تتمدَّدُ المعرفةُ في تاريخِها بطريقتين: تتمدَّد رأسيًّا حينَ ينقلُها المشتغلونَ بالمعرفةِ إلى آفاقٍ جديدةٍ، بنموذجٍ مختلفٍ، يؤسِّسُ فيه لتمدُّدٍ آخرَ أفقيٍّ يشتغلُ فيه المؤلِّفون بمتابعةِ المتنِ شرحًا وتعليقًا ونقدًا، وكلُّ هذه الأدوارِ مهمَّةٌ في رحلة المعرفةِ؛ إذ تؤسِّسُ الطريقةُ الأولى المعرفةَ وتطوِّرُها، وتمتحنُها الأخرى وتختبرُ صلابتَها، ومن هنا تحظى تلك الإضافاتُ المعرفيَّةُ بالانتباه؛ تمهيدًا لمناقشتها وتطبيقها وتمدُّدها أفقيًّا.
ومن المشاريعِ العلميَّةِ التي تلفت الانتباهَ في حقل البلاغةِ العربيَّةِ مانشره مؤخَّرًا د. سعود الصَّاعدي في كتابه «معالمُ القريةِ الكونيَّةِ، دراسةٌ في لطائفِ المعاني التَّثقيفيَّة، نموذجٌ قرآنيٌّ كونيٌّ» مِن نشرِ دارِ أدب لعام 1445هـ/2023م.
يأتي هذا الكتابُ في سياقِ مشروعٍ علميٍّ، كانت ثمرتُه الأولى في كتاب «البلاغةُ الكونيَّةُ من الإعجازِ إلى الإنجازِ، دراسةٌ تأويليَّةٌ في فلسفةِ النَّموذج البلاغيِّ» مِن نشرِ دار كنوز المعرفة 2020م، حاولَ مِن خلاله أنْ ينقلَ السؤالَ المعرفيَّ من الأفق الذي يتوخَّى الإعجازَ، إلى فضاءٍ يستندُ على الإعجازِ وصولًا إلى الإنجازِ، أي يستلهمُ البيانَ القرآنيَّ لمدِّ آفاقِ السُّؤالِ البلاغيِّ، إلى قراءةِ المعالمِ الكونيَّةِ.
حاولَ في كتابِ البلاغةِ الكونيَّةِ أن يشقَّ طريقًا غيرَ معبَّدةٍ ولا مأنوسةٍ، لينصب نموذجَه الفلسفيَّ على أرضٍ خصبةٍ في التُّراثِ العربيِّ والإسلاميِّ، فلم يقطعِ الصَّاعديُّ تذكرةً للاغتراب عن الثَّقافة، ولم يقف موقفَ الاستلابِ، بل حملَ على ظهرِه معولَ أسئلتهِ وأدواتهِ البلاغيَّةِ ليلتقيَ بالجاحظِ وعبدِ القاهرِ الجرجانيِّ والسَّكاكيِّ، ويستزرعَ تلك النُّصوصَ في آفاقٍ جديدةٍ، فوجدَ ضالتهُ عند الجاحظِ في نصِّه الذي يُشير فيه إلى أدواتِ الدَّلالة، فيذكر منها النّصبةَ، التي يُشير فيها إلى أشياءِ الوجودِ الدَّالة على خالقِها، فوجد الصَّاعديُّ أفقًا في هذه الالتفاتةِ إلى عدِّ الأشياءِ والموجوداتِ ذات دلالةٍ، وأنها تعملُ عملَ البيانِ القوليِّ في القصدِ والدَّلالةِ والتَّأثيرِ، وتخضعُ لقوانينِ التَّناسبِ والانسجامِ، ممَّا يُوحي بأنَّهما ينتميانِ إلى نظامٍ واحدٍ: بيانٌ قوليٌّ، وبيانٌ كونيٌّ.
يسعى الصَّاعدي إلى تأطيرِ هذه العلاقةِ بين العالمينِ، وإلى الإشارة إلى عنصرٍ ثالثٍ فاعلٍ في هذه العمليَّةِ عليه مدار البيان، وهو الإنسانُ، لتكتمل هذه الثلاثيةُ (الإنسان والبيان والكون)، ثمَّ يلتقي بالسَّكاكيِّ ليبني من نموذج البلاغةِ الثُّلاثيِّ (المعاني – البيان – البديع) جسرًا للعبورِ بين البيانيِّ والإنسانيِّ والكونيِّ، فيجد في المعاني نظامَها الفكريَّ، وفي البيان قدرتَه التخيُّليَّة، وفي البديعِ بعدَه الذوقيَّ.
