حاورها - فيصل العتيبي:
نستضيف في هذا الحوار الروائية أميرة المحارب الأكاديمية في جامعة الباحة، وصاحبة التجربة الكتابية الفريدة، لتتحدث لكم د.أميرة في هذا الحوار عن شيء من سيرتها، وعن تجربتها الروائية، وتطلعاتها ومشاهداتها للمشهد الثقافي.. فإلى نص الحوار
* بصفتك باحثة في المدونة السعودية، أي الأجناس الأدبية المحلية قادرة على الوصول للعالمية؟
- جميع الأجناس الأدبية قادرة على الوصول إلى العالمية إذا أتقنت لغة التجاوز ومبدأ الكونية، بيد أن السرد -الرواية تحديدًا بما يمثله من وثيقة اجتماعية وثقافية حضارية، وحاجة الإنسان الدائمة لأن يكتب ويسرد ويمثل تجاربه بين الممكنات والمكنونات ويسعى لتخزينها، وما تمثله الرواية من انتشار عالمي كبير، هو الأقرب للوصول للعالمية، ولا شك أن الترجمة واختيار دار النشر الجيدة يسهم في تحقيق ذلك، وقد ساعدت أحداث 11 سبتمبر 2001 في رغبة الآخر بالتعرف إلى مكونات ثقافتنا وكيفيات تشكل المعنى العميق لتفكيرنا ووعينا. سعى الروائيون السعوديون إلى ترجمة أعمالهم السردية وتقديمها للعالم؛ فهناك رواية الحزام لأحمد أبي دهمان التي كتبت أولًا باللغة الفرنسية ونشرتها دار غاليمار ثم نقلت إلى العربية وإحدى عشرة لغة أخرى. ورواية القندس لمحمد حسن علوان التي ترجمت للفرنسية، ورواية خاتم لرجاء عالم ترجمت إلى الإنجليزية والفرنسية، ورواية القارورة ليوسف المحيميد بترجمتها للإنجليزية والروسية، وترمي بشرر لعبده خال وبنات الرياض لرجاء عالم المترجمة للإنجليزية والعديد غيرهم في محاولة لتقديم صورة وجودية عن قرار الذات في المعنى والفعل والرغبة للآخر.
* حصلتِ على درجة الدكتوراه بتقدير ممتاز عن رسالتك (النسق والتشاكل والمدار في الرواية السعودية) ما هي الصعوبات والعقبات التي واجهتيها في أثناء عملك في هذا المشروع العلمي؟
- هي رحلة ماتعة رغم الصعوبات التي واجهتني بصفتي باحثة في السيميائيات وجدة الموضوع وتمفصلاته الدقيقة، صعوبته في أن أصنع نفسي على عيني في أن أثابر وحدي وأصل. كان لي شرف تطبيق دراسة سيميائية حديثة على المتن الروائي السعودي، أن أنقل هذه المساحات المحلية إلى فضاءات جديدة، وكان ذلك ديدني وأسلوبي في خلق تمايز ما أصبو إليه على الدوام. ثقة بنيتها من إصراري على التعلم وتحليل الخطأ والجد والاجتهاد المستمر. من الصعوبات أيضًا البيروقراطية التي ترى في الكم مفازة علمية، في حين أن الكيف يقودنا إلى دراسة دقيقة ونتائج مدروسة، لكنني انتهجت طريقتي وانتبذت من البحث ما يروق لأدواتي بأن تكتب به وتتبناه ميثاقًا.
* كيف انبثقت فكرة إصدارك (رصيف الطهارة)؟
- يحدث أن نواجه أشخاصًا ممتلئين بالتناقضات والأقنعة المتعددة؛ يثيرون في دواخلنا مئات من الأسئلة، حدث أن التقيت بـ(نجد) بطلة العمل واستمعت إلى ذاكرتها، فاوضتها على الورق وتيقنت من سيطرتي عليها فكرة وسيرورة، لكنها قلبت الموازين وخانت المؤلفة، كبرت على الورق والفكر واستبسلت على السيرورة، كتبت ما تشعر به لم تخجل منه، صوتها الذي تلاشى في واقعها، عاد على الورق يتأمل كيف يدوزن اللحن ويطرب الجمهور، غبتُ تمامًا عن المشهد، وسحبتني لمنطقتها وشلالات روحها، تحملتُ أوجاعها، وانتهينا في آخر السرد، وانتصرت بنبوءتها بتمكين المرأة وقيادتها لسيارتها من عام بشهر مارس 2012 . (نجد) المرأة الحقيقية في رواية تخييلية.
