من يقرأ رواية (سيرة حمّى) للروائي السعودي خالد اليوسف، يدرك من صفحتها الأولى أن البعد السياحي بعد مهم من أبعادها، وأن اهتمام السارد بجماليات المكان اهتمام يتخطى حاجز إعداد مسرح الأحداث إلى الترويج للمكان، وإبراز ما به من تنوع بيئي، وجمال فطري، وتطور جلي، وأن هذا البعد يتداخل مع البعد الذي يطرحه العنوان، وهو التأريخ لجائحة كورونا، وانعكاساتها على طبيعة الحياة، وتداخل معه فنيًا، حتى أصبحا بؤرة النص، ومرآته العاكسة رؤية الكاتب.
يحضر في النص (سيرة حمّى) فضاءان: الأول الفضاء الصحراوي، والثاني الفضاء الحضري، داخل كل منهما تفصيلات تصنع مجتمعة لوحات حافلة بعناصر الجمال الجاذب الآخر إليها، وهي عوامل طبيعية، وتاريخية، وجغرافية، وثقافية، تناسب الأذواق كافة.
_ فضاء الصحراء:
الصحراء في (سيرة حُمى) ليست الأرض الموحشة الخالية من أسباب الحياة، بل هي الفضاء النقي، والجمال الطبيعي، والحياة الفطرية، والهدوء المريح، والملجأ الدافئ المخلّص الأرواح من أعباء العيش بين التكتلات الخرسانية بالمدن، والمسرح الآمن للانطلاق، ومكمن الإثارة والمغامرة، والممتعة، ليلًا ونهارًا. «مثيرة في النهار، وفي الليل تكون أكثر إثارة وعجبًا، ترى النجوم بين يديك، صغيرها وكبيرها، وفتنة التحديق في النجوم لا توازيها أية فتنة أخرى جمالًا... منازلها، حركتها، رسومها العجيبة آية عظمى لرب العباد» ص6.
حرص السارد على إبراز الجانب المشرق في الفضاء الصحراوي، بالتركيز على المكونات الجاذبة الآخر إليه، والآخر هنا تعني كل من لم يجرب الحياة في البيئة الصحراوية؛ لذلك كثرت اللوحات الواصفة للفضاء الصحراوي. وهي لوحات مفعمة بأسباب الجمال، استثمر السارد في رسمها طاقات الألوان والروائح، والأبعاد التاريخية والجغرافية والثقافية ببراعة ظاهرة.
ففي رحلته إلى أرض (الصمان) يصف الطريق إليها وصفًا جغرافيًا جماليًا، يحدد فيه الطرق الموصلة إليها، والمسافة بينها وبين العاصمة الرياض، ومحطات الوقوف، ويرسم لوحة ذات أبعاد جمالية خاصة تأسر نفس المتلقي، وتوجه ذهنه إلى التفكير في المكان. «انطلقت رحلتكم خارج الرياض باتجاه الشرق عبر طريق الدمام، ثم باتجاه الشمال الشرقي إلى رماح التي تقع وسط الرمال الحمراء، ومازلتم سائرين على طريق معبّد بالأسفلت، واضح كوضوح الشمس، وبعد مسيرة طويلة بدأت تتضح لكم معالم (الدهناء) الرملية الذهبية، بكثبان عالية متحركة عند هبوب الرياح، مكونة في بعض مواقعها جبالًا حمراء، ثم مررتم بمدينة (رماح) بعد أن تجاوزتم مائة وستة وعشرين كيلو مترًا خلفكم، وهي ليست مقصدكم، بل هي موقع التزود ببعض ما ينقص رحلتكم» ص10، 11، ثم يقف على جمالها في فصل الربيع، ومن خلال لوحات وصفية مكتوبة بدقة يعرّف القارئ بربيعها. «يسكنك ربيعها، وأشجارها، ونباتاتها الموسمية، ومشاهد قطعان الرعي في مسيرات متواصلة، من روضة إلى أخرى، وتشدك الإبل بألوانها المثيرة جميعها (الوضح، والمغاتير، والمجاهيم، والصفر، والحمر)، تأسرك بيوت الشعر السوداء المتناثرة بين الأعشاب، وبعضها في أعالي الهضاب» ص 6، ويصف أشجار سدرها وصفًا ممزوجًا بالمعلومة الدقيقة المبسطة المناسبة للتعريف بمكونات المكان دون تعمق، ويصف آبار أرض اللهابة المبنية وفق مقاييس هندسية دقيقة لتحقيق أكبر استفادة من مائها. « أعجبتك طريقة بناء البئر الواسعة بالحجارة، وبدت وكأنها من عمل آلة ميكانيكية، ثم البرك الصغيرة من حولها التي تمتلئ بالماء الخارج منها، حيث خصص بعضها ليكون مشربًا للإبل، وهي عالية الجدران، بينما خصصت أخرى صغيرة لشرب المواشي» ص17.
