يشهد الحراك الإبداعي والنقدي العربي في الزمن الراهن تحولات جذرية تلفت الانتباه، إذ يظهر تراجع ملحوظ في دور النقد الأدبي وتأثيره على الثقافة والمجتمع، إذ تعد هذه الظاهرة مؤشرًا صادقًا على تحولات عميقة تعصف بالقيم الثقافية والاجتماعية في العالم العربي، وتطرح تساؤلات حول مستقبل الأدب ودور النقاد في توجيه الاتجاهات الأدبية والثقافية.
من العوامل الرئيسية التي قد تكون وراء هذا التراجع هي التحولات الاجتماعية والتقنية الهائلة التي شهدها المجتمع العربي في العقود الأخيرة. فمع تقدم التكنولوجيا وتغير أساليب الاتصال، تشكلت أولويات الأفراد وتغيرت ملامح الثقافة الشعبية، مما أدى إلى تحول في طرق استهلاك المحتوى الأدبي والتفاعل معه. ومن هنا يظهر التراجع في النقد الأدبي كنتيجة طبيعية لتلك التحولات، حيث يبدو أن الجمهور يميل بشكل أكبر نحو استهلاك الأدب الذي يُبنى على مبدأ ترفيهي والسريع ويتجاهل بعض النواحي العميقة والمعقدة للأدب التقليدي.
علاوة على ذلك، يمكن أن يلعب النقاد دورًا حاسمًا في هذا السياق، حيث يعتمد تأثيرهم على قدرتهم على توجيه وتشكيل ذوق الجمهور ورؤيته للأدب. ومع ذلك، قد يجد النقاد أنفسهم محاصرين بين ضغوطات السوق والمطالب المتزايدة لتحقيق الشهرة والانتشار الواسع، مما قد يؤدي إلى انحيازهم نحو الأعمال السهلة والمجازفة الأدبية القليلة.
في لقاء مع بيت اللسانيات، تناولت الناقدة يمنى العيد قضية تراجع الأدب النقدي في الوقت الحاضر، فقد أشارت إلى أن النقد الأدبي الذي كان يقوم على أسس وتقنيات متينة قد شهد انحدارًا، حيث يتميز الأدب الحديث بالمقالات التي تقدم رؤى فقط دون الاهتمام بالتقنيات الأدبية والتأثيرات الفنية، وأضافت أن انتباه القراء والنقاد قد انتقل بشكل متزايد نحو الأعمال الإبداعية، حيث يبدو أن الناقد بات يغوص في عالم الكتابة الإبداعية بدلاً من التركيز على تحليل وتقييم الأعمال الأدبية.
و بشأن الأسباب التي قد تكون وراء هذا التحول، أشارت الناقدة إلى عدة عوامل محتملة، فقد يكون بعضهم يسعى إلى الشهرة والانتشار الواسع من خلال كتابة الأعمال الإبداعية، حيث يعتبرون أن هذا النوع من الكتابة أكثر فرصًا للحصول على اهتمام وتقدير الجمهور، كما أن بعضهم الآخر قد يكونون يرغبون في البقاء على قمة الموجة، حيث يعتبرون أن الانتقال إلى الكتابة الإبداعية هو طريقة لضمان استمرارية اهتمام الجمهور بهم.
بهذه الطريقة، أوضحت يمنى العيد أن التحول من الكتابة النقدية إلى الكتابة الإبداعية يعكس تغيرات عميقة في المشهد الأدبي، ويشير إلى الحاجة إلى إعادة تقييم دور النقد الأدبي وأهميته في تعزيز التفاعل الثقافي والفهم العميق للأعمال الأدبية.
النقد الأدبي، بوصفه فنّ قراءة النصوص الإبداعية، يستلزم تفاعلًا حيًا وعميقًا مع النص، يتجاوز مجرد التلقي السطحي إلى الاستيعاب والتفكير العميق. ففي جوهره يتعدى مجرد تقديم الآراء والانطباعات، إلى استكشاف البعد الأعمق للنص، وتحليل مفرداته وبنيته، وفهم رموزه.
إن عمق القراءة النقدية ينطلق من الفهم العميق للسياق الثقافي والتاريخي الذي نشأت فيه النصوص الأدبية، إلى تفكيك هياكلها وأساليبها الأدائية، و يحاول الناقد استنتاج معاني النصوص ورؤاها، وفهم الغايات التي سعى إليها المؤلف، وتقدير الأثر الذي تركته في الثقافة والفكر والمجتمع.
علاوة على ذلك، يعتمد النقد الأدبي على تحليل دقيق للأساليب الأدبية والتقنيات السردية المستخدمة في النص، وتقييم كيفية تأثيرها على المستقبل، و من خلال هذا التحليل، يستطيع الناقد فهم الفكر الإبداعي للمؤلف، والتعبير عنه بأسلوب يفسح المجال للقارئ لاستكشاف معاني النص بأبعاده المختلفة.