* هل استمرت (نجد) في ديوان (وبعد الحب أحببتك مرتين)؟
- نعم، صحيح ظهرت تفاصيلها؛ فقد كانت وقت ولادتها روائيًا تكتب نصوصها النثرية في أوراقي، وتبتاع منها ما تشاء، وليست (نجد) وحدها؛ فقد كتبت عن كل النساء اللواتي علقن بين الصمت وأنين المعاناة، عن العشق المخبوء بين ضلوعهن، عن القهر الذي ساد، عن أصواتهن المخنوقة، لقد جمعت نسوة العرب في عنق زجاجتي حتى فاضت بين أوراق مجموعة خاصة جدًا وتجربة غير تقليدية لصوت نسائي سعودي.
* لا نرى لك مشاركات في المقاهي الثقافية التي تدعمها هيئة الأدب والنشر والترجمة من وزارة الثقافة عبر مبادرة الشريك الأدبي؟
- فكرة المقاهي الأدبية لا شك أنها أثرت الساحة الثقافية، وحررتها من فكرة تجمع الأسماء الثابتة في كل محفل ثقافي، وهي جهود محسوبة لهيئة الأدب، فبعد أن أتاحت منصات التواصل الاجتماعي صوت المثقف بلا واسطة ظهر هذا المثقف في المقاهي والتقى بالجمهور الذي تعرف عليه، وفي الحقيقة أن ابتعادي عن هذه المشاركة لانشغالي بالعمل الإداري في جامعة الباحة العزيزة، وما تبقى من وقت زهيد هو لمشاريعي الإبداعية التي هي في طور النمو والتشكل.
* كيف تنظرين إلى ا لحركة النقدية في المملكة؟
- الحركة النقدية في المملكة تواكب القوة التي انتهجها الملك سلمان وسمو ولي عهده الأمين محمد بن سلمان -حفظهما الله-، فالقوة أصبحت لغتنا سياسيًا واقتصاديًا ورياضيًا وسياحيًا وعلميًا وفنيًا في تحقيق تطلعات رؤية 2030، من الطبيعي أن الجهود التي تقدمها وزارة الثقافة وهيئة الأدب قد ألقت ظلالها على الساحة النّقدية، امتلاكهما لرؤية واضحة أسهم في صناعة هذا الحراك الثقافي المبهج. فهذه المسابقات والبرامج المتنوعة أماطت اللثام عن أسماء جديدة في مسارات الثقافة المتعددة. وبالتالي كان لزاما على النّقد مواكبة هذا الحراك بمناهج نقدية واضحة المعالم ورؤية عميقة، والكشف عن جوانب التطور في الوعي والتفكير وخلخلة المفاهيم التقليدية، إذ شهدت ساحة النقد تحولات كبرى كشفت عنها الحساسية الأدبية الرامية إلى تقديم الذات وتاريخها وفق منظور التفكيكية متجاوزة بذلك الحدود الخاصة إلى رؤية نقدية عميقة.
* اتجهت الدراسات النقدية الحديثة اتجاهاً يشير إلى العزوف عن التراث، فما هو سبب ذلك من وجهة نظرك؟
-لا نستطيع التعميم بهذا الرأي، ومن الصعب اختبار صحته على وجه الدقة؛ فالجهود البحثية في أروقة الدراسات العليا والبحث العلمي لديها أوراق بحثية عن مدونة التراث الأدبي. الباحثون يختلفون في مشاربهم واتجاهاتهم، وإن كنت أرى بأن التراث هويتنا الخاصة التي نسعى لتقديمها عالميًا تستحق أن نركز البحث فيها والانطلاق منها؛ فهي مناط اعتزازنا وأصالتنا الني نفاخر بها، وما اختيار عام 2024 لعام الإبل إلا دعوة للتنقيب عن مفازات التراث المحلي ومكوناته الأصيلة. فالبحث في التراث الأدبي وترهين خطابه هو مناط فهم طبيعة بنية التطور وكيفية تشكل المعنى عبر العصور من خلال إدراك طبيعة الشعوب وسيرورتها الاجتماعية والثقافية والحضارية.
