في مقالة سابقة نُشرت قبل نحو خمس سنوات على صفحات الجزيرة الثقافية، بعنوان: «نظرة في واقع النقد الأدبي المعاصر»، أشرتُ إلى الهوّة المتفاقمة بين النقد الأدبي المعاصر وأداء مهمته في تقويم النصوص الأدبية، وناديت حينها بمواجهة الناقد الأدبي للنصوص بصدق وجرأة وتحرر من الصمت والمجاملة؛ لتتسم النصوص بحيوية أدبية وديمومة أبدية. وفيها استشهدتُ بالنقد الذي قدمه الدكتور سامي العجلان -حينذاك- في منصة تويتر لنموذج من شعر الشاعر جاسم الصحيِّح، مع احتفائه أيضًا في السياق ذاته بنماذج كثر أخرى -للشاعر- كانت مستحقة للاحتفاء، ليكون - في رأيي - أحد الأمثلة الحية لنقد المثقف الجريء والشجاع، وهو نقد موضوعي قوبل بترحيب كبير من مبدع يعلم يقينًا أهمية النقد الأدبي وقيمته للعمل الأدبي، ليرد قائلًا: «يسعدني أن أتلقى رأيك حول ما أكتبه.
أنا أعتقد أن النقد الذي يقوم على الحب كما هو نقدك، هو من صالح الشاعر حتى وإن جاء في صيغة قسوة على كتابات هذا الشاعر». ولا غرابة!، فهذا ما ينبغي أن يكون عليه الحال الطبيعي للنقد الموضوعي وتلقيه الواعي معًا، وحال المشهد الذي نرغب تكراره بين النقد والتلقي؛ لتُردم الهوَّة المتفاقمة بين الناقد الأدبي ووظيفته الرئيسة، فالكاتب لا يكتب لنفسه، بل للمتلقي، وللناقد المتلقي أن يبدي رأيه حول ما يقرأ! وما أثاره الناقد الكبير سعيد السريحي من آراء نقدية نشرها مؤخرًا في منصة X، بعنوان: (اعترافات متأخرة) -قد نوافقه في بعضها ونخالفه في بعضها الآخر- لجديرة بالعناية والاهتمام؛ لاكتنافها -في رأيي- تساؤلا مضمرًا مهمًا عن الفجوة بين الناقد الأدبي ووظيفته الأساسية؛ أي عن انحسار دور النقد الأدبي وغيابه عن المشهد، لتحل محله دراسات نقدية أو قراءات استضاءت بمناهج نقدية مرتبطة بمقصد الدارس وغاياته المختلفة من دراسته، وهي غايات ليس من بينها تقديم ذلك «النقد المعياري» «الكفيل بمواجهة النصوص التي تنوء بالأخطاء والانحرافات عن مقاصد الشعر»، كما يراه السريحي.
إن الحقيقة الجلية التي ربما حان الوقت للتسليم بها هي أن سبب غياب النقد الأدبي ليس بسبب تهاون النقاد وإهمالهم -كما يرى ناقدنا الكبير-، فالنقاد حاضرون وفاعلون ومثمرون، ولا يغيب عنه ذلك، لكن الخلل -من وجهة نظري- يكمن في الحساسية النقدية المفرطة التي يستقبل بها الأدباء النقد الأدبي!. إنها تلك الحساسية النقدية التي جعلت إبراهيم ناجي يترك مصر قاصدًا إنجلترا؛ نتيجة الضرر النفسي الذي لحق به بعد نقد العقاد وطه حسين -كما يُروى-، حيث وصفَ الأخير شعر ناجي في ديوانه الأول بأنه: «شعر صالونات لا يحتمل أن يخرج إلى الخلاء فيأخذه البرد من جوانبه»، ومكثت هذه الحساسية النقدية في وجدان ناجي حتى توفي عام 1953! والمتأمل في ردات فعل بعض الأدباء واحتدام آرائهم من رأي السريحي النقدي حول بعض قصائدهم -رغم إشادته في ذات السياق بجودة قصائد أخرى لهم- سيدرك قوة هذه الحساسية وهيمنتها على المشهد، وصدها للنقد والنقاد وحظرها لهم اقترابًا وممارسة. إنها حساسية تتفاقم عند بعضهم لتكون مركّبة (حساسية نقدية شخصية) أو هكذا تفهم، ولا يضمد جراحها إلا التصفيق الحار والمديح الزائف والتفاعل الممزوج بمجاملة! إن السريحي من النقاد الذين يمتلكون الشجاعة النقدية والجرأة المعرفية والثقافية في نظرتهم ونقدهم بتجرد وموضوعية، وما قاله يعدُّ -في نظري- رأيًا نقديًّا لم ينشُد من خلاله إلا محاولة شد أطناب النقد وركيزة خيمته التي تظلل عملية التقويم؛ كي لا تهوي النصوص الأدبية، وتتناسل في ضعفها ورداءتها.
ومن المؤسف أن هذه الحساسية لم تقف عند هذا الحد، بل امتدت أطرافها لتكون بين بعض النقاد أنفسهم! كما هو الحال -مثلًا- بين زكي مبارك وخصومه أو العقاد ومعاوية نور، أو من سبقهم قديما أو جاء بعدهم حديثًا، ويكفينا من مشهدنا السعودي المعاصر تأمل ما شهده مؤخرًا من التلقي النقدي الحساس من قبل بعض النقاد الكبار، والأمثلة لا تخفى على متابع المشهد! كل ذلك ليس إلا شاهدا على متانة الحساسية النقدية وتجذرها في عملية التلقي. لا مكان في النقد، وهكذا يجب، لأحقاد ولا ضغائن شخصية، ولا تعالٍ أو هشاشة في تلقيه! إن النقد الأدبي الجاد يعد وسيلة تواصلية تقوم على أساس البناء المعرفي والثقافي التراكمي أدبيا ونقديا بين نقاد ونصوص، ولا بين نقَّاد وشخوص!؛ نقد موضوعي صادر برويَّة وتفكير، للمبدع الأخذ به في أعماله أو تركه دون تبرم أو حساسية شخصية!
نعم، يمكن القول بعد هذا كله إن مهمة النقد في الحكم على النص لم تتراجع لانتهاء وظيفتها ليحل مكانها عنصرا التحليل والتفسير المستندان على المناهج النقدية قديمها وحديثها؛ وإنما لأن كثيرًا من النقاد استشعر هذه الحساسية النقدية المكبلة لأقلامهم بهدوء، فغضوا الطرف عن وهن كثير من النصوص الشعريَّة، وبهذا اتفق الطرفان على الفراق بصمت؛ حفظا للمودة وتجنبًا للنزاعات، ومن هنا استثمر النقاد جهدهم الكبير في مقاربات نقدية وثقافية أخرى لا تقل أهمية عن النقد الأدبي؛ لتستكمل ديمومتها في الحركة الأدبية ثقافيا ومعرفيا، كما تشهد بذلك منجزات الدرس النقدي الأكاديمي الرصينة.
** **
- د. إبراهيم المرحبي
@almarhaby