اطلعت على مقال جميل نشرتْه صحيفة الجزيرة الإلكترونية في 30/ 12/ 2016 للدكتور حمد بن ناصر الدخيل بعنوان (المجمعة في ماضيها القريب) والدكتور حمد من أدبائنا الكبار الذين إذا كتبوا أجادوا، وأمتعوا وأفادوا. وكان لي وقفة على بعض ما جاء فيه، وحتى لا يفهم أن مقالي ردٌّ عليه كما سيمليه الخيال أحببت أن أقول إنني اتخذت من مقاله سبباً باعثاً على الكتابة عن مرحلة من مراحل حياتي عشتها وكنت فيها شاهد عيان، وعن حقبة تاريخية درسَتْ معالمها ولم يبق منها إلا شواهدُ كالرموز وألغازٌ بلا حلول.
ومقال الدكتور حمد تحدث فيه عن الحالة الاجتماعية في المجمعة في العهد القريب وعن أجوائها وآثارها وعن تطورالبناء فيها وتاريخ انتهاء البناء الطيني وبداية البناء الخرساني المسلح.
واستوقفني فيه قوله عن حي الظُهيرة في المجمعة إنه كان آخر عصر البناء بالطين. وأحب أن أضيف هنا أن عصر البناء بالطين لم ينتهِ بحي الظُّهيرة وأنه نشأ بعد حي الظهيرة حي الأخوياء ( الخويا ) الذي أصبح ضمن حي الخالدية الآن أو ( حارة الشيحة سابقاً) وكان البناء فيه بالطين والحجارة وكان يقع شمالاً عن حي الظهيرة.
ولم يكن هذا هو آخر العهد بعصر الطين وإنما نشأ بعد ذلك في أواخرعام 1386 وبداية عام 1387 تقريباً حيٌّ طيني جديد مخططٌ تخطيطاً حديثاً بشوارع فسيحة وقطع أراضٍ كبيرة بمساحة 600 مترٍ مربع للقطعة الواحدة تقريباً، قام ببيعها على المواطنين لجنة مشكلة من الأهالي، وسُمِّي هذا الحي آنذاك (الحِلّة الشرقية). وكان بعض الأهالي يعتبرونه بعيداً عن مركز البلد إلى درجة أنهم يتندرون على ساكنيه بأنهم سيكونون عرضةً لمهاجمة السباع والذئاب.
هذا الحي يقع في الجهة الجنوبية الشرقية من المجمعة القديمة شرق المستشفى القديم الذي أصبح الآن مقراً لبعض كليات جامعة المجمعة، ويَحُده من الشمال شارع الفيحاء ( الملك سلمان سابقاً ) الذي يقع عليه الآن مجمّع مدارس البنات ومبنى الشرطة ومبنى الدوريات (المحافظة سابقاً)، ومن الجنوب شارع خالد بن الوليد الذي تقع عليه الجمعية التعاونية ومنزل الشيخ محمد الربيعة ومنزل ابنه الأستاذ عبد الله الربيعة محافظ القويعية سابقاً ووكيل محافظة المجمعة قبل ذلك ومسجد الشيخ عبد العزيز التويجري، ومن الغرب شارع الإدارات الذي تقع عليه الواجهة الثانية من الشرطة، والأحوال المدنية ومبنى المحكمة القديم والمستشفى القديم، ومن الشرق شارع القادسية الذي تقع عليه مدرسة القادسية الابتدائية والوحدة الصحية سابقاً.
وقد هبَّ المواطنون لبناء هذا الحي وأحدث ذلك نشاطاً في الحياة الاقتصادية بسبب توافد البنَّائين والعمال من المواطنين والجالية اليمنية وبسبب انتعاش حركة النقل لأصحاب النقليات الذين ينقلون التراب والماء وخشب الأثل من المزارع، وينقلون حجارة الأساس والسواري من ( مقطع ) الحصى، ويأتون بما يلزم من مواد البناء من الرياض كالأخشاب المستوردة ( المرابيع ) وبعض الأبواب والأدوات الكهربائية والصحية والإسمنت والجص وغير ذلك.