ويستكمل الصورة بالحديث عن ليلها الساحر، حيث العناقيد النجمية، والكواكب السيارة التي يمكن متابعتها في السماء الصافية بالعين المجردة. «طلبت منهم التمعن في السماء لرؤية شهب الجباريات من الناحية الشمالية للسماء، وكذلك وضوح رؤية بعض الكواكب في هذه الأيام، مثل: عطارد، وزحل الأحمر، والمشترى المخطط عرضًا، وأخبرتهم أن أورانوس والزهرة ستتضح رؤيتهما بعد أيام» ص 19، وعن الأشجار التي « يزداد جمالها وبهاؤها بصوت الطيور المعششة بين أغصانه» ص26، وعن السمر الليلي، والشعر والغناء.
يرتبط بالبعد السياحي الإرشادات التي توجه للزائرين، وهي تتجلى في غير موضع من الرواية، فالسارد يحدد للزائر المواقع المناسبة للتخييم لتجنب زواحف الصحراء، والسيول التي قد تملأ الوديان دون تحذيرات مسبقة. يقول:» وأخبروك حين سألت عن سبب اختيار الارتفاع بدلًا من الانخفاض في الأسفل، بأن فترة الوسمي لا أمان لها؛ فأمطارها متوقعة، ولربما جاء سيل منقول والجميع نيام، فيتسبب في إغراقهم، والمرتفعة أصح وأسلم من مخاطر الدواب، ومن مضار الحشرات» ص 18، وينبه على خطورة النزول إلى الدحول بسبب النواتئ الصخرية الحادة التي لا يسلم الجسد منها، في أثناء النزول والخروج مستشهدًا ببيتين للشاعر عبد الله بن خميس لخص فيهما تجربة نزوله وخروجه من دحل الهشامي.
لقد نجح السارد بلوحاته الوصفية ذات الأبعاد الجمالية والجغرافية والمعرفية التي تتخطى اللغة فيها حاجز البعد التواصلي إلى البعد التأثيري في إغراء المتلقي بزيارة الفضاء الصحراوي، وأثار نفسه بمجموعة الأسئلة المتتالية التي طرحها (د. خزيمة) على نفسه وهم في طريق العودة إلى الرياض « ألا يكفي أن أعيش في متعة الحرية الطبيعية؟ ألا يكفي أن أكون في نقاوة، وفي صفاء، وفي انشراح؟ ألا يكفي أن أستنشق هواءً عليلًا لا عبث في مكوناته، وفي طهارته؟ ألا يكفي أن أكون مع رجال لهم تجربة حياتية صلبة، لا نعرفها إلا في مثل هذه المواقف؟ ص 35؛ فهي ليست أسئلة تبحث عن إجابات، إنها مثيرات تحرك ما لم تحركه اللوحات الوصفية في نفس المتلقي.
