تشهد المملكة العربية السعودية -حفظها الله- في هذه الأيام المباركة توافد عدد كبير من الحُجّاج من كل بقاع المعمورة؛ استجابة لنداء أبيهم إبراهيم عليه السلام الذي أذّن بالحج امتثالاً لأمر الله عز وجل له، قال تعالى ?وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيق?.
وقد سخّرت حكومة سيدي خادم الحرمين الشريفين، وسيدي ولي العهد الأمين -حفظهما الله- كل الإمكانات المادية والطاقات البشرية؛ ليؤدي الحجّاج مناسكهم بكل يسر وطمأنينة.
وتعدّ وزارة الحج والعمرة من أهم الجهات الحكومية التي تشارك في أعمال الحج في كل عام، فرؤيتها (خلق رحلة روحانية خالدة تفوق تطلعات ضيوف الرحمن)، ورسالتها: استضافة أكبر عدد من المسلمين لأداء شعيرتي الحج والعمرة، وبناء منظومة مستدامة مع شركائها في القطاعين العام والخاص؛ لتقديم حلول رقمية مبتكرة، تثري تجربة ضيوف الرحمن، وتسهم في تحقيق أهداف رؤية المملكة (2030).
وقد استعانت وزارة الحج والعمرة بالمنصات الرقمية؛ للارتقاء بالخدمات الموجهة لضيوف الرحمن، ونشر الأدلة التوعوية، والكشف عن الأنظمة والتعليمات الخاصة بمناسك الحج، وعرض النصائح والإرشادات الصحية لضيوف الرحمن.
وسأقف في هذه المقالة على الإستراتيجيات الحجاجية التداولية في منشورات وزارة الحج والعمرة في منصة (إكس)، وهي خطابات تفاعلية تواصلية، تسعى إلى الإبلاغ والتأثير والإقناع والحمل على الإنجاز.
إن الحِجَاج التداولي حِجَاج خاضع لمقاصد التفاعل، ومقامات التواصل، وطرائق الإبلاغ، فهو حِجَاجٌ ينظر إلى اللغة بوصفها خطاباً تواصلياً وظيفياً إقناعياً تأثيرياً حاملاً لقصدية المتكلم وجهة اعتقاده.
ويعدّ العمل القولي من أهم الإستراتيجيات التداولية في الفعل الحجاجي؛ فالتلفظ بالقول هو تواصل لغوي بين باث ومتلق؛ لإنجاز أفعال كلامية؛ لذلك كثرت الأساليب الإنشائية الطلبية في منشورات وزارة الحج والعمرة في منصة (إكس)، وساعد على ذلك سلطة الباث، وتحقق شروط نجاح العمل القولي، وقوة أسلوب الأمر في بنية الفعل اللغوي.
إن استعمال العمل القولي الطلبي (الأمر) يحمل المتلقي على الالتزام بالأنظمة والتعليمات التي وضعها المشرّع (وزارة الحج والعمرة)، وهذا يدل على قوة (فعل الأمر) في توجيه المتلقي، ومن ثم حمله على إنجاز ما يُطلب منه في أثناء التفاعل القولي، والتخاطب التداولي.
ومن أهم المواطن التي استعانت بها وزارة الحج والعمرة بالعمل القولي التوجيهي (الأمر)، موطن التحذير من الحج بدون تأشيرة حج، وقد جاء هذا التحذير مصحوباً بالعواقب الوخيمة لكل مَن تسول له نفسه الإقدام على هذا الفعل، وجاء منشور الوزارة على النحو الآتي: «انتبه! محاولة الحج بدون تأشيرة حج، مجازفة بأموالك، مع عقوبات في انتظارك»، فهذا العمل المتضمن في القول (انتبه) يشتمل على قوة إنجازية، هي حمل المخاطب على ترك هذا العمل (الحج بدون تأشيرة حج)، وقد بيّنت وزارة الحج والعمرة جزاء الحج بدون تأشيرة حج، وجاء هذا الجزاء على صورة سلم حجاجي:
ح2: عقوبات بانتظارك.