يبني المؤلِّف في الكتاب نموذجَه انتقالًا مِن الإنسانِ إلى المجتمعِ فالعوالمِ فالمعالمِ، لينتقلَ بعدها إلى أفقِ التَّلقِّي الذي يمثِّل الطرفَ الأخيرَ في هذه القراءةِ الفاعلةِ. في إنسانِ البيانِ كما يُطلق عليه الصَّاعديُّ يحاصرُ المؤلِّف التوازياتِ القائمةَ بينَ الإنسانِ والبيانِ في نموِّه وتشكُّله، مستعيرًا أطوارَ الإنسانِ المتعاقبةَ مِن الخلقِ فالتَّكوين إلى التحسينِ والتَّصويرِ، ثم الرُّوحِ فالنَّسبِ، ليجدَ تماثلاتها في البيانِ كما الإنسانِ، ثمَّ ينتقل إلى مجتمعِ البيانِ الذي ينطلقُ في اكتشافِ التَّوازي فيه بينَ العالمينِ الإنسانيِّ والبيانيِّ مِن خلال تشابهِ المفاهيمِ التي يُوصف بها البيانُ كما يوصفُ بها الإنسانُ في طبيعةِ علاقاتِه مثل الغربةِ والابتذالِ، ثمَّ يعرِّجُ على بُعد العلاقاتِ التَّواصليَّةِ، ليجد نموذجَها في التَّأليفِ والتَّنافرِ والتَّشاكلِ ومراعاةِ النَّظير، كما يجدُه في طبيعةِ العلاقاتِ الإسناديَّةِ وعلاقات الجُمَلِ، لينتهي إلى توازي نظام العلاقاتِ بينَ العالمين.
في عوالمِ البيانِ يستندُ الصَّاعديُّ على الأبعادِ الذِّهنيَّةِ والتَّصوريَّةِ للبيانِ بمعناه الخاص في عوالمَ موازيةٍ هي (الطفولةُ والحلمُ والفنُّ)، ففي التشبيه عالمٌ قائمٌ على الاكتشاف، وعلى الوصل مع الفصل والتَّمييز، ويسعى من خلاله المتكلم إلى تطويقِ الواقعِ بالمثالِ، فيكون وسيلتَه للتَّقريب، وهو مايجدُ نموذجَه في طفولةِ الإنسانِ الذي يسعى إلى إدراكِ الوجود بالمحاكاةِ والمثالِ، أمَّا في عالمِ الاستعارةِ – التَّمثيليَّة خاصةً- فتبرزُ الصُّورُ المركَّبةُ والمكثَّفةُ تعبيرًا عن المعنى، وهو ما وجده متَّصلًا ببنيةِ الأحلامِ عند الإنسان، التي تُبنى صورها بالتَّركيبِ والتَّكثيفِ والتَّرميزِ. في عالم الفنِّ يستعيدُ الصَّاعديُّ مرةً أخرى عوالم الطُّفولةِ والحلمِ والفنِّ، ليضعَ في مقابلها الشِّعرَ والرَّسمَ والسِّينما على التَّرت يب، ويرى – استنادًا لما ذهب إليه محمود شاكر- أنَّ الشِّعر ألصقُ الفنونِ بالإنسانِ وأبعدُها غورًا في نفسه، ففيه مجلى ذكرياته العتيقةِ والمتراكمةِ منذُ الطفولةِ، أمَّا الرَّسم فيستند فيه على الفن السريالي الذي تظهر فيه أقوى تمثُّلات المجازِ؛ لاعتماده على التَّكثيف والغرابةِ، كما أنَّه موازٍ للحلم في بنيته. وفي فنِّ السينما يتمثَّل البيانُ في مشاهده وتركيباتها، إضافةً للبناءِ الاستعاريِّ للصورةِ الممثلةِ للواقعِ من خلال الاستعارةِ التَّمثيليَّةِ، ومن صُور التَّوازي بين العالمين البيانيِّ والسينمائيِّ بعده التَّركيبي الذي يتدرَّج فيه البيانُ من العبارةِ إلى العالمِ، كما تتدرجُّ صناعةُ السينما مِن الصُّورة إلى الفلمِ.
يُعرِّج المؤلف بعد ذلك على قراءةٍ لعلمِ البديع، ويؤكد فيها قراءةَ العلاماتِ الكونيَّة بموازاة العلاماتِ الكتابيَّةِ، ويحاول تتبعَ حركةِ البديعِ تاريخيًّا انحسارًا واتساعًا، ليتلتقطَ نموذجَ البديعِ عند ابنِ المعتزِّ، مع تعديلٍ يسيرٍ، ليقترح منها الأصولَ الكونيَّةَ المبنيةَ على التناسبِ والانسجامِ، ويجعلَ صورَه قائمةً في الأضدادِ من فلسفة الطباق، والتقابليَّةِ والتأويلِ من المقابلةِ، والإيقاعِ من الجناسِ، والزَّمنِ الدائريِّ من ردِّ الأعجازِ على الصُّدورِ، والتفاعلِ الكونيِّ من الاستعارةِ المكنيَّةِ.