_الفضاء الحضري:
عناصر الجذب السياحي في الفضاء الحضري في (سيرة حمى) كثيرة، وتتنوع بين عناصر دينية، وتاريخية، وأثرية، وطبيعية، نجح السارد في استثمارها لرسم صورة سياحية جذّابة لمدينة الطائف، التي توقف فيها (د. خزيمة) وصديقه (حاتم) في أثناء رحلتهما _ بعد انتهاء الحجر _ إلى مدينة جدة للتخلص من آثار الحجر النفسية التي عانيا منها كثيرًا.
في الطائف تقمص (حاتم) دور المرشد السياحي العليم، فمنح بمعلوماته السارد الفرصة لرسم لوحة كبرى لمدينة الطائف، مفردتها المساجد القديمة والحديثة، والأحياء الشعبية، والأسواق والقصور التاريخية، والشوارع، والمتنزهات، لوحة تهتم بالبعد الجمالي وبالمعلومة المبسطة الكاشفة عن تاريخ المكان، فبدا السرد وكأنه سرد استقطابي، هدفه جذب القارئ إلى هذه المدينة التي بهر بها (د. خزيمة) الشخصية الرئيسة.
يقول عن مسجد عبد الله بن عباس التاريخي الأثري القديم الذي بني بجوار قبره: «وأخبرك صديقك حاتم أن هذا المسجد من أقدم مساجد الجزيرة العربية، وأنه يعود إلى القرن الخامس أو السادس الهجري... ثم قمتما بجولة بين أروقته القديمة والحديثة، وصديقك حاتم يشرح لك كل ما يعرفه من معلومات عن هذا المسجد، وكذلك موقع القبر المجهول، وقبور الشهداء _ رضي الله عنهم _ من الصحابة المجاورين» ص 135
ويقول عن مسجد الملك فهد: « مسجد كبير جدًا، تتقدمه منارتان عاليتان، وتتوسط سقفه قبة عظيمة، ويحمي جدرانه من الداخل ومن الخارج كساء الرخام والحجر المنحوت، أما القبة فكسيت بالرخام الأخضر. أخبرك صديقك حاتم أن هذا المسجد سمي باسم الملك فهد؛ حيث إنه هو من فتحه في عهده ... وهو ضخم المساحة والأروقة الداخلية التي صممت على شكل مربعات متقاربة؛ لتحمل السقف الكبير، ويعتمد المسجد على التهوية الطبيعية؛ لذا لا يوجد فيه أي مكيف» ص152.
ويرتبط بالمساجد الأذان الحجازي الشهير «ذي الطبقات الصوتية المختلفة عن غيره» ص135، الذي يستدعى عند سماعه الأذان في الحرم المكي الشريف، ومشاهير الأئمة مثل الشيخ محمد الحلواني « وهو من المقرئين المعروفين وله صوت جهوري مميز، فعندما تسمع قراءته تتذكر الشيخين الحصري والمنشاوي» ص153.
المدقق في الوصف يتضح له أنه ليس وصفًا لمسرح أحداث الحكاية فقط. إنه وصف مروج للمكان عبر المحكي الروائي؛ فالوقوف على تفاصيل، مثل (موقع القبر المجهول، قبور الشهداء، الأروقة القديمة والجديدة، القبة الخضراء، الرخام والحجر المنحوت، التهوية الطبيعية، الأذان، الإمام الشهير) يثير المتلقي ويدفعه إلى التفكير في عبقرية المكان، وعبقرية مكوناته.
ويقول عن زيارته للسوق القديم بالطائف الذي يفوح منه عبق التاريخ:» اتجهتما إلى السوق القديم، الذي مازال يحتفظ بشموخه وببنائه التاريخي، ووقفتما عند مسجد داخلي أخبرك صديقك حاتم أنه مسجد الهادي، وهو كذلك من المساجد القديمة في (الطائف)، حيث يقع وسط برحة القزاز، وأخبرك حاتم أن من ملامح الخصوصية والتفرد في هذا السوق أن تجد محال بيع العسل، ومحال بيع المنتجات العطرية من النباتات بعضها بجوار بعض؛ لذا فإنك بمجرد المرور أمامها تستنشق رائحة الورد، والكادي، والزهر، وغيرها.. بالإضافة إلى محال الملابس التقليدية القديمة للرجال والنساء، وقد امتزج القديم بالحديث في معظم المحال» ص 137.
