كلما رأيت مصادفة غلاف كتاب «في أندونيسيا» - بطبعته الأولى النادرة- للشيخ علي الطنطاوي -رحمه الله- وأنا أبحث عن كتاب أرغب في الاطلاع عليه في مكتبتي الخاصة، تذكرت رحلتي إلى السودان قبل سنوات تزيد عن العقد بقليل؛ لأني اشتريت هذا الكتاب من بسطة كتب في شارع يُدعى السيد عبدالرحمن في وسط الخرطوم، فصرت كلما رأيت هذا الكتاب، -وهو الكتاب الوحيد الذي اشتريته في رحلة السودان- تذكّرت تلك الزيارة التي لم تتكرر لهذا البلد الشقيق.
زرت السودان مرة واحدة في عهد الرئيس السابق عمر البشير، وذلك قبل انفصال شمال السودان عن جنوبه المتمرد بسنة ونصف السنة تقريبًا، وكان البلد يعيش - آنذاك - في فترة غليان وصراع دائم ما بين الشمال والجنوب، دون أن تتوصل الحكومة إلى حل سياسي مناسب يرضي الطرفين!
وهالني أن أرى هذا البلد الكبير في مساحته يعيش في بؤس وفقر، ويعاني أغلب سكانه من مشكلات عديدة، من أهمها البطالة والغلاء، فالسيارات قديمة إلى حد ما، وبعضها من موديلات السبعينيات الميلادية، وهي منتشرة بكثافة في وسط العاصمة، حتى إن سيارة الأجرة الصفراء التي أقلتني من المطار إلى مقر سكني في فندق اسمه دبي، قد توقفت في الطريق غير مرة، فاضطررنا إلى الاستعانة ببعض المارة لدفعها!
لم أطق البقاء في السودان أكثر من أسبوع، وأحسست باختناق عجيب؛ بسبب ارتفاع درجة الحرارة، فالشمس حارقة، والأجواء أيضاً كانت مشبعة بالرطوبة، وليس لي معارف في هذا البلد، ولا توجد حولي مكتبات تجارية، ولا أماكن قريبة للترويح عن النفس!
ولا أدري كيف استطاع د. إحسان عبّاس تحمل العيش في السودان والتدريس في الجامعة سنوات طوالاً، لاسيما في فصل الصيف، حيث تبلغ درجة الحرارة ذروتها، وقد أشار في لقاء صحفي إلى أن أخصب فترة في حياته هي التي قضاها في السودان!
والشاعر د. عبده بدوي درّس في السودان أيضاً وأحبه محبة العاشق، وتغزل في جمال المرأة السودانية ورقتها، وأصدر دراسة جيدة عن الشعراء السود وخصائصهم، وكانت رسالته للماجستير بعنوان «الشعر الحديث في السودان».
وهناك أيضاً من انتدب للتدريس في السودان من الدكاترة المصريين في حقبة الستينيات الميلادية، من أمثال: محمد النويهي، ومحمد مصطفى هدّارة، والأخير له دراسة ضخمة بعنوان «تيارات الشعر العربي المعاصر في السودان» من مطبوعات دار الثقافة ببيروت.
وحينما بلغت جيوش هتلر حدود مصر، كان السودان هو أول ما فكر العقاد في الهجرة إليه؛ هرباً من بطش هتلر بعد أن ألف كتابه الشهير «هتلر في الميزان».
وأوصى أحد أصدقائه في القاهرة قبل أن يسافر بأن يبيع مكتبته الخاصة؛ نظرا لحاجة العقاد إلى المال، فلا يدري متى تنتهي هذه الحرب.
ومكث في ربوع السودان أكثر من 40 يوماً، ووجد كل حفاوة وتقدير من الوسط الثقافي، وأقيمت له العديد من حفلات التكريم، وشارك في صحافة السودان وإذاعته كاتباً ومتحدثاً.
اقترح علي أحد الإخوة هناك زيارة الخرطوم بحري، فزرتها ولم أجدها أحسن حالاً من الخرطوم العاصمة؛ فالخرطوم بحري ملاصقة للخرطوم والمسافة قصيرة، وبيوتها أشبه ببيوت القرى بغير نظام ولا تنسيق، وتكثر أسرة النوم في مقدمة البيوت!
حينما وصلت إلى السودان وتجولت في بعض الأحياء والشوارع، آلمني ما وصلت إليه الأوضاع الاقتصادية في هذا البلد؛ بسبب الحروب الأهلية والانقلابات المتكررة، والصراع حول السلطة، مما أدى إلى توقف عجلة التنمية والإصلاح، وكانت النتيجة هجرة الملايين من أبناء الشعب السوداني إلى الخارج؛ للعمل في مهن بسيطة، والمتعلمون منهم هاجروا إلى أمريكا وكندا وبعض دول أوروبا؛ للعمل في مجال الطب والهندسة والمحاماة، ومنهم من عمل في القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية مثل: الروائي الطيّب صالح، ومنهم من عمل في الصحافة، وهو د. محمد إبراهيم الشوش - رئيس تحرير مجلة الدوحة الأسبق- ومنهم من اُشتهر وذاع صيته في مجال الأدب وتحقيق كتب التراث، وهو د. عبدالله الطيّب صاحب الكتاب القيم «المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها».
