبر البوح بالاسم الحقيقي.
وفي أحايين كثيرة تكون الرواية الأولى هي محاولة كشف للمجتمع المحافظ أو المتحرر في تقبله لموضوع روائي يعد عرضاً لقضايا حساسة أو مسكوت عنها، أو غير مرغوب في تناولها، وهذا ما حصل بالفعل لدى بعض الروائيين والروائيات اللاتي تناولن قضايا متنوعة فيها تمرد على القواعد المتعارف عليها مع بداية الألفية الجديدة.
ولهذا اعتقد أن بعض كتّاب الرواية الواحدة أو الوحيدة يمتلكون أعمالاً أخرى قد تكون سرية أو لا يرغبون في طرحها خوفاً من أن يؤثر ذلك على نجاحهم السابق؛ أي أن لديهم أعمالاً لم تظهر، لأن الكاتب الحقيقي مهما كان لا يتوقف عن الكتابة، وهو أمر مستحيل، فالكاتب يعمل في معمله السري مع عوالمه الخيالية، ويجنح إليها، ويكتب ليل نهار، لكنه وفي نهاية ذلك يتراجع عن النشر.
ولعل السبب في ذلك كما يبدو قلة الدعم المعنوي والمالي من الجهات المطلوب منها دعم الأدب والأدباء والأخذ بأيدي كتابها ولا سيما المبتدئين منهم أصحاب البواكير نحو الإنتاج المستمر والنشر والدعاية الإعلامية لهم، ومحاولة تشجيعهم، التي آمل أن تكون هناك رغبة حقيقية موجهة في تشجيع فن الرواية في السعودية، لأن هذا كله يسهم في دعم الأدب السعودي المعبأ بروح الفن والصدق والجمال.
مسؤوليات أسرية
وترى الروائية هناء خشيم في مداخلتها لـ«الثقافية» أن الكثير من الروائيات لديهن اهتمامات ومسؤوليات أسرية كتربية لأبناء والاهتمام بالبيت والزوج، ما يستهلك منهن الكثير من الجهد والوقت، فتجدن صعوبة في تخصيص الوقت اللازم للكتابة مما قد تكتفي بروايتها الأولى وتقول :
ظاهرة الرواية الوحيدة التي تتمثل في إصدار روائي واحد فقط تعد ظاهرة شائعة في الأدب الروائي النسائي السعودي. وبالفعل سبق أن تناقشت مع عدد من الكُتاب عن أسبابها وتأثيرها على المشهد الأدبي بوجهٍ عام. فهناك عدة عوامل تؤثر في اتخاذ الروائيات قرارهن بعدم إصدار روايات أخرى.
أحد هذه الأسباب المحتملة لهذه الظاهرة هو اكتفاء هؤلاء الكاتبات بالنجاح الذي حققته الرواية الأولى، حيث يصب أغلب الظن في أنه من الصعب تكرار هذا التفوق، وأنه كان حظًاً جيدًا لا أكثر، ولن يتمكنّ من تقديم رواية أخرى بنفس المستوى. ويعود ذلك إما لانعدام الموهبة والشغف، وربما لنفاذ الأفكار وعدم التمكن من خلق حكاية جديدة.
وقد يحدث لدى الكاتبة تغيير في اهتماماتها الأدبية ورغبة الكتابة في أنواع جديدة من الأدب، حيث تجد نفسها أكثر راحة وتعبيرًا في هذه الأشكال الأدبية، فتقوم بتوجيه طاقتها الإبداعية نحو أنواع الكتابة الأخرى.
ثم إنَّي أعرف شخصياً روائيات انشغلن عن الكتابة الروائية بالدراسة وتحصيل درجات علمية أعلى. فيحصل لديهن تعارض بين الالتزامات الأكاديمية والكتابة، ولذلك يفضلن التركيز على الدراسة، ما يقلل من تركيزها على الكتابة وتأجيلها لحين إنهاء الدراسة.
علاوة على أن الكثير من الروائيات لديهن اهتمامات ومسؤوليات أخرى كتربية لأبناء والاهتمام بالبيت والزوج، ما يستهلك منهن الكثير من الجهد والوقت، فتجدن صعوبة في تخصيص الوقت اللازم للكتابة والانغماس في عملية السرد الروائي ما يجعله مشروعاً مؤجلاً، وقد يصبح منسي مع مرور الوقت.