بالنظر إلى ذلك، يظهر أن القراءة النقدية للنص الأدبي ليست مجرد تمرين تلقائي، بل هي تجربة عميقة ومتعمقة تتطلب التركيز والتفكير النقدي، والتفاعل الحي مع النص بكل تعقيداته وجمالياته.
لو نعود إلى ما طرحه أيضا إدوارد سعيد أنه «عادة ما تأتي كتب النقد في موجات مرتبطة بالاتجاهات الأكاديمية، وسرعان ما يتبدّل معظمها بتوالي التحولات في الذوق والدرجة أو الاكتشافات الاكاديمية الحقيقية»،نلاحظ أن أزمة التراجع هذه لطالما كانت تستدرج النقاد والمفكرين للحديث عنها وهنا إدوارد سعيد يرى أنه قد تتأثر كتب النقد بالمدارس النقدية السائدة في الفترة التي كتبت فيها، مثل المدرسة الرومانسية أو المدرسة الوظيفية أو المدرسة البنيوية وغيرها، و ذلك نجده ينعكس في الموضوعات التي تتناولها الكتب والأساليب التحليلية التي تستخدمها.
أيضًا، قد تسهم الاكتشافات الأكاديمية الجديدة في تغيير التوجهات النقدية. فقد يتم العثور على نصوص أدبية مفقودة أو مفاهيم جديدة قد تغير وجهة نظر النقاد تجاه أعمال أدبية معينة أو فترات زمنية محددة.
بهذه الطريقة، تكون كتب النقد الأدبي جزءًا من الحوار الثقافي والأكاديمي المستمر، حيث تتفاعل مع التحولات في الذوق الأدبي والاكتشافات الأكاديمية لتقديم تحليلات جديدة ومفيدة للأعمال الأدبية.
بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن يؤثر تطور الذوق الأدبي والثقافي على اتجاهات النقد الأدبي. فقد يشهد العصر تحولات في الذوق الأدبي، مما يؤدي إلى تغيير في مواضيع النقد وأساليبه. على سبيل المثال، قد يزداد اهتمام الجمهور بالعناصر البصرية والحركية في الأدب، مما يجعل النقاد يركزون أكثر على تحليل الصور البصرية والتقنيات السردية.
ومع تطور التجارة والانتشار المتزايد للكتب، بدأت الكتابة تحظى بقيمة اقتصادية أكبر، و بدأت الكتب تُنتج بكميات كبيرة لتلبية الطلب المتزايد، وأصبحت تعتبر سلعة قابلة للتداول في الأسواق. وهناك ازدهار في صناعة الطباعة والنشر لتلبية الطلب المتزايد على الكتب»تحولت الكتابة إلى مهنة، ثم تحولت من مهنة إلى تجارة، وانقلبت حركة نشر الكتب من تجارة إلى عمل ضخم واسع النطاق» فتحولت من كونها مجرد وسيلة للتعبير والتواصل إلى مهنة تجارية ذات أبعاد اقتصادية وثقافية كبيرة ؛ ففي الأزمنة القديمة، كانت الكتابة تُعتبر فنًا يمارسه القلة القليلة من الأشخاص الذين يملكون المواهب الأدبية أو الفلسفية، وكانت الأعمال الأدبية تنتج بطرق متقدمة، وتحظى بدعم من الحكومات أو الزعماء الدينيين لأغراض دينية أو سياسية.
وبالتالي، يمكننا رؤية كيف تحولت الكتابة من مجرد نشاط إبداعي إلى صناعة تجارية ضخمة واسعة النطاق، هذا التحول له تأثيرات عميقة على المجتمعات والثقافات، حيث تصبح الكتب وسيلة هامة لنقل الأفكار والمعرفة والتأثير على الرأي العام.
وفي العصر الحديث، مع ثورة التكنولوجيا وانتشار الإنترنت، شهدت صناعة الكتب تحولًا جذريًا. أصبح من السهل جدًا نشر الكتب وتوزيعها بشكل رقمي، مما أدى إلى زيادة الوصول إلى المحتوى الأدبي. فقد أصبح يمكن للأشخاص اليوم الوصول إلى آلاف الكتب والقصص والمقالات بسهولة مطلقة، مما يوفر لهم تجارب أدبية متنوعة وغنية ولكن في الوقت نفسه، أصبح التنافس في سوق الكتب أشد حدة، حيث يتم نشر الآلاف من الكتب يوميًا، وتنافس بعضها البعض على انتباه القراء المستهلكين لا الواعيين بالكتاب، ما جعل هذا التنافس يؤثر على دور النقد الأدبي وانتشاره. فبالرغم من أن التكنولوجيا الحديثة جعلت الوصول إلى المحتوى الأدبي أسهل من أي وقت مضى، إلا أنها في الوقت نفسه خلقت تحديات جديدة لتفاعل الجمهور مع هذا المحتوى، و القارئ اليوم لم يعد بحاجة إلى الاعتماد على الإصدارات المطبوعة فقط، وبالتالي يمكن أن يتراجع الطلب على النقد الأدبي التقليدي الذي يركز بشكل أساسي على تقييم الكتب المطبوعة.