الوصف يوحي بأن السارد ليس الرحالة المعني بالتفاصيل المادية للمكان، وليس الجغرافي المشغول بالمساحات والحدود؛ فهو فنان يهتم بأثر المكان في النفس، ويسعى إلى إبراز مقومات جماله مستثمرًا طاقات اللون والرائحة، أكثر من تحديد أبعاده وجغرافيته، فمفردات صورة السوق (العسل ـ الورد ـ الكادي ـ الزهر ـ الملابس التقليدية)، مفردات مثيرة تحرك دواخل النفس، وتخلق حالة وصل بين المتلقي والمكان، فيعيش داخله ويستنشق عطوره، ويستمتع بملامح مكان يجمع بين الأصلة والمعاصرة، على صفحات الرواية، وهي حالة استقطابية، تدفع المتلقي دفعًا لزيارة المكان.
ولأن متطلبات الزائر متنوعة يقف السارد أمام قصور المدينة وآثارها التي تمثل أحد أهم معالمها، مثل: قصر (الباقوري)، وقصر (الكاتب)، وقصر (الصيرفي)، وقصر شبرا، و(خان الملطاني)، وأمام المتنزهات الحديثة (النقبة الحمراء)، والمباني والفنادق الفخيمة، التي تحول أحدها ليكون الديوان الأميري الكويتي، في أثناء الغزو العراقي للكويت، وجامع الهدا، وحدائق الردف، وحديقة الحيوانات. وأمام مطاعم المدينة، مثل: مطعم قاصد كريم، ومخابز التميس الأفغاني، والوجبات الشعبية الفلسطينية، و(السليق الطائفي) الذي اشتهر بتقديمه مطبخ سويد، ومطامع الوجبات الأمريكية الشهيرة (الهامبرجر)، لكن بنكهة محلية. فجعلها مدينة مناسبة للأذواق كافة.
ويستكمل اللوحة الجميلة بالتركيز على جانب جمالي آخر من جوانب الجمال في المدينة، وهو طبيعتها الجبلية الخلابة، وغاباتها الشجرية، وأشجارها المثمرة، وورودها، وضبابها، وسدودها، وأوديتها، وجوها المعطر برائحة زهورها وفواكهها « الهواء المفعم بروائح البساتين قد عم المكان، فشعرتما بأنه يتلون بتعدد الثمار التي تحملها الأشجار، فمرة تأتيكما رائحة الخوخ والمشمش في خليط عطري مثير، ومرة تأتيكما رائحة الرمان، الذي بدأ ينضج، ويهز الأغصان هزًا، ليتساقط ناضجًا بلونه الأحمر الفاتن، وأخرى يداعب الهواء الأرض، لتسري روائح النباتات الطبيعية المنتشرة في أرجاء الوادي» ص177، وبسطات بيع الفواكه، وقرود البابون.
إن السارد في النص الأدبي ذي الأبعاد السياحية يضع أمام المتلقي لوحات وصفية تؤدي حركة مكوناتها مع الألوان والروائح دورًا مهمًا في إبراز ملامح جمالها الأخّاذ، الدافع المتلقي إلى استكشاف فضاء السرد، إما للاستمتاع بما أغراه به السارد، أو للتأكد من صدق وصفه، وفي الحالتين يتحقق البعد السياحي الاستقطابي للصورة السردية.
إن أجمل ما في (سيرة حمى) عدم طغيان أحد بعديها على الآخر، فالبعد الوبائي الظاهر في العنوان، كان دافعًا لبروز البعد السياحي، والبعد السياحي أفاد البنية السردية، وأفاد فكرة الرواية، ويحمد هذا لخالد اليوسف كثيرًا.
** **
أ.د.أبو المعاطي الرمادي - أستاذ الأدب والنقد بجامعة الملك سعود