حاورتها - د. سهام العبودي:
هي صوت لا يملُّ اختطافنا: سردًا وحديثًا وتغريدًا.. وحديث معها يهبنا قولًا فصلًا من فم التجربة الخصبة التي ما تزال واعدة.. طريَّة.. لامعة منشغلة بالسؤال، ومستفيضة في استكناه الغامض، وفي مناورة اللغة، ونصبها: مكائد لذيذة مدهشة.
تجربة واسعة تروم التقليب والمداولة والحفر والتفتيش واطِّراح المتناول، والدخول إلى منطقة التجاوز والاختلاف؛ فلا أخوفَ على الساردِ من أن تزلَّ به قدم الكتابة إلى منزلق الحكاية، وسطحيَّة الحكي، ومن أن ينتهي مآل النصِّ إلى فراغ جدواه؛ ما دفع أميمة الضالعة في التجربة إلى تفليق مسارات أسئلة السرد في وسمها #فقه_الرواية، فتنعم على القارئ رؤى لمَّعتها التجربة، وجهر فيها صوت التجويد.
لا يصحُّ – قطعًا – أن يُطرح سؤال: من هي أميمة الخميس؟ لكنَّه مستهلٌ لازمٌ لأنَّ مآل السؤال ههنا إلى من خَبُرَت الكتابة، و(فَقِهت) صنوفًا منها، واستطلعت من الدروب ما انتهى بها إلى اختصاص دربها، وامتياز تجربتها، ووفرة القارئين لها، المريدين صنوف إبداعها.
كاتبة ساردة وقارئة للمجتمع، لها في السرد تجارب مبكِّرة مع القصَّة القصيرة في مجموعات: (والضلع حين استوى)، و(أين يذهب هذا الضوء؟)، و(الترياق)، و(مجلس الرجال الكبير)، استهلَّت تجربتها الروائيَّة بـ(البحريات)، وثنَّت بـ(الوارفة)، ثم (زيارة سجى)، وأخيرًا جاءت تحفتُها السرديَّة: المسرى (مسرى الغرانيق في مدن العقيق)، وأخيرًا كان لها عود لطيف إلى القصِّ مع ابنة العزلة مجموعة: (الغزالة).
والأستاذة أميمة كاتبة في مسارات أدب الطفل، والمقالة، مع مساهمات كثيرة في الأدب والثقافة والمعرفة، ولها كتاب مكاشفات شعريَّة بعنوان (ألف صباح وصباح) بالاشتراك مع الشاعرة فوزية أبو خالد.
وعلى الرُّغم أنَّ تقدير الفنِّ الكتابيِّ هو في المقام الأوَّل التقدير الذي تمنحه عين القارئ وهي تلمع جذلى في مغامرة قراءته، إلَّا أنَّ التقدير المتخصِّص امتياز يعطي إطارًا مُظهِّرًا لصورة الإبداع، وأميمة حازت هذين الرضوانين: فنالت روايتها (مسرى الغرانيق في مدن العقيق) جائزة (نجيب محفوظ للرواية العربيَّة) عام 2018م، وعلى ترشيح ضمن القائمة الطويلة للجائزة العالميَّة للرواية العربيَّة (البوكر) عام 2019م، كما نالت روايتها (الوارفة) ترشيحًا للجائزة العالمية للرواية العربيَّة (البوكر) عام 2010م، كما نالت الكاتبة جائزة أبها للقصة عام 2001م.