وقد سارع المواطنون في بناء هذا الحي لأسباب منها خروج كثير من السكان من بيوتهم القديمة بعد قرار هدمها لصالح إنشاء شارع الملك فيصل الحالي الذي يتوسط المجمعة القديمة من جنوبها إلى شمالها. والسبب الثاني وفرة المال في أيدي أصحاب المنازل المنزوعة ملكيتها بعد تثمين بيوتهم، والسبب الثالث أن كثيراً من أهالي المجمعة والبلدات القريبة منها لايملكون مساكن خاصة ولا يوجد مخططات جديدة يبنون عليها مساكنهم، وإنما يقيمون في مساكن قديمة قدم التاريخ متاورثة عبر الأجيال يسكنونها بالإيجار أو تكون أوقافاً لأهاليهم فيسكنون فيها مقابل إخراج ريعها حسب وصية الموصي التي ما تكون غالباً أضحية يضحى بها أيام عيد الأضحى. فصار هذا الحي الجديد فتحاً لهم ومرحلةً انتقالية للمجتمع في أسلوبه ونظامه وتركيبته الاجتماعية.
وكان الهدم لفتح شارع الملك فيصل رحمه الله تعالى قد بدأ بعد عام 1384 تقريباً وكان العمل فيه أمراً مهولاً فقد كان العمال يقومون فيه بفصل الجدران ( اللوائح ) الطويلة عن بعضها ثم يسحبونها بالحبال الغليظة بحركة ترددية حتى تسقط على الأرض محدثةً رجفةً مدويةً وسحابةً من الغبار الكثيف، وكان لصوت الحبال ( وشيشٌ ) كخذروف الوليد أمرّه كما قال امرؤ القيس، والخذروف هو ( الوشّاشة ) اللعبة التي يلعب بها الأطفال، ثم يأتي بعد ذلك دور الجرّافات الثقيلة ( الدركتورات ). وقد شاهدت العمال يسحبون ( لوائح البيوت ) التي تقع شرق الجامع وهم داخل سرحة المسجد.
أما أصحاب البيوت المنزوعة أثناء العمل في شارع الملك فيصل فقد زادوا معاناة على معاناتهم لعدم وجود البيوت الكافية للاستئجار أو عدم صلاحيتها لقدمها حتى جاء الحل السريع بالمخطط الجديد وبناء البيوت الطينية الحديثة التي يناسب هنا أن أذكر شيئاً عن طريقة بنائها.
هذه البيوت في الحي الجديد أو ( الحِلَّة الشرقية ) كان البناء بها يبدأ بحفر الأساس قريباً من المتر ثم توضع الحجارة فيه حتى ترتفع قليلاً عن مستوى الأرض حمايةً للجدار من مياه السيول ثم تبنى الجدران عليه باللبن والطين ( المغيّن ) أي الذي زالت ملوحته بسبب كثرة سقيه بالماء، ثم يخلط بأعواد التبن ليكون الطين متماسكاً.
ولا يزيد البناء عن ارتفاع ثلاث لبنات في اليوم لكي لا ينهار الجدار. ويطلق على هذا المقدار من الارتفاع ( سَوْقة ) والذي يباشر البناء يسمى ( الاستاد ) ويساعده مجموعة من العمال يسمّون ( مزوريّة ) يعملون اللَّبِن ويخلطون الطين ويرفعونه للاستاد، والاستاد يضع اللبن على الطين بطريقة موزونة مراعياً في ذلك استقامة الجدار الذي يزنه بعينه دون الحاجة إلى خيط أوميزان جالساً على الجدار مستدبراً لنهايته حتى إذا وصل إلى نهايته وهو مستغرق في البناء مشغول بالنظر إلى استقامته نبهه أحد العمال ( المزوريّة ) خشية أن يسقط بقوله: ( تراك مَقْفِيّ يا استاد ).
ومن أبرز( الاستودية ) الذين عملوا في هذا الحي علي العويدي من أهل ثادق حتى إنها سميت مجموعة البيوت التي بناها في ذلك الوقت (حارة العويدي) لكثرتها. ومنهم الأستاد عبد الحسن أبانمي وعبد العزيز اليوسف ومحمد أبو حسن وعبد الله الروضان من أهل التويم وابن عثمان من أهل العطار وغيرهم.