أيضاً لا يمكننا إغفال حقيقة أن الكثير منهن موظفات، على عاتقهن مسؤولية كبيرة تحتم عليهن التفرغ لتحقيق النتائج المتوقعة، فيجدن أنفسهن مجبرات على توجيه جل طاقتهن لخلق التوازن بين الوظيفة والمسؤوليات الأخرى، حتى تصبح الكتابة هواية منسية.
ويمكن استعادة لياقة الروائيات في الكتابة عبر تشجيعهن على تجاوز الخوف من الفشل، وتعزيز الثقة على تقديم أعمال أدبية متميزة، ويتم ذلك من خلال برامج وورش عمل لتطوير مهاراتهن الكتابية وتوسيع آفاقهن الأدبية. وتنظيم فعاليات ثقافية لإلهامهن وتوسيع مداركهن الأدبية، كتسليط الضوء على أعمال الكاتبات السعوديات. كذلك دعم الكتابة النسائية وتشجيع الروائيات على التعبير الحر، وتسهيل التعاون والتواصل مع الروائيين والمؤلفين الآخرين، سواء من خلال المشاركة في مجموعات الكتابة أو المنتديات الأدبية، حيث يمكن للتفاعل مع المجتمع الأدبي تعزيز الروح الإبداعية وتوفير المناخ المناسب لهن.
وفي رأيي الشخصي يجب أن تتمتع الروائية بالإصرار والعزيمة للاستمرار في عالم الكتابة الروائية، وأن تستمد الإلهام والدافع من شغفها ورغبتها في التعبير عن ذاتها من خلال الكتابة.
وفي الختام أود الإشارة بأن ظاهرة الرواية الوحيدة منتشرة بين الكُتاب بوجهٍ عام، وإن كانت تتضح على نحو أكبر لدى الكاتبات للأسباب المذكورة التي أسهمت في زيادة انتشارها لدى الكاتبات السعوديات على وجه الخصوص.
رغبة الشهرة
وتُرجع الروائية والأكاديمية د.فضية بنت ثاني الريّس اكتفاء بعض الروائيات بالنصّ الواحد إلى كون التجربة قد تكون ذاتها مدفوعة برغبة الشهرة، وليست رغبة الكتابة، وهناك فرق كبير بينهما وتقول:
مما لا شك فيه أن موهبة الكتابة الروائية هي إحدى المواهب التي تكون موجودة لدى شخص بعينه، هبة ربانية فطرية إذ يتميز من لديه هذه الموهبة في القدرة الفائقة على سرد الأحداث والتفاصيل بطريقة لا يستطيعها من لا يمتلك هذه الموهبة، وعليه فإن الروائي يتعامل مع الحياة بذهنية الالتقاط لكل ما يدور حوله بطريقة تشبه تماما تكون الماء في الجدول.. أنه يمتلئ شيئاً فشيئاً حتى يصل لمرحلة يحتاج فيها إلى الانسياب بطريقة أو بأخرى، وهذا حال الروائي إذ لا يمكن أن يتحمله ما يحمله من زخم وتساؤلات وصراعات داخله دون أن يخرج على السطح ، إذ تتكاثف لدى الروائي عملية الالتقاط لكل المواقف المشاهدة او المسموعة سواء لدى غيره أو ما يختبرها هو بنفسه يومياً ، فطبيعته تجعله يتعامل مع كل حدث، وكأنه ذخيرة يرسبها، ويحتفظ بها داخل نفسه حتى عندما يجتمع لديه ما يكفي تبدأ مرحلة الإلحاح التي تضطر إلى عجن ما لديه وصنع عالم مختلف أساسه حقيقي، ولكنه يحلق به بعيداً ليصنع عوالمه الخاصة والمختلفة والمميزة .
ويبقى السؤال كيف يستطيع شخص أن يكتب رواية شيقة ثم لا يستطيع أن يكتب بعدها شيئاً آخر .. غالباً لا يستطيع الشخص الموهوب أن يبقى لفترة طويلة دون أن يتبع إنتاجه الأولي بإنتاج آخر قد يفصل بينهن عدة سنوات، وهذا أمر عادي جداً لكن أن يبقي العمل لفترة زمنية طويلة دون أن يتبعه آخر فهذا يعني أن هناك خطبٌ ما!