بالإضافة إلى ذلك، يشكل انتشار وسائل التواصل الاجتماعي من قنوات ومنصات إلكترونية ومنصات النشر الرقمية تحديات جديدة للتجربة الأدبية، حيث يتم تبادل القصص والآراء بسرعة فائقة وبشكل واسع النطاق، ما نلاحظه اليوم على صفحات الفيس بوك و منصة إكس X ومختلف المنصات التواصلية، يمكن أن يؤدي ذلك إلى فقدان الارتباط العميق بالنصوص وانخفاض مستوى التفاعل النقدي. فمع تنوع في توفر منصات التواصل الاجتماعي والمدونات الإلكترونية والمواقع الثقافية على الإنترنت، أصبح من السهل على الأفراد نشر آرائهم وتقييماتهم حول الكتب والأعمال الأدبية، هذا يعني أن النقد الأدبي قد يصبح أكثر تنوعًا وتشعبًا، وقد يفقد بعض النقاد التقليديين سلطتهم وتأثيرهم في توجيه ذوق الجمهور.
وبهذا، يظهر أن التكنولوجيا الحديثة قد أحدثت تحولًا في تجربة القراءة والتفاعل مع الأدب، مما يطرح تحديات جديدة أمام دور النقد الأدبي والناقد في توجيه القراء وتحفيزهم على التفكير العميق والتفاعل النقدي مع النصوص الأدبية، فتطور النشر الرقمي والإلكتروني قد يؤدي إلى تحويل المسار في المشهد الثقافي والأدبي. فقد يؤدي أيضا هذا التحول إلى تغيير في توجهات النقاد واهتماماتهم؛ بحيث يكون هناك تركيز أكبر على تقييم الكتب والأعمال الأدبية التي تتمتع بشعبية كبيرة عبر الإنترنت والتي تحقق نجاحًا كبيرًا في المنصات الرقمية والأكثر بيعا على مواقع البيع الإلكترونية، مما قد يقلل من اهتمام النقاد بالأعمال الأدبية المرموقة والتي تستحق الدراسة والاهتمام، هذا لا يعني أننا ضد دراسة الاعمال الشهيرة رقميا ولا ننفي جدّتها وقيمتها الفنية، ولكن هناك أعمال مطبوعة غير منشورة رقميا تستحق المراجعة والاهتمام النقدي بها.
إن التوجه نحو التجارب البصرية والملموسة التي تقدمها التكنولوجيا بوسائطها المتعددة المرئية، والتي قد تكون أكثر جاذبية للشباب بمقارنتها مع تجربة القراءة أصبح أكثر اهتماما فالأجيال الجديدة يميلون بشكل متزايد نحو استهلاك المحتوى الترفيهي السريع والمبسط على وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات البث الرقم ية.
إن لم نكن نبالغ يمكننا القول إن النقد الأدبي اليوم نراه يتجه نحو احتياجات السوق المزعومة؛ حيث أنه لم يعد متوهجا كما كان في الفترة من السبعينات إلى التسعينات من القرن الماضي، حيث تحولت النظرية الأدبية إلى مجموعة رؤى، ولأن النقد والأدب يتبادلان الجودة والتفاعل نرى أن جودة العمل الأدبي قد تراجعت ما أدى إلى تراجع النقد، هذا ربما راجع لقلة وجود القارئ الواعي، فلا نجد ذلك القارئ الذي يتعمق في النص من خلال قراءته الواعية وإنما أصبحنا نرى حضورا لقارئ مستهلك، يقرأ العمل الأدبي قراءة بسيطة سطحية دون تعمق في الأسس والحيثيات.
تظهر هذه العوامل كجزء من تحولات أعمق تشهدها المجتمعات العربية، وتسلط الضوء على الحاجة إلى إعادة تقييم دور النقد الأدبي وتعزيزه في مواجهة التحديات الراهنة، ثم إن تشجيع القراءة وتعزيز الوعي الأدبي يعدان خطوتين أساسيتين في هذا السياق، إلى جانب العمل على تطوير بنية تحتية ثقافية تدعم النقد الأدبي وتسهم في تعزيز دوره في المجتمع.
و مع ذلك، يجب ألا ننسى أن القراءة والنقد الأدبي يلعبان دورًا هامًا في تنمية الذكاء وتوسيع آفاق الفكر وتعزيز التفكير النقدي. وعلى الرغم من انخفاض الاهتمام الملحوظ بالقراءة والنقد الأدبي في بعض الأوساط، إلا أن هناك جهوداً مستمرة لتعزيز الوعي بأهمية القراءة وتشجيع الشباب على الاستمتاع بالأدب والتفكير فيه بشكل أعمق وأكثر انخراطًا؛ لذلك، يبدو أن التحديات التي تواجه النقد الأدبي في العالم العربي تتطلب مراجعة شاملة للأولويات والاستراتيجيات، بحيث يتمكن النقاد من تعزيز دورهم كمرشدين ثقافيين وحكام للذوق العام، بدلاً من أن يكونوا مجرد رواد في سباق الشهرة والانتشار.
** **
- الريم حجوج