وكان لهؤلاء البنائين سلفٌ تميزوا بالمهارة في بناء الطين من أهالي سدير وأهل العارض عامة منهم من ذكرنا ومنهم من كان قبلهم أمثال: أحمد الروساء وعثمان الحاتم وناصر العودان وغيرهم.
وكان أهل هذا الإقليم وهو إقليم العارض متميزين في البناء باللبن والطين منذُ العهد القديم. روى طلق بن علي الحنفي -رضي الله عنه- قال: بنيت المسجد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان يقول: «قرِّب اليمامي من الطين، فإنه أحسنكم له مسّاً، وأشدُّكم منكباً». واليمامي نسبة لليمامة وهي إقليم العارض، والعارض سلسلة جبال طويق وما فيه من القرى.
ولن يقتصر الأمر في الحديث عن بناء الحي الجديد الذي نحن بصدده على (استودية) الطين فقط بل وجد إلى جانبهم بناؤون متخصصون في الجص والإسمنت منهم محمد السبيت وعبد المحسن اليوسف الذي بنى منارة المطار القديم بالحجر والإسمنت ووضعت فوقه علامة تبين اتجاه الرياح لقائدي الطائرات، وقد أزيلت هذه المنارة بعد أن شملتها الأحياء الحديثة، وما كان ضر لو تُركتْ معلماً أثرياً يدل على تاريخ ذلك المكان الذي لم يبق من رسمه إلا اسمه فكان اسمه حي المطار.
أما البناء في هذا الحي الجديد فكان دوراً أرضياً فقط بخلاف البيوت القديمة التي كانت تتألف من دورين. كما تميزت هذه البيوت عن البيوت القديمة بتسميت الأرضيات وتجصيص الجدران وبناء دورات المياه والمراحيض وتصريف المجاري إلى البيارات التي كانت تحفر في الشوارع - بالديناميت - والتمديدات الكهربائية: وهي تمديدات خارجية يقوم بأخذ مقاولتها مجموعة من الطلبة الشباب العصاميين الذين يعملون أثناء إجازاتهم ويستفيدون من وقت فراغهم ويعملون بعد انتهاء دواماتهم إذا كانوا موظفين، فكانوا أنموذج الشباب الصالح الذي يقضي وقت فراغه فيما يعود عليه وعلى مجتمعه بالنفع. ولو استأذنتهم في ذكر أسمائهم لذكرتهم وشكرتهم ولقلْتُ إن منهم الأستاذ عبد العزيز بن أحمد الحزيمي وأخاه الأستاذ عبد المحسن والأستاذ محمد بن سليمان اليوسف وأخاه الأستاذ عبد الرحمن وغيرهم. وقد ذكرتهم بعد اعتذاري عن ذكر أسمائهم تأثراً بقول الشاعر:
لو كان يرضى بالمديح مدحتهُ
وذكرتهُ لكنهُ يأبـاهُ
خلــــقٌ إلى علــــمٍ إلى وطنيّةٍ
هذا الذي لم تجتمع لسواهُ
هؤلاء الثلة من الشباب وأمثالهم هم الذين أغنوا البلد عن استقدام الفنيين الكهربائيين في زمن كان فيه البلد أحوج ما يكون إليهم وقت دخول الكهرباء في منازلهم الطينية القديمة لأول مرة قبل هذا الحي فأضاؤوا تلك الغرف المظلمات إلا من أُنْس أصحابها والمجابيب ( الساباطات ) المعتمات إلا من كرم أهلها وأدخلوا فيها روح الحضارة الساري ( الكهرباء ) في زمن لم يعرفِ الناس فيه إلا السُّرُج والأتاريك اعتماداً منهم بعد الله على أنفسهم في فهم هذا الاختراع العجيب! لقد سدُّوا ثغرةً من ثغرات تحديات التنمية بهذه العجالة وهذه المهارة في وقت وجيز.