وأحسب أن كتاب «عشرة أيام في السودان» للدكتور محمد حسين هيكل، من أوائل كتب الرحلات القديمة التي قرأتها عن السودان، وهو كتاب نادر بالفعل، وإن كان كتب بأسلوب صحفي - لا أسلوب أديب -دعي من الحكومة السودانية لحضور احتفال افتتاح خزان ولاية (سنار)، بصفته رئيساً لتحرير جريدة السياسة الأسبوعية.
أشار علي موظف الاستقبال في الفندق، أن أذهب إلى حديقة جميلة وهادئة تقع في الضفة الأخرى، لقضاء بعض الوقت هناك، فأخذت بنصيحته وذهبت إلى الحديقة بعد صلاة المغرب، وللأسف فوجئت بأسراب من البعوض يهجم علي بشراسة، ولم أسلم من وخزاته المؤلمة، فانتقلت إلى داخل الحديقة الشاسعة، لعل الحال في الداخل يكون أفضل من الجلوس في الخارج!
ومن أجمل شوارع الخرطوم شارع النيل، وهو شارع قديم وفسيح، وتظلله الأشجار الباسقة، وتنتشر حوله الوزارات والسفارات والمصالح الحكومية.
وهناك شوارع أخرى رئيسة في الخرطوم، مثل: شارع القصر، وشارع الجامعة، وشارع الجمهورية، وشارع البلدية، وشارع المك نمر، والشارع الأخير استرعى انتباهي اسمه، فسألت سائق التاكسي عن من يكون صاحب هذا الاسم، فلم يجبني إجابة شافية، واتضح بأنه اسم آخر ملوك الجعليين بشندي.
قرأت عن جزيرة (توتي) من خلال بعض الاستطلاعات المصوّرة عن مدن السودان، فوجدتها فرصة سانحة أن أزور هذه الجزيرة التي تقع عند التقاء النيلين بـ «المقرن». وهي جزيرة صغيرة وأرضها خصبة، ويمكن الوصول إليها عن طريق جسر يبلغ طوله أكثر من كيلين، وقد قطعت هذه المسافة سيرًا على قدمي!
ويوجد بهذه الجزيرة الصغيرة مسجد وبعض الحوانيت الصغيرة، ويعمل أغلب السكان في الزراعة وتربية الأغنام، ويبدو أن سكانها ينتمون إلى قبيلة واحدة.
وفي طريق العودة باتجاه شارع النيل الشهير، يبدو مبنى الفندق الكبير من بعيد، وهو أكبر فنادق السودان وأكثرها جمالاً وفخامة، ويطل على النيل الأزرق، وفي صالاته الواسعة كانت تعرض اللوحات الفنية التشكيلية.
وقد دفعني الفضول إلى التجول داخل هذا الفندق القديم، وأعجبت بتنسيقه كثيراً وبجمال تصميمه المعماري الفريد، واتساع غرفه وأجنحته وملاحقه.
وقد كان أكثر نزلاء هذا الفندق - سابقاً- من الأجانب، وشيد قبل أكثر من قرن وأضيفت له بعض الملاحق الأخرى.
وعلى مقربة من الفندق الكبير بامتداد شارع النيل يقع متحف السودان القومي، وقد زرته على عجل، ورأيت بعض مقتنياته من الآثار والتماثيل والتوابيت التي تعود إلى أزمان موغلة في القدم من تاريخ السودان.
وقبل أن أغادر السودان رأيت أن أزور أم درمان، وهي المدينة الثانية، وكان يُطلق عليها العاصمة الوطنية سابقاً، وكانت أكبر مدن السودان وأكثرها سكاناً.
كان الهدف من زيارة أم درمان هو رؤية مسجد النيلين- ذي اللون الأبيض- الذي سمعت به كثيراً، وبني في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري في منتصف الثمانينيات الميلادية، وقد زرته وبهرني طرازه المعماري.
وزرت أيضاً جامع الملك فاروق وهو يقع في شارع الجمهورية وقريب من السوق العربي، ويُقال إنه سمي بجامع الفاروق؛ لأنه هو الذي أمر بترميمه حينما كان يحكم السودان ومصر.
هذا بعض ما تبقى في الذاكرة من رحلة السودان، وما استطعت تدوينه في مفكرتي اليومية، وكم كنت أتمنى لو كانت هذه الرحلة في فصل الشتاء؛ لأتمكن من زيارة بعض المدن والمحافظات السودانية الأخرى، مثل: شندي وعطبرة وكسلا والجزيرة، ولكن هذا ما أتيح لي زيارته في هذه الرحلة.
** **
- سعد بن عايض العتيبي