الفقه بالتفقه
* يحصل (الفقه) بالتفقُّه، وإذا كانت المعاجم تفسِّر (الفقه) بـ «العلم بالشيء والفَهْم له» فأين تبدأ صناعة هذا الفقيه السرديِّ؟ وما المناطق التي يرتادها لفهم هذا الوجود اللُّغوي العابر بالمعنى من عقل إلى عقل عبر الكلمة؟ وأين يكون تفقُّه العقل الذي سينخرط في ترتيب الحكايات، ومعالجة الزمان، ورسم الأمكنة، وتشخيص الأبطال؟
أسأل هذا السؤال لأنَّ ما يردني من أسئلة ناشئة السرد ومريدي القصِّ تبدأ من هذا الحاجز: أن كيف ألمِّع هذه الموهبة التي تتبرعم في مقتبل الكتابة؟
- تكمن المفارقة هنا في معابثة كلمة (فقه) بحمولتها الوقورة التي تتسامى فوق ما يتاح للعموم، وتنحصر في دائرة سدنتها وتراتبيتها الطبقية، فهذه الإزاحة لكلمة (فقه) وإدراجها في نطاق آخر كالأدب ليس بغرض الحصول على دهشة لغوية فقط ولكن لإحياء حمولتها المعجمية وتوسيع أفقها، وهذا ما وظفته عبر وسم على منصة تويتر #فقة_الرواية والتي أتوسل فيها بعضًا من السلطة لإصدار الفتاوى الأدبية والتي تحاول تقديم بعض الومضات في طريق كتابة الرواية الشائك المتطلب، والذي إلى الآن وبعد إصدار أربع روايات أجد أن كتابة الرواية باتت أصعب وأشرس، لذا الاستعانة بهذا الفضاء الذي يتضمن الآلاف من القراء لربما يؤسس (لن أقول القوانين) بل آلية تشغيلية من الممكن أن يستعين بها الروائي (أولهم أنا).. ليتجاوز بعض الفخاخ التي تتربص به عند كتابته الرواية.
- آخر تجاربي في قراءة أميمة كانت (الغزالة): وأنا ما زلت تحت تأثير سحر تلك المدونة الثقافيَّة العامرة بما لذَّ وسُرِد من أغذية الروح والعقل، ودعيني أقف بشكل أخصَّ عند القسم الثاني من الكتاب: (قلائدُ الجُمانِ وفَرْطُ الرُّمانِ في ليالي رمضان): حيث غزالة التفكير الشاردة إلى سماوات التفكُّر!
ما لفتني - سوى هذا الغوص العميق في ثقافة الطعام وأنثروبولوجيا التغذية، وكثير من تفصيلات حياة أميمة – أنَّ هذا التدوين الفريد يذكِّر أنَّ الرواية هي ذاكرة مزدوجة تحفظ للأديب وعنه؛ ففي هذه المدونَّة السرديَّة القصيرة استعادة للبحريات ص61، واستعادة للوارفة ص70، والغرانيق ص82؛ فأميمة تستحضر ذاكرتها الروائيَّة لتستدلَّ بتدوين شهادةً على واقع آخر: يعلِّم لنفسه أطر وجوده قبل أن يعلِّمها للقارئ!
التجربة
* فهذه الشبكة من السرود وعناصر الذاكرة المتداخلة هي التي نسمِّيها (التجربة). وبعد تجربة خصبة من السرد.. ما الذي تراه أميمة حين ترتدُّ إلى مدوَّنتها؟ وما الذي يغويها للكتابة في المستقبل؟
- أحتاج أن أتريث أولًا لأستمتع بهذه اللغة الفاخرة، وأتيح لنشوة السؤال أن تتخللني، وجرعة الزهو تصل أطراف أصابعي فعندما يكون المحاور أديبا.. ستكتب وأنت تقف على أطراف أصابعك لتقطف النجوم وترصفها عندما تخذلك مفرداتك.
وفكرة الكتابة من على طاولة المطبخ دفعني لها أمران الأول إعجابي بكتاب إيزابيل الليندي (أفروديت) والذي يدور حول الطاقات الأنثوية المتوقدة المستمدة من الطبيعة والحقول، وكيف أن بإمكان المرأة أن تمرر سلال الحقل لمطبخها و تستثمر ركام خبراتها المتحدر من جداتها و قرون لازمت فيها المطبخ، لتجعل من الطبخ تجربة أنثوية وإبداعية في نفس الوقت، توازن المقادير، لسعة البرودة وضجر السخونة، المخصبات والمطعمات التي تذر فوق القدر ابتداءً من الفلفل الأسود انتهاء بأنفاسها وتدفق أمومتها ورحيق مزاجها ذلك النهار، أي تمارس سطوة أفروديت وعشتار المغوية كطرف ثالث بينها وبين المطبخ.
الأمر الثاني هو استدناء مواطن بكر غير مطروقة للمدونة الأدبية، فتلك المدونة كانت عبر التاريخ تتحدث عن التجربة الوجودية للرجال الحكماء أو الفرسان العشاق، وأقصيت عنها التجارب الوجودية الأنثوية التي لها خصائص الحقول. (إنه صراع مردوخ وتعامت في الأسطورة السومرية) عندما انسلخت البشرية من عصورها الأمومية وانخرطت في تأثيث مدونة الذكور بكل شروطها وقوانينها، وتراتبية توزيع الأدوار داخلها.
حضور النص!* بينما أقف على بعض حوارات معك تطرأ دومًا أسئلة من قبيل: أأميمة كامنة في النصِّ؟ أكانت إحدى الشخصيَّات صورتها وصوتها؟
وهذه فكرة تتكرَّر ولا سيَّما في سرد واقع قريب يلامس الحياة، ويعبر تحوُّلاتها التي يمكن أن يكون الأديب قد شهد شيئًا منها.. بين فكرتي: أنَّ الكاتب موجود وغير موجود في آن، أنَّه حاضر دون أن نرى قدميه تتحرَّكان فوق أرض الحكاية: هل كانت أميمة كامنة في قلب إحدى شخصيَّاتها؟
مزيد الحنفي*وما دمنا في منطقة الشخصيَّة ومرجع تكوينها، لنقف قليلًا عند شخصية (مزيد الحنفي) صوت الرجل الممتدِّ ما يقارب ست مائة صفحة، مصنوعًا من عقل امرأة: تتلمُّس منه شعاب الروح ووديانها على نحوٍ سافر اليقين بهويَّته المذكَّرة؛ فهل هذا من أفعال سحر السرد المتقن؟
- لربما هذا السؤال يجعلني أنبش قليلا بحثا عن المفتاح الذي عالج لي أقفال بوابة حديقة الأدب، فكانت محض مفردات اصطفت أمامي وأنا ألعب لعبة الكرات الزجاجية الملونة المتصافقة (هذا الشكل الذي تتبدى فيه المفردات داخل رأسي)، وأردد ما كان أبي يتلوه بجلال أمامنا، وأرصفها على نمطه وقيل لي لاحقا إن هذا اسمه الشعر، وإن ماءه لابد أن يغرف من عروقي وماء العين ونبض الأحلام السرية....استمرت قليلا.....لكن بعد ذلك جفلت، وعرفت أن اللعبة خطرة وقد تفضي بي إلى أرض مسبعة مضبعة، لا قبل لوداعة الخباء لجبروتها وسطوتها، فالتففت وراء الخباء ليلا وبدأت أنشد تلك القصائد السرية لوحوش البرية دون أن أجاهر بهويتي، واكتشفت عندها بأن الفراشات والنحلات باتت تأز خلف الخباء، كل يريد أن يفوز بنصيب من الكلام، وابتدأت الشرانق تنشق عن الشخصيات لتتخاطف الأسطر، تغزل حبال الحبكة، وتقول ما حجبت عن قوله على امتداد التاريخ، أو ما وضع على لسانها ونسب القول لها.
السرد هو طريقنا الأقل وعورة، وما تنخلع قلوبنا خشية ورهبة عن قوله منسوبا لنا، نقذفه على لسان شخصية مارقة جامحة.
الشخصيات فيها أسرار جيناتي، والطريقة التي تستقبل فيها العالم حدقاتي، قد يغضبني أحيانا تمردها وعصيانها، أو خضوعها لشرطها الزماني والمكاني، ولكن نظل نتشارك قدرا لا فكاك منه.
دعيني أبوح لك هنا بسر صغير، ولعل عدد السنين الذي تفصلني عنه جعل ذنوبه تسقط بالتقادم، وصولا إلى شتاء قارص في الرياض، كان يحتاج إلى مغامرة محتدمة تبعث الدفء فيه.
وكانت وقتها تطوح بي الأسئلة الوجودية حول الذات، والهوية، والأنوثة ذات المستقبل الكسيح المتواري، والذكورة التي تنازل الشهب والنيازك والامتيازات التي ينالها أخوتي الذكور دوني، فهم يقصدون مجلس الوالد بكل نجومه وأدبائه ومشاهيره، يرافقون أبي في رحلاته البرية يقفون عند كل جبل ومعلم وغدير ويستوقفون القصائد والأخبار والسير والمغازي التي مرت به وحوله.
بينما أبقى هناك قصية بين دفتي كتاب أقرض العالم كشطيرة بائته!! جندب يتقافز فوق الأسطر ليغني في المساء أغنيته وحيدا.
وكانت لي صديقة قريبة تشاركني الشيطنة و شغف لعق العالم واختباره عن قرب، تشرنقنا بمناديل لففناها حول أجسادنا بقوة لتخفي تضاريسنا الأنثوية، وارتدينا ثياب إخوتي وفوقها ذلك المعطف الطويل (الدقلة) بجلال جندي يحمل درعه ليخوض معركته الكبرى لأول مرة، وتلثمنا بالشمغ وثبتناها بالعقال.... وخرجنا.
وقع أول خطوة في الشارع كان جليلا تلقف الشارع قدمي التي كانت في صندل رجالي جلدي باحترام وحنو، تباعد نخيل الشارع وانحنت أعمدة الإضاءة كي نمر، كأن موكبًا يحفنا لا أوامر تتربص بنا وتقصينا أو تكفكفنا، خطواتنا متسكعة هنا وهناك، ولا تشبه تلك الخطوات المتقاربة العجلى التي عودتنا العباءة وعسفتنا عليها، مع العباءة بلاط الرصيف يعرقلنا ويخبرنا أن وجودنا مزعج ومربك للشارع ولابد أن ننتهي من شؤوننا أو حتى إذا لم تنته .. فقط علينا نغادر.
قطعنا الشارع المزدوج في حي الملز، حي التكنوقراط المشغولين بمشاريعهم الطموحة عنا، ودخلنا في شارع المتنبي عندما كان سوقا للمشاة تصطف المحلات على جانبيه، متزملات بأبيات المتنبي:
ولو أن النساء كمن عرفنا
لفضلت النساء على الرجال
فما التأنيث لاسم الشمس عيب
ولا التذكير فخر للهلال
ولم نمض الكثير من الوقت في ذلك العالم الشهي المتاح والمستباح، فسرعان ما بدأت السيارات تتوقف جوارنا تزعم باستفسارها عن معلم، ولكن الأعين الخبيرة عين القناص والحدأة كانت تخبرهم بأن هذا المشهد يعاني ارتباكا ما!! خطوات حائرة ما بين الأنوثة /الخنوثة، وأذكر بدأت ترتجف أطرافنا من الخوف، فنحن لا نستطيع أن نتكلم، تماما كعروس البحر التي اشترطت عليها ساحرة البحر الشريرة أن تأخذ صوتها الجميل مقابل إعطائها بدلا من ذيل السمكة قدمين بشريتين تتجول بهما.....
دخلنا نحتمي من توتر الموقف في محل بائع عطور لبناني، خاف منا هو بدوره، فلم يتعود أن ترسل له شوارع الرياض الوقورة مثل هذه الشطحات...... في النهاية استطعنا العودة إلى أمان المنزل دون كبير مشاكل، وظلت متاهة الطرق المتاحة والنخيل الذي ينحني بوقار لي، في ثنايا القلب لم تضمر، إلى أن تخلق داخلي مزيد الحنفي وشب عن الطوق، فناولته الخريطة وطلبت منه أن ينطلق.
إدارة الشخصية
* ما مفتاح إدارة الشخصيَّة: الكائن المتخلِّق بين يدي الكاتب؟
- البارحة في السوبرماركت مررت بجوار سيدتين، كانتا تتشاوران في محتوى علبة بهارات، ومن أول الممشى إلى أن تجاوزتهما في هذه الدقيقة الخاطفة ناولتني جنيتي الصغيرة المتلصصة، ملخصا عن حياتهما كان واضحا شديد الوضوح، وصلتني رائحة غرفة معيشتهم في رمضان، وكمية الضوء التي تنسكب فيها، ولون ستائرهم والباب الألمنيوم الأسود الذي يفضي للحديقة، وأعرف بأن هذا قدر حائكة الحكايات التي لابد أن تمنح أي ممن تمر به بعضا من أثوابها لربما للألفة مع عالم غامض، أو بحثا عن متعتها الخاصة التي تتحقق من سكب تيار اليومي العادي .. في قوالب حكاية.
وأشعر أن كلمة إدارة الشخصية جائرة نوعا ما، فعندما أدون الشخصية أتنازل عن دور المدير، أكون طوال الوقت أسايرها وألاطفها، وأحاول أن أخبرها بأنني لن أعسفها أو أؤذيها، فقط سأسير جوارها وأدون بعض ثرثرتنا سويا.
- كانت المسرى رواية تقارب تاريخ مدائن مهدَّدة باعتقال العقل، ينفتح فيها المتخيَّل ليروي أزمتها الفكريَّة، نسيج سرديٌّ محكم يمكن تمييز التاريخي الواقعيِّ من المتخيَّل فيه دون أن يتفكَّك هذا النسج، تلك مهارة عالية لعقل لم يعد مبتدئًا، فلا شكَّ أن هذا الإحكام هو خلاصة ناضجة للممارسة الجادَّة.
عمل جديد*أتصوُّر كلَّما تجاوزت في قراءاتي فصلًا من فصول تلك الرواية أنَّ طاولة كتابة أميمة كانت تَطْفِر بالمسوَّدات والمراجع لمواجهة المشي فوق أرض زلِقة، لا لطبيعتها التاريخيَّة وحسب، بل لكونها موطن أزمة متعدِّدة الأوجه.. فكيف ساست أميمة هذا الدفق المرجعيَّ لعصر كان هو (زبدة الحقب)؟
- أسئلة العقل ومغامراته إرث قديم تناقلته الشعوب والحضارات منذ فلاسفة الإغريق، قدحت جذوته في دار الحكمة في بغداد فخلق حراكا فكريا شاهقا ظهرت عبره الكثير من أساليب التحليل والقياس التي تضع فوضى المعارف فوق ميزان العقل، يقول الكندي الفيلسوف العربي الأول (اعلم أسعدك الله، أن أعلى الصناعات الإنسانية درجة، وأشرفها مرتبة هي الفلسفة)، ولاحقا ظهرت المذاهب الفقهية الأربعة، وبعض الفرق مثل المعتزلة وإخوان الصفا، قبل أن تتربص بكل هذا الصهيل الهراوة الفقهية وتلجمه.
ولكن كان قد انتقلت هذه الاشتغالات الفكرية إلى الأندلس، وعبر ابن رشد إلى أوروبا، فانبثق عنه وما رافقه من إضاءات عصر التنوير الأوروبي، قبل أن يصل إلى ضفاف العالم العربي في القرن التاسع عشر، على يد طلائع البعثات إلى أوروبا.
وأسئلة العقل أصبحت من أهم الاشتغالات الفكرية التي هيمنت على الفضاء الثقافي العربي في القرن العشرين، مع ما رافقها من نضالات التحرر من الاستعمار وسطوة التخلف، وصاحب هذا النضال العديد (أو كان أحد أشكاله) مؤلفات كبار المفكرين العرب، على رأسهم طه حسين، وفؤاد زكريا، ومحمد عابد الجابري، فكان الأخير في مشروعه (نقد العقل العربي ) هو رفيقي على مدى سنوات، فكك المسلمات، واستجوب القطعيات، وكشف ما استتر خلف راحة المألوف، اطلاعي على مؤلفات الجابري صنعت زلزالا صغيرا داخل رأسي، هذه الحالة التراكمية.. ولد عنها رواية (مسرى الغرانيق في مدن العقيق).. التي كانت صيغة إهدائها ما يلي:
(إلى السُراة الغرانيق
من
واصل بن عطاء
إلى
محمد عابد الجابري
مآلات العقل الحبيس).
(يتبع)
* في حوار لك بالمجلَّة العربيَّة أشرتِ إلى اشتغالك بعمل روائيٍّ جديد يستلهم التاريخ، ويعمل على تسريده؟
كانت اليمامة المنشأ والذاكرة بالنسبة إلى (مزيد)، وإن كانت تغيم لاحقًا لصالح الحواضر الكبرى في ذلك العصر، ولكنَّ الرواية تفتح الأمل أن تكون هي – اليمامة – أو إحدى حواضر الجزيرة وجِهاتها وجهة سرديَّة تتخلَّق فيها حكاية، ويستعاد فيها تاريخ يستظهر تلك الأمكنة، أظنُّ أنَّه على الرواية السعوديَّة أن تتولَّى مسألة إعادة الضوء إلى تاريخ نجد، وتمحو التصورات القبلية القارَّة الظالمة، التي أقصت هذا المكان موطن الشعر الذي لم يكن مجرَّد نظم عذب مغوٍ، بل نظامًا دقيقًا من القول يحيل إلى عقلية لامعة.
الموروث المكاني* ونحن اليوم في مسار استظهاريِّ شديد الحماسة نحو التاريخ السعوديِّ البعيد عبر التنقيب، والبحث وتلك اشتغالات المؤرِّخ والآثاري، ولكن ما المنتظر من الأديب تجاه الموروث المكاني والتاريخي هنا: العُلا وحضارات ومدائن هذه الصحراء، وفي دائرة تاريخيَّة أقرب: الدرعيَّة ومواقع التأسيس والتوحيد؟
ولعل الإشكالية التي صادفت المتنبي في بواكير حياته الإبداعية، قد تأتت من ملكة الاستبصار الحادة التي ترتفع طرديا كلما كانت الموهبة محتدمة حاضرة وكبيرة، ولن يكون هذا الأمر بعيدا عنك أيتها المبدعة، فقد قرأت كتابيه، وحدست بأن اليمامة ستكون حاضرة مشمخرة بكل هيبتها وصلصلة سيوفها وسوانيها، فروايتي التي صدرت حديثاً «عمة آل مشرق» تتحدث عن الرياض واليمامة والجزيرة العربية، وهذا مطلعها:
منها خرج الغزاة وطلاب المغامرة واحتلوا نصف العالم، وغرسوا بيارقهم وقصائدهم وملامحهم التي ستصادفك بين الجبل والشاطئ.
مآذنهم في عواصم العالم تصدح (بمانيفستو) الثورة الأول في اليوم خمس مرات، نسغهم يجري في عروق الدنيا فلا يخلو منه بيت من سمرقند إلى مالقا.
ومن تحت الرمال اهتزت وربت ممالك العرب البائدة، وعادت تطالب بأسطر من الحكاية تروى بلسانها … وليس كما كتبه المارون بها عنها… عادوا بعد قرون يحاولون فك نقوش الأسلاف وطفولة البشرية».
- أعرف أن الكتابة موهبة، لكنَّ الصقل اللُّغوي يؤتى ولا يأتي، ولست هنا أتحدَّث عن مستوى الصقل الذي يفضي إلى إنقاذ لغة الكتابة من الأخطاء، بل إلى اللغة التي تُصنعُ على عين المعنى، وتُنحت من معجمٍّ فرديٍّ ثرٍّ لا يتقاصر عن إدراك إبانة لا تعدم الجماليَّة.
سلاسل الدهشة* الفنون القوليَّة تصعد باللغة. ولا يسعني إلَّا الذهول أمام سلاسل الدهشة التي ترتبها أميمة في سردها، فهي لا تفتأ تفصل اللوازم، وتلازم المختلفات. هذا النحت الفردي المتميِّز مثل وتر يهزُّ نغمةً فريدة تشبه بحَّة لذيذة في حنجرة العربيَّة، فلا عجب أن يبتلع القارئ بها الأفكار على لذَّة وقَبول. ما مقام اللغة في مدوَّنة أميمة السرديَّة؟
- تريثت قليلا فهذا السؤال لا يُقرأ، بل لابد أن ترتشفه ارتشافا كمعزوفة، كي تستطيع أن تتساوق مع جلال تركيبه.
سأحاول الدخول إلى مضمار السؤال ومنافسة فرسه، فأنا لا أعرف من أين يؤتى وكيف أمسكه، ولكن لربما هو يعيدني إلى تلك المرحلة الباكرة التي كنت أرى فيها المفردات كحبات التوت المعرشة على إحدى جدران بيت الملز، والتي إذا ضغطنا ثمرتها انبجس فوق أصابعنا ذلك السائل الحلو الدبق، شيء مقارب أو مشابه تبدَّى لي أن اللعب بالمفردات ورصفها سيخرج عنه الشراب الحلو/المكافأة.
وأنا أحاول التسلل إلى أرض الكتابة التي عبدت دروبها بالعسجد تربص بي وبأدواتي أمران:
الأول – هو كوني محاطة بجدران منزلنا المرصوفة بكتب الوالد التي يغلب عليها الثقافة التقليدية والتراثية، وهذا ما كان يتوقعه السامعون مني، ولربما ما كان يلطف صرامة المفردات هي مكتبة الوالدة التي تحتوي على القصص والروايات والمترجمات العالمية، إضافة إلى جل ما تصدر بيروت آنذاك من مجلات، مثل مجلة الحوادث والأسبوع العربي، وأحيانا كنت أطالع مجلة العربي الكويتية.
والأمر الثاني – هو التحاقي بقسم الأدب العربي في الجامعة بعد تعثري في قسم الأدب الإنجليزي، وباتت اشتغالاتي كلها تنحصر في عمق التراث، الذي بدوره يسر دربي إلى المفردة المعجمية، وأصبح باستطاعتي انتشالها من ركام الهجران وغبار الإهمال، لأدسها مجلوة بين السطور.
ولكن أعتقد بأن هذا لا يكفي وروحي الجامحة رفضت هذا التدجين والانصياع، وأحسست بعطش لينبوع يروي ويرطب ويجلو غموض ما تعجزه المفردات، الإصدارات الجديدة دواوين محمود درويش، كتاب أدونيس (الثابت والمتحول)، روايات نجيب محفوظ، الملاحق الثقافية في الصحف السعودية، مجلة اليوم السابع، جميع هذا أحالني للغة مختلفة مدهشة، تعثرت عند بوابتها قليلا، وبت أحاول التزحلق والتشعلق بالأغصان ومتعة التطويح بالمفردات في الجهات الأربع لترتد لي بفكرة جديدة، وحينما كنت أصف بعض المواقف والشخصيات في رواية، كنت أعلم بأنني يجب أن أمدها بصلصال خرج للتو من أتون الخلق، حتى أحميها من البهوت والنمطية.
جميع هذا أدخلني في لعبة اللغة التي لم تنته إلى الآن.
مفاتيح الرواية
* دعينا أستاذة أميمة نتجه إلى الجهة المقابلة: فإذا كنا ننشد روائيًّا ضليعًا متفقِّها مدركًا لأصول فنِّه، فإنَّ هذا الفنَّ سيحتاج إلى قارئٍ مستعدٍّ فقيهٍ في التلقِّي – إن جاز التعبير –. لنأخذ مثلًا رواية المسرى: فهناك بعض الضلال التأويلي، أو الاختلاط والزحول عن مرجع الحقيقة فيها، ومردُّ ذلك إلى قصور قارئ غير مستعدٍّ وغير مطَّلع.
ما الذي يحتاج إليه القارئ كي يستدلَّ على مفاتيح أبواب الرواية؟
- لقد أنصفتني أيتها البديعة، ولم تلق اللوم علي في رفع الأبواب موصدة في وجه القارئ، ولعل جزءًا من اللوم قد يقع علي، ولكن لربما هذا جزء من جبلتي الأدبية، التي تجعلني أستمتع