ولاشكَّ أنَّ أفقَ إدراك الدَّلالاتِ ينحسرُ ويتَّسعُ بقدر ما يتهيَّأ من قدرةِ المتلقِّي على القراءةِ الفاعلةِ المنتجةِ، لذلك يعقدُ المؤلِّف فصلًا خاصًّا بمنهجيةِ القراءةِ، يؤكد فيها دورَ المتلقي في قراءةِ العلاماتِ الكونيَّةِ بموازاة العلاماتِ الكتابيَّةِ، متَّكئًا على دلالةِ النصبةِ عند الجاحظِ، وعلى حادثةِ بدء الوحي، وانفتاحِ دلالة القراءةِ فيها من المكتوبِ إلى المبصرِ، كما يستهلمُ من التَّصوراتِ البلاغيَّةِ لحال المخاطَبِ في إلقاء الخبرِ-خالي الذِّهنِ والسَّائلِ والمُنكرِ- معالمَ القراءةِ، وأنماطَ المتلقِّين، ليقابل ذلك بالقارئ المتعلِّم، والقارئ المعلِّم، والقارئ النَّاقد وفقًا للموقف والعلاقةِ مع النَّصِ ومستوى القراءةِ.
في الفصلِ الأخيرِ يُقدِّم المؤلِّف نموذجًا تطبيقيًّا لقراءةٍ بلاغيَّةٍ كونيَّةٍ لفضاءِ الصَّحراءِ والغابةِ، يقدِّم فيها مقاربةً تأويليَّةً حضاريَّةً عبر المقابلةِ بين الفضاءين، ومِن لطيف ما طرحهُ في هذا الفصلِ النَّظرُ في أشكالِ تفاعل الإنسانِ مع الوجودِ، ليبني على التَّصور الذي يُؤطِّر هذه العلاقةَ في مرحلةٍ بالجانب الوظيفيِّ في اتخاذِ المسكنِ والملبسِ والمأكلِ والمشربِ، ويطلق عليه (إنسانُ الأدواتِ) إلى مرحلة أخرى في اتخاذِ الأدواتِ علاماتٍ دالةً يُضفي عليها بعدًا ثقافيًّا يمثله (إنسانُ العلامات)، ليضيفَ الصَّاعديُّ مفهومَ (إنسان الآيات) الذي ينتقلُ فيه الوجودُ من الدلالة إلى الدليلِ، ومن بُعدهِ الثَّقافيِّ إلى الرُّوحيِّ، وهو ما يفتحُ أفقًا للقراءةِ القائمةِ على التَّأملِ، ليصل بها إلى معرفةِ الخالقِ من آياته الكونيَّةِ.
بعد أنْ قدَّم في الكتاب السَّابق نموذجَه الفلسفيَّ القائمَ على التَّوازي بين عوالمِ البيانِ والإنسانِ والكونِ، حاول الصاعديُّ في كتابه»معالم القرية الكونيَّة» أن يختبر نموذجَه الفلسفيَّ المؤسَّس على أدواتِ البيانِ لقراءة معالم (أمِّ القُرى) مكَّة المكرَّمة.
مرة أخرى يذكرنا المؤلف بالنصوص المؤسِّسة لمشروعه، الذي اتكأ فيه على الجاحظِ في مفهوم النصبة، ويضيف إلى ذلك النَّصِ نصًّا آخر لابن عربي يسوقه بحذرٍ واضحٍ لالتقاطِ فكرة الوصلِ بين المعالمِ والمفاهيمِ، بعيدًا عن المنزلقاتِ العقديَّة التي تحيطُ بابن عربي، ليؤسِّس أفقًا بلاغيا للقراءة قائمًا على الرَّبط بين المعالم والمفاهيم يستدعي مهارةً في الاستقراءِ والتَّأويل.
أمَّا أنموذجُ القريةِ الكونيَّةِ فيُبنى على خمسةِ معالمَ هي: (الجبل والوادي والبئر والشجرة والمسجد) وهي معالم احتضنتها أمُّ القرى، يحرصُ المؤلِّف على تثوير المفاهيم المرتبطةِ بالمعالمِ بالتَّرتيب من خلال التَّنقيب في الدلالاتِ اللغويَّة، واستقراءِ الاستعمالِ القرآنيِّ والبيانِ النَّبويِّ، والبيانِ العالي شعرًا ونثرًا. أمَّا الاستعمال القرآنيُّ فيندرج في ثلاثةِ مستويات، مستوى التَّأثيل الذي يُبنى فيه إطار المفاهيم، ومستوى التَّمثيل الذي تحضر فيه المعالم رموزًا مشبعة بدلالات المفاهيم للتَّمثيل والتقريبِ، ومستوى التَّنزيل الذي تحضر فيه المعالمُ آياتٍ ورموزًا كونيَّةً ترتبط بالأحداث الكبرى والمقدَّسة، فتنتقل مِن التَّمثيلِ إلى التَّمثُّلِ.
تحضرُ أمُّ القرى بالتَّوازي مع أمِّ القرآنِ ليعقدَ المؤلِّفُ تناظرًا يستحضره في تأويله للمعالِم، يلتقي فيها جلالُ المكانِ بجلالِ البيانِ، مستندًا في ذلك على استنطاقِ اللطائفِ والمعاني التَّثقيفيَّة التي تقتضي إداراكًا عاليًا؛ للطفِ مو اقعِها، وارتباطها بحسن التَّدبرِ، كما ينطلق من مفهومي الكثافةِ الذي يتَّصل بعمقِ المعنى وتكوثره، والامتدادِ الذي يُشير إلى الاتِّصال والتَّتابع في أبعاده الزمانيَّةِ أو المكانيَّةِ أو المعنويَّةِ.
يظهر جليًّا في عملِ الصَّاعديِّ عنايته بالجهازِ الاصطلاحيِّ، على طريقةِ طه عبد الرحمن في سكِّ المصطلحاتِ ذات الإيقاعِ المتقارِب، والحرصِ على الاشتقاقِ والتقفيةِ، مثل (التَّأثيل، التَّمثيل، التَّنزيل) و(التَّأسيس والتَّأنيس) و(النَّسب والسَّبب) و(التَّكليف والتَّثقيف). كما يغوص في أعماقِ الموجوداتِ ودلالاتها بحسِّ الشَّاعر، الذي يحاولُ جاهدًا أنْ يلتقطَ الأواصرَ، والعلائقَ بين الموجوداتِ، وأنْ يُعيد إداركها في وجدانِ القارئِ من خلال الرؤيةِ التي يُقدِّمها.
إنَّ انتقالَ الصاعديِّ في مشروعهِ من قراءةِ البيانِ إلى قراءة المكانِ بالأدواتِ البلاغيَّة، ليدلُّ على أنَّ المعالمَ نصوصٌ مفتوحةٌ للقراءةِ، ويدلُّ في الوقتِ ذاته على أنَّ المدخلَ الجماليَّ للبلاغةِ في صورته الثُّلاثيَّة (المعاني والبيان والبديع) صالحٌ لأنْ تُمدَّ آفاقُه لقراءة البيانِ الكونيِّ، معيدًا بذلك الاعتبارَ إلى الجمالِ، بعد أن انحسرتْ الدِّراسات لصالح الإقناع والحجاجِ. وبهذا يُحمِّل مقولةَ الجمود التي تُوسم بها البلاغة في صورتها الثلاثيَّة مسؤوليَّة القارئ، فالقديم في العلمِ يكون جديدًا بقدرِ حركةِ عقل قارئه، وإبداعِه.
وعلى الرَّغم من ذلك تبدو البلاغةُ الكونيَّةُ في هذا السِّياق أكثرَ تعقيدًا، إذ تتطلَّب قدرةً على التَّأويل، ونباهةً في اكتشافِ أنساقها وعلائقها، واستنطاقِ مفاهيمها، وهو ما يجعل المقاربةَ فيها أقربَ إلى التَّأمُّل والتَّأويل من انضباطها بموضوعيَّةٍ علميَّةٍ، ولذلك أشرتُ إلى حضورِ روحِ الشَّاعر في هذه القراءةِ، كما أنَّها قد تميلُ إلى قدرٍ من الانتقائيَّةِ والتَّردُّدِ بين المعاني اللغويَّةِ والاصطلاحيَّةِ لتحقيقِ التَّماسكِ بين الأنساقِ الدلاليَّة.
إن هذه الإضافة العلميَّة في حقلِ البلاغةِ جديرةٌ بأن تلقى العنايةَ من الباحثين من خلالِ مساءلةِ النَّموذجِ الفلسفيِّ الذي تستند إليه، والتَّحقق من تماسكهِ، وتطويرهِ، واختبارهِ، وبهذا ينمو العلمُ، وتُزهر المعرفةُ.
** **
- د. وائل بن عمر العمري