* باعتبارك باحثة في الرواية السعودية، كيف ترين مستقبل الرواية، وهل هناك اسم معين أدهشك في تجربته الأولى؟
- منذ بداياتها حتى حاضرها استطاعت الرواية السعودية استيعاب أطياف المجتمع وتفاعلاته، وصوّرت مختلف الصراعات بدء من الصراع القيمي إلى الصراع مع الآخر فكوّنت سياقاً اجتماعياً ثقافياً ممهورًا بالخصوصية متجاوزة بذلك التابوهات والرواية التقليدية، وقد تناولت أشكال التجريب الفني مثل روايات منذر القباني ووجه النائم لعبدالله ثابت والفردوس اليباب لليلى الجهني التي انفتحت على وسائط متعددة في السرد بين التداخل السردي وعوالم الحلم ونشرات الأخبار التلفزيونية وتقنيات عدة مثل تقنيات الميتا قص وكسر خطية الزمن الكرنولوجي والمونولوج، كما تناولت قضايا المهمشين كرواية فخاخ الرائحة ليوسف المحيميد وميمونة لمحمود تراوري وروايات عبده خال والفانتازيا عند رجاء عالم والمرأة في روايات أميمة الخميس وبدرية البشر والتاريخ في روايات عدة. وقد حصلت الرواية السعودية على جوائز عربية، بل أنها وصلت للعالمية بترجمتها للغات عدة، أما ما يخص مستقبلها فالأقلام واعدة ومبشرة بالخير والتحولات الحضارية والثقافية أرفدت الرواية بمضامين جديدة وفتحت لها فضاءات أرحب، وعلى الروائي المجتهد أن يطّلع على تاريخ الرواية العالمية، ويدرس أشكال وطرائق السرد التي كونت تجارب مميزة في الرواية الكونية. حتى يستطيع إنجاز رواية جديدة ولا يقع في التكرار والعجز. أما عن أهم الأسماء المحلية فرواية الحالة الحرجة للمدعو (ك) لعزيز محمد استطاعت أن تدخل بالقائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية عام 2018 وهي الإصدار الأول للمؤلف، أيضًا هناك تجربة الأفق الأعلى لفاطمة عبد الحميد التي وصلت للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لعام 2023. وهي تجارب تنبئ بأن المستقبل السردي المحلي لازال يحمل المفاجآت المدهشة.
* ما رأيك في استخدام الروائيين تقطيع الزمن وتشظيه ونزوحهم إلى تشكيل جديد في نمطية الزمن، وهل هذا يدل على نجاح الرواية، وفي المقابل هناك روايات تقليدية في زمنها حصلت على نجاح كبير؟
- حاجة الروائي لصناعة زمن أبطاله الخاص وفق تسلسل المحكي، وبنائية الأحداث أمر إيجابي إذا استطاع ألا يفقد الحبكة وألا يفقد القارئ تصوره حول الأحداث والشخصيات، هذا المنظور الخاص بالزمن يحتاج إلى وعي قارئ ينتج تصوراته ويعيد بناء الأحداث وفي هذا دلالة على قدرة الروائي. ومسألة نجاح الرواية من عدمه يعتمد على نوعية القارئ صاحب الحضور الأكثر على الساحة بتفاعله معها، وقد تنجح الرواية التقليدية في نمطية زمنها، لكن بظني أنها لا تستطيع أن تتجاوز الروايات ذات التقنيات العالية والمدهشة في بنائها.
* في تقدمنا نحو الرقمية والكونية ما هو مستقبل الأجناس الأدبية في ظل هذا التقدم على المستوى المحلي والعربي؟
- تحاول الأجناس الأدبية قاطبة تسجيل ذاكرتها، وهي في تداخلها الذي أفرزته التكنولوجيا أتاحت للفرد أن يعبر عن كينونته ووجوده بشكل يتماهى مع الحدود ويلغي القيود الطبيعية بين الأج ناس، الفرد يريد أن يكون ذاته والتطبيقات الرقمية كما يقول الباحث ريمي ريفيل في كتابه (الثورة الرقمية.. ثورة ثقافية) 2018 أنها «بدأت بالفعل تغير مثلا عادة تسوقنا (البيع عن بعد وتبادل الممتلكات) وعلاقاتنا بالإعلام (المواقع الإخبارية الالكترونية)، وتؤثر في معرفتنا (الموسوعات والقواميس والمقالات) لتوعية الآخرين والتي يمكن الاطلاع عليها بشكل مباشر». فهذا التعامل المباشر والحيوي خلخل العلاقة بين الواقع والمتخيل والافتراضي وسعى إلى الانفلات عن الحدود بين الأجناس الأدبية. ولكن على الصعيد العربي والمحلي لازالت هذه المسألة حاسمة؛ فالقيود بين الأجناس الأدبية واضحة رغم تسرب الرقمية وذلك قد يعود بظني إلى مسألة تقديس الثوابت الثقافية، حيث لازال العرب يتشربون الأدب من منابعه الأصيلة ولا يغامرون في التعدي على جذوره.