الشكلانيون الروس أو الشكلية الروسية كما أطلق عليها مناهضوها، أو المستقبليون أو أصحاب النظرية الشائعة كما أطلقوا هم على أنفسهم، هم حركة مؤثرة في مجال النقد الأدبي ظهرت في روسيا في بدايات القرن العشرين، وتحديدًا بين عامي 1915م وما بعد 1930م، وهذه الحركة تشمل أفكار وآراء عدد من المفكرين واللغويين والنقاد الروس الذين أثّروا في ساحة الأدب والنقد، وكانت الآثار الأدبية هي محور دراساتهم الأدبية، فقد قاموا بدراسة عناصر بنية النص الأدبي، وأكدوا على خصوصية لغة الشعر والأدب واستقلالها، واهتموا باللغة والشكل للنصوص الأدبية، وأهملوا حياة المؤلف وبيئته، واتّبعوا طريقة علمية في دراساتهم استبعدوا فيها المناهج النفسية والاجتماعية والتاريخية في نقدهم ودراستهم، فالشكلانيون عزلوا النص عن ارتباطاته الاجتماعية والنفسية والتاريخية ومؤثراتها في النص الأدبي، وعدّوا النص الأدبي بنية مستقلة قائمة بذاتها، وحوّلوا الاهتمام من المؤلف إلى النص. واهتموا بالأدب والدراسة الأدبية وبالأدوات الأدبية وتقصّي نشأتها وتتبع ماهية الأدب وركزوا عليه، كما اهتموا بالشعر واللغة الشعرية، واهتموا بالسرد وبالبُنى والوظائف التي تتحكم في القصة، وحاولوا تأصيل شروط لأدبية النص تجعل من النص نصًا أدبيًا. ومن آثارهم المؤثرة قولهم إن طغيان شكل أدبي جديد لا يعني بالضرورة عدم عودة الشكل القديم من جديد، وأن القيم الفكرية والأدبية لا تموت، لأنها تدور بين الوجود المطلق والعدم، ولا تخلص لأيٍّ منهما، فتعود الأفكار القديمة لتنبعث مجددًا، وهي مقولة في صميم الدراسة الأدبية والفكرية.
والشكلانية الروسية في الحقيقة تجمع بين مؤسستين أدبيتين بارزتين هما: «دائرة موسكو اللغوية» في موسكو والتي من أعلامها فورتوناتوف ورومان جاكوبسون وغريغوري فينوكور، و»جمعية دراسة اللغة الشعرية» في سانت بطرسبرغ (عاصمة روسيا القيصرية السابقة)، ومن أبرز أعلامها فيكتور شكلوفسكي ويوري تيانانوف، يضاف إليهما «دائرة براغ اللغوية» التي أنشأها جاكوبسون نفسه لاحقًا هناك.
وللشكلانيين الروس دور كبير في تطور الدراسات الأدبية والنقدية وأبحاثهما، وقد شكلت جهود وأبحاث هؤلاء في الأدب والنقد ظاهرة كادت تتحول إلى نظرية، أُطلق عليها «النظرية الشائعة»، وكانوا يفضلون تسمية حلقتهم بـ»مدرسة المستقبليين»، لكن مناهضوهم أطلقوا عليهم اسم «الشكلانيين» لاعتقادهم أنهم اهتموا بالشكل أكثر من المضمون.
عمومًا فإن نظرية الشكلانيين درست الأدب بحثًا عن أدبيته خارج الاتجاهات النقدية والبحثية السياقية السائدة. ونظرًا لما قدمته الشكلية الروسية من أفكار وأبحاث، فقد أحدثت الكثير من التحولات في المجال الأدبي؛ مما أدى أن يكون لها دور واضح وجليّ في ظهور ما يعرف بـ «نظرية الأدب»؛ ونظرية الأدب باختصار هي مجموعة الأفكار والآراء العميقة المترابطة المستندة على نظرية معرفية أو فلسفية محددة والتي تهتم بالبحث في نشأة الأدب وطبيعته ووظيفته؛ فهي تدرس الظاهرة الأدبية من منطلق شمولي بغية استنباط وتأصيل مفاهيم عامة تبين حقيقة الأدب وآثاره، حيث تحاول وضع إجابات منسقة ومتكاملة حول الأدب. فنحن نجد الكثير من الأفكار الجزئية لكنها لا تستند إلى فلسفة محددة ولا ترقى إلى مستوى نظرية، إذا علمنا أن اللبنات الأولى لأفكار النظريات قد عُرفت منذ القدم.
ظهرت العديد من النظريات الأدبية على مر العصور، وكل نظرية تحاول الإجابة عن أسئلة حول الأدب من مثل: ما الأدب؟ ما مصدره؟ وما وظيفته؟ هل هو فن لغوي أم لغة خيال؟ أم شكل جمالي صِرف؟ هل له صلة خارج النص؟ أم هو تعبير عن رأي المبدع؟ هل هو إلهام أم تدفق شعوري أم انعكاس أم خلق؟ ومحاولات الإجابة عن مثل هذه الأسئلة أدت لظهور العديد من النظريات الأدبية منذ القدم.