ح1: مجازفة بأموالك.
النتيجة (ن): لا تحج بدون تأشيرة حج.
وهذا السلم الحجاجي يزيد من قوة العمل المتضمن في القول (انتبه)، ويجعل فعل التأثير مستمراً بين أطراف العملية التخاطبية؛ لحمل المخاطَب على الامتثال للقوانين والأنظمة الضابطة للحج.
ومما يزيد من قوة الخطاب المار ذكره، تذكير الوزارة الحُجّاج بالعقوبات التي تنتظر المخالفين: «رحلة الحج بدون تأشيرة، تنتهي عند أول نقطة ضبط أمني»، فهذا المنشور يتضمن عملاَ قولياً غير مباشر كقولنا: (انتبه، تذكّر، احذر).
ونلاحظ في منشورات وزارة الحج والعمرة اعتمادها على الحجة العاطفية؛ لإقناع الحاج بالحصول على التأشيرة، كقول الوزارة: «بداية الرحلة الميسرة، والمناسك المطمئنة، هي الحصول على تأشيرة الحج»، ففي هذا القول توجيه للحاج، وإقناع له بمضمون الخطاب، وتحريك لعاطفته الدينية، وترغيب له في اتباع الأنظمة والتشريعات؛ لكي يؤدي حجه بيسر وطمأنينة، وهذا كله راجع إلى حرص وزارة الحج والعمرة على التواصل مع الحجّاج، وحثهم على الالتزام بالقوانين والتعليمات، وفي ذلك إثبات لأثر الانفعالات في تقوية الحِجَاج التداولي، وبناء التخاطب القولي والتواصل التفاعلي في الخطابات الإنسانية، وهذا يدعونا إلى إلحاق الحِجَاج العاطفي بنظرية الأفعال الكلامية، بوصفه أفعالاً قولية إنجازية تعبيرية، تسعى إلى الإقناع والاقتناع، والدليل على ذلك قول وزارة الحج والعمرة: «جوار الكعبة، أقدام تطوف بلا كلل، وأكف تدعو بوجل»، فهذا الخطاب الوجداني يبني كوناً عاطفياً تأثيرياً من خلال الاتكاء على القوة الانفعالية الكامنة في نفوس الحُجّاج، وهي (رؤية الكعبة المشرفة)، وعليه، تكون العواطف في الخطاب الحجاجي التداولي إستراتيجيات معرفية إدراكية تخاطب العقل والوجدان معاً؛ فتحمل المتلقي على الاقتناع المفضي إلى العمل والفعل.
ولم يقتصر خطاب وزارة الحج والعمرة على إستراتيجيات التنبيه بالأعمال القولية فحسب، بل يشمل كل الإستراتيجيات الإقناعية والخِطابية؛ فرؤية الوزارة ورسالتها، جعلت ضيوف الرحمن محور اهتمامها، فهي تتفهم حاجاتهم وسلوكياتهم، وتتشرف بخدمتهم، وتحمي حقوقهم؛ لذلك تنوعت الوسائل اللغوية، والتفاعلات القولية، ومن ذلك إصدار الأدلة التوعوية بالتعاون مع الجهات الحكومية المشاركة في خدمة ضيوف الرحمن، كدليل (التوعية السيبرانية) بالاشتراك مع الهيئة الوطنية للأمن السيبراني، والهيئة العامة للأوقاف؛ لمساعدة الحُجّاج على تأمين أجهزتهم وبياناتهم وحساباتهم، وقد جاء منشور الوزارة على النحو الآتي: «اهتم بـحماية بياناتك خلال رحلتك الإيمانية، وتعرّف على الإجراءات المثالية للحد من المخاطر السيبرانية أثناء أداء المناسك، من خلال الاطلاع على دليل التوعية السيبرانية الذي تقدمه لك وزارة الحج والعمرة بالتعاون الهيئة الوطنية للأمن السيبراني، والهيئة العامة للأوقاف». ونلاحظ في الخطاب المار ذكره اتكاء الوزارة على ربط العمل الإنجازي (اهتم، تعرّف) بالموجهات الحجاجية التقويمية (رحلتك الإيمانية، الإجراءات المثالية)؛ لحمل الحاج على عمل الاطلاع على دليل التوعية السيبرانية، وهذا يؤكد الأثر التقويمي للحِجَاج التداولي في صناعة الإقناع في الخطابات اللسانية؛ فالتوجيه القيمي يأسر المتلقي بحمولته الدلالية، ويدفعه إلى الفعل، ثم إن اللجوء إلى العمل المتضمن في القول يكشف صدق المخَاطب في التواصل مع المتلقي، وتوجيهه وإرشاده نحو السلوك المرغوب فيه؛ حماية لحقوقه.