في الحقيقة نحن لا نستطيع الجزم بالأسباب تحت أي ظرف من الظروف، ولكننا نستطيع إن نخمن بعض الأسباب منها على سبيل المثال :
قد تكون التجربة ذاتها مدفوعة برغبة الشهرة، وليست رغبة الكتابة، وهناك فرق كبير بينهما ، فالباحث عن الشهرة يكتفي بأي شيء يصل به إلى عالم الشهرة ولذلك يحقق هدفه، وينتهي الأمر عند هذا الحد أما الموهوب والشغوف بالكتابة فهو بطبيعته لا يستطيع أن يكف عن الكتابة أبداً، ولكن علينا أن نفرق بين الرغبة في الكتابة والرغبة في النشر ، فقد يكتب موهوب الكثير من الكتابات والمقطوعات الأدبية لكنه يحجم عن نشرها لأسباب كثيرة منها مروره بتجربة نشر محبطة أو تعرضه لردة فعل سببت له الكثير من الخوف والتردد، وهذه كلها أسباب قد تجعل الكاتب لا يستسيغ تجربة النشر مرة أخرى، وهناك سبب آخر أقل شيوعاً، وهو أن الكاتب قد يرى الكتابة مسألة تحقيق للذات، ولكنه بعد تجربة النشر الأولى يكتشف أن لديه إمكانيات أخرى يحقق ذاته فيها أهم من مشروع الكتابة ..
ومع ذلك تبقى الأسباب التي نذكرها مجرد تكهنات لا نستطيع أن نصل فيها حد التأكد أو التيقن، فعلى سبيل المثال ما زلت أرى في مشروع بنات الرياض ل رجاء الصانع موهبة أصيلة ومستوى في الكتابة إبداعي، وما زلت أعتقد أن الصدى الكبير الذي حققته الرواية حيث وصلت إلى مستوى العالمية على نحو لم يسبقه مثيل في الروايات السعودية قد يكون كبل الكاتبة بالكثير من القيود التي جعلتها تخشى النشر مرة أخرى وليس الكتابة.
الأسماء المستعارة
وترى د.ناديا الشهري أن ظاهرة الرواية اليتيمة منتشرة عند الأقلام النسائية أكثر من الرجال واختفائهن سابقا بالأسماء المستعارة وألمحت إلى أن المرأة باستطاعتها العودة إلى الكتابة خاصة الآن مع توجه رؤية المملكة في تمكين المرأة والاهتمام أكثر بالنتاج النسائي خاصة، والأدب والفنون والثقافة والمسرح عامة، وقالت : بالنسبة إلي ككاتبة لها إصدارات عديدة، فلم أكن صاحبة الرواية الوحيدة بل إن كل رواية تبعتها رواية وكل قصة ورائها قصة وكل عمل ورائه عمل ونعود لسبب الاستمرار قبل أن نتحدث عن سبب التوقف، فالاستمرار سببه الشغف وزخم الأفكار والخيال لدى الكاتبة رغم الدراسة والبحث العلمي وظروف وانشغالات الحياة، أما أسباب التوقف فكل ما طرح من أسئلة هي أسئلة منطقية وتقارب الصحة فقد يكون السبب أن الكاتبة كان لديها فكرة وحيدة صبت كل شغفها فيها وهذا قد يحدث لأي كاتب فيخرج بنتاج وحيد يبقى يعتز فيه، ويغنيه عن أي حوارات أخرى.
أما البعض ولو عدنا إلى بدايات سنوات القرن العشرين فنرى بعض الكاتبات قد حاربت، وجاهدت لتشارك فكرها الجميل مع الناس رغم قيود المجتمع وبعد ذلك أتعبتها المواجهة فقررت الانسحاب بعد أن أثبتت كونها كاتبة يستحق عملها النشر، ولو كانت تجربة فريدة.
أما البعض وجد في نفسه بأنه طرق باب ليس بابه إنما من باب التجربة ثم لم يجد نفسه في الكتابة، وهذا يحدث مع غير الكُتاب مثل الفنانين، وأي مجال آخر إذن نجد تلك الكاتبة كانت تبحث عن ذاتها فصادف كونها نشرت كتاباً ثم اكتفت، واتجهت إلى مجال آخر ترى نفسها محبة له أكثر من مجال الكتابة الروائية .
أما أن يكون السبب هو الانشغال فهذا غير منطقي لأن شغف الكاتب يجعله يستمر رغم الظروف.
وهذه ظاهرة انتشرت عند القلم النسوي أكثر من الذكوري؛ لكون المجال كان أوسع وميسر للرجل ليس فقط في الكتابة إنما في كافة المجالات لذا نرى الأسماء المستعارة للشاعرات والكاتبات منتشرة سابقاً عند السيدات أكثر من الرجال.