وجاء التحوّل في عام 1917م عندما نشر فيكتور شكلوفسكي أحد الشكلانيين الروس مقالًا بعنوان «الفن بوصفة أداة»، ذلك المقال الذي أدى فيما بعد لازدهار كبير في نظرية الأدب؛ فطرأت تحوّلات عميقة لمعاني «الأدب» و»القراءة» و»النقد» بعد ذلك على مر السنين، فانتشرت هذه الثورة النظرية خاصة لدى المتخصصين والباحثين، لكنها لم تنتشر كثيرًا ولم تمارس تأثيرها بشكل مطلوب خارج دائرة المتخصصين، كطلاب الأدب والقرّاء.
وفي هذا المقال يُخالف شكلوفسكي رؤى سابقة عن الأدب على رأسها رؤية اللغوي الروسي «ألكسندر بوتيبنيا» التي «ترى الأدب على أنه تفكير بالصور»، أما شكلوفسكي فينظر للصورة في الأدب بشكل مختلف حيث يقول: «الفرق بين رؤية «بوتيبنيا» وبين رؤيتنا للصورة، أننا لا نرى الصورة بوصفها مرجعًا أساسيًا دائمًا لنواحي الحياة المختلفة؛ إذ إن هدف الصورة ليس إفهامنا المعنى فحسب، وإنما هدفها خلق معنًى له طريقته الخاصة في إدراك الموضوع، إن الصورة تساعد على خلق رؤية لكيفية إدراك الموضوع، بدلًا من ذلك الإدراك المعتاد للمعنى كما هو».
يرى شكلوفسكي أن الهدف الرئيسي للفن هو تقديم الأشياء المألوفة بطرق غير مألوفة، حيث يقول: «التعوّد يلتهم الأعمال والملابس والأثاث والخوف والحروب..، والفن موجود كي يتمكن الإنسان من استعادة الإحساس بالحياة، إنه يوجد لكي يحسّ الإنسان بالأشياء، كي يجعل من الصخر صخرًا، إن الهدف من الفن هو نقل الإحساس بالأشياء كما تُحَسّ، وليس كما هي معروفة». وأداة عمل الفن في ذلك هي «تغريب الأشياء»، أو ما يُعرف بـ»إزالة الأُلفة» أو «إضافة الغرابة» على الأشياء، وهو يقصد أن وظيفة الأدب هي تغيير نظرتنا من «الاعتياد المفرط» لرؤية الأشياء، وإعادة الوعي والإدراك لنا لنرى الأشياء ليس كما هي عليه حقيقة، بل - ومن خلال عملية التغريب أو نزع الألفة – نراها وندركها بطرق مختلفة، فنراها بابتداع جديد بخلاف ما هو مألوف واعتيادي، فمثلًا نرى الصور والمعاني الشعرية ليس كما هو مألوف، فالشاعر يستعمل الصور والمعاني نفسها ولكنه يعيد ترتيبها بطرق وسياقات تجعلنا ندركها بطريقة غير مألوفة، حتى نشعر بأن ذلك إبداع وخلق وتكوين جديد، وليس مألوفًا من قبل، هذا الإدراك الجديد للصورة وللمعنى ونقل الشعور بهما للمتلقّي هو ما يعنيه شكلوفسكي في مقالته سنة 1917م التي أدت لهذه الثورة النظرية في مجال الأدب ونظرياته.
أما الشكلانية الروسية عمومًا فلها عدد من الاتجاهات الفرعية تتباعد وتتقارب فيما بينها، فهي حركة نقدية لها فروع واتجاهات متشعبة ولم تصل في العموم للنظرية المتماسكة الموحدة ربما لاختلاف اتجاهاتها وآلية دراسة أفرادها، وعلى كلٍ فقد أسهم ذلك في تطوير الدراسة الأدبية بعدها، حيث كان للشكلانيين الروس أثر كبير في التنبيه إلى الإشكالات الرئيسية في الدراسة الأدبية والنقد الأدبي، وذلك من ناحية الموضوع بشكل خاص، حيث غيّر الشكلانيون ودراساتهم كثيرًا من المفاهيم التي تندرج ضمن طبيعة الأدب، وأعادوا القضية وإشكالاتها إلى أجزائها الأساسية التي يمكن البدء منها في الدراسة والبحث.
ولعل أكبر آثار الشكلانيين الروس عمومًا - في نظري – هو أثرهم على ما جاء بعدهم من مناهج وتيارات ونظريات أدبية ونقدية، وخاصة دورهم في ظهور البنيوية، فقد ساعدت الاتجاهات المتعددة عند الشكلانيين الروس ما تقارب منها وما تباعد في ظهور مدرسة براغ البنيوية في منتصف العشرينات، ومن ثم تبلور المدرسة البنيوية الفرنسية منذ الأربعينات وما تلاها من القرن العشرين.
** **
د. ساير الشمري - دكتوراه في الأدب والنقد