ومما يعطف النظر في منشورات وزارة الحج والعمرة في منصة (إكس) كثرة أفعال الأمر؛ لحمل الحاج على الامتثال للتعليمات والأنظمة المتعلقة بالحج؛ فالأعمال القولية الإنجازية لها أثر توجيهي تأثيري إقناعي؛ لذلك، فهي تتناسب مع قصدية الخطاب الموجه لضيوف الرحمن، وقد ظهر ذلك بوضوح في قول الوزارة مخاطبة الحاج: «ابدأ رحلة الحج بالالتزام بالأنظمة؛ كي تكتمل الرحلة بطمأنينة».
ومن مظاهر الحِجَاج التداولي في الخطاب الموجه لضيوف الرحمن، الحِجَاج بالأعمال المتضمنة في القول الدالة على النصح والإرشاد، ومن ذلك قول الوزارة: «المبيتُ في مزدلفة تجربة لا تُنسى في رحلة المناسك، استعدّ لها من خلال (دليل مزدلفة التوعوي)؛ لتقضي وقتك فيها براحة كاملة»، فالفعل (استعد) فعل قولي مؤسسي يرمي إلى صناعة أعمال إنجازية بالكلمات، من أجل إحداث تغيير في سلوك الحُجّاج، وإرشادهم إلى الطريقة الصحيحة في النسك. وقد اشتمل المنشور السابق على فعل تأثيري متضمن في القول (لتقضي وقتك فيها براحة كاملة)، ففي هذا الخطاب دعوة إلى تحقيق العبادة وفق المنهج النبوي الكريم، وساعدت الموجهات التداولية (تجربة لا تنسى، براحة كاملة) على تأكيد القوة الإنجازية للعمل المتضمن في القول (استعد)، وفي ذلك دلالة على أن الأعمال القولية التلفظية محكومة بالمواضعات الخِطابية، والعقود التواصلية بين المشاركين في أثناء التفاعل القولي؛ فالقدوم إلى الحج عقد ضمني بين الحاج ووزارة الحج والعمرة، يلتزم فيه الحاج بتعليمات الوزارة، وبأنظمة الدولة وقوانينها.
إن المقاربة التداولية لخطابات وزارة الحج والعمرة تربط اللغة بالاستعمال؛ لإحداث تغيير في سلوك الحاج، من أجل توجيهه الوجهة الصحيحة في أداء نسكه؛ ليكون موافقاً لهدي النبي محمد e، وهذا من أجلّ الأعمال وأشرفها وأرفعها؛ لذلك اشتملت خطابات الوزارة في منصة (إكس) على أفعال لغوية إقناعية تأثيرية؛ لحمل الحاج على الاقتداء بهدي الرسول الكريمe في أداء مناسك الحج، وترك ما يخالف هذا الهدي النبوي الكريم، ومن ذلك حث الحُجّاج على معرفة أركان الحج وواجباته وسننه، كقول الوزارة: «للحج أركان وواجبات وسنن، تعرّف عليها، واحرص على القيام بها»، فالعملان القوليان (تعّرف، احرص) يحملان قوة إنجازية قصدية مرتبطة بفضاء محدد، هو فضاء الحج، وهذا يجعل شروط نجاح العمل المتضمن في القول متحققة، مما يزيد في القوة الإقناعية للخطاب.