أما استودية البناء المواطنون فقد تعلم على أيديهم عمالٌ يمنيون أصبحوا بنائين مهرة منهم بنّاء يمني - أحتفظ باسمه - كان إذا صعِد السلم احمرّت عيناه وصاح بصوته: هيّا يا شنب، ثم يأخذه الحماس إلى درجة كبيرة، فإذا سافر إلى اليمن دفع كل ما جمع من مالٍ دياتٍ لجراحٍ وشجاج لأناس قد نشب بينه وبينهم خلاف ثم يعود صفر اليدين كالذئب الجائع يبحث عن مقاولات، وراهن يوماً على مشاش ( ملاط ) لائحة ( جدار خارجي طويل ) في يوم غائم فيه رعد وبرق - وكان في ذلك متهورا ً – راهن على إن أصابه المطر فعليه خسارة ما أزاله المطر من طين، فوافق صاحب البناء، لكن الله سلّم، فسلِم الجدار، وسلِم هو من الخسارة.
وعاد مرة من اليمن بعد أن ولّى زمن البناء بالطين فأراد أن يستعيد مجده وشبابَهُ ولكن هيهات هيهات العقيقُ ومَنْ بهِ، فقد شبّ عمرٌو عن الطوق، وقال ( أشتي أروح الرياض ) وكنت إذّاك طالباً في الجامعة فسافر معي في السيارة، وكان هذا هو آخرُ العهد به.
نعود إلى (الحِلّة الشرقية) ونقول: إن هذا الحي حل مشكلة تنموية اجتماعية. فالذين بنوا فيه مساكنهم أول الأمر بنوها اضطراراً لا اختياراً، وحاجةً لا تكثراً، وكان من أوائلهم عوائلُ من أسر كريمة معروفة منهم الربيعة والثميري والمجحد والروساء والهبدان وأبانمي والطويل والزيدان والهداب والسليمان والرميح والحزيمي والسعيِّد والعبد الجبار والحليلة وابن حسن والصدي والعبد الوهاب والمبارك وأبوحسن العليّان والعولة والسحيم والتويم والضعيان والعجيمان واليعيش والروضان والعوجان وأسرة والدي وغيرهم. ثم توافدت بعد ذلك باقي الأسر من المجمعة وغيرها استئجاراً وتملكاً.
إلا أن شيئاً جوهرياً كان ينقص تخطيط هذا الحي وهو الأسواق والمحلات التجارية وهذا دليل على أن المشكلة التي كانت في ذهن المسؤولين وقتها مشكلة توفير السكن فقط وسبب آخر وهو أن هذا الحي على حداثته أخذ طابع الأحياء القديمة في أنها تخلو من الأسواق إلا سوق الجمعة ودكاكين ملحقة بالبيوت، ولذلك كان أصحاب هذا الحي يتزودون لحاجاتهم من محلات شيشة ( محطة ) الصنع الله التي تتوفر فيها البقالات والمخابز والمطاعم، أما الحاجات الضرورية الأخرى فكانوا يأخذونها من محلات شارع الملك فيصل والدكاكين الداخلية وساحة البيع والشراء في السوق الداخلي في مجلس العقدة. وكان أغلب الناس يسير تلك المسافة سيراً على الأقدام.
وعلى كل حال فقد كان هذا الحي طرازاً طينياً واحداً ببيوته ومساجده، عدا مجمّع مدارس البنات الابتدائية والمتوسطة الأولى الذي كان مبنياً بالخرسانة المسلحة. وبعد إنشاء صندوق التنمية العقارية الذي بدأ نشاطه عام 1395 بُنيت بعض الأراضي المتبقية داراتٍ ( فللاً ) وعمائرَ مسلحة وأزيلت بعض المباني الطينية وأنشئ مكان بعضها منازل حديثة بالإسمنت والحديد وانقرضت بعض معالم الحي الطيني القديم ولم يبق إلا بعض المنازل شاهدةً على حقبة تاريخية كادت أن تكون حلقةً منسيةً في ماضي المجمعة القريب.
فأشكر الدكتور حمد على مقاله الجميل الذي أشعل فيَّ جذوة الحرف وأيقظ فيَّ عشق التجديف في بحر الكلمة، وشكراً للقارئ الكريم الذي ربما أبحرْتُ به إلى جهة لا يريدها، ومقصِداً لا يقصِده، متجهاً به إلى شاطئٍ تسكنه الرمال، أو ربما أعجبه ذلك الإبحار، وتذكر تلك الديار والآثار، فسلام على تلك الديار وأهلها.
** **
- عبدالمحسن بن إبراهيم اللعبون