وقد تضمن خطاب وزارة الحج والعمرة الموجه للحُجّاج أعمالاً تداولية غير مباشرة، ومن ذلك عمل الحِجَاج بالتعريف، كقول الوزارة: «التلبية: هتافٌ يتعالى بالتوحيد والتسليم، ونداءٌ تردده قلوب الحجّاج قبل ألسنتهم، يبادرون به من لحظة الإحرام حتى التحلل»، ففي هذا الخطاب تشرح الوزارة وتفسر معنى (التلبية)؛ لإقناع الحاج، وحمله على اتباع هذا السلوك الديني القويم من الإحرام إلى التحلل، وترك ما يعارض ذلك، وقد أسهمت الروابط الحجاجية (الواو، من، حتى) في توجيه المتلقي نحو الوجهة المقصودة، ثم إن الألفاظ الإسلامية (التوحيد، التسليم)، والأفعال اللغوية (يتعالى، تردده، يبادرون) ضاعفت من القوة الإنجازية للعمل المتضمن في القول، وعملت على تثبيت التواصل اللغوي بين الباث والمتلقي، وتعظيم عمل التلبية والذكر في قلوب الحجّاج.
وللأعمال القولية الطلبية أثر في تعديل سلوك الحاج، وحمله على التعامل بالحسنى، ومن ذلك قول وزارة الحج والعمرة: «تحلَّ بالسكينة والأخلاق الحميدة في الحج، واغتنم كل لحظة فيها بالإحسان إلى نفسك والآخرين».
واحتوت خطابات وزارة الحج والعمرة أيضاً أعمالاً لغوية عاطفية؛ لتعظيم شعائر الله في قلوب الحجّاج، ومن ذلك:
- «الكعبة بهاء وجمال يأسر الأنظار ويملأ القلوب».
- «في رحاب الحرم، حبورٌ يتدفق، يغمر الطائفين والعاكفين».
- «في الحج نُولد من جديد، ففي مكة شعور لا يوجد في أي بقعة».
- «بين الصفا والمروة، خطوات ملؤها الرضا، وزادها الدعوات».
ولما كان «الحج عرفة»، اهتمت وزارة الحج والعمرة بهذا الركن العظيم، فأصدرت (دليل يوم عرفة التوعوي)؛ لتقديم النصائح والأحكام الشرعية الخاصة بهذا المشعر المقدس، ومما جاء في خطاب وزارة الحج والعمرة عن يوم عرفة: «يوم عرفة أفضل الأيام وأبركها، استعدّ له كما ينبغي من خلال(دليل يوم عرفة التوعوي)؛ لتتفرغ للعبادة بكل يسر وطمأنينة»، ونلاحظ في هذا المنشور اجتماع أفعل التفضيل (أفضل الأيام) مع العمل المتضمن في القول (استعد)، والموجه الحجاجي (كما ينبغي)؛ لتوجيه الحاج إلى قراءة الدليل التوعوي الخاص بيوم عرفة، والعمل بما فيه، من أجل استشعار عظمة هذا النسك الجليل في قلوب الحُجّاج، وهذا مصداقاً لقول الوزارة: «في الحج نتعاون ونؤثر، ونحسن إلى أنفسنا والآخرين؛ ليتحقق اليسر، وننال الطمأنينة».
وفي الختام، نسأل الله أن يتقبل من الحُجّاج حجهم، وأن يردهم إلى أهلهم سالمين غانمين، وأن يحفظ قيادتنا وبلادنا، وبلاد المسلمين، وكل عام وأنتم بخير.
** **
د. قالط بن حجي العنزي - باحث في السرديات التداولية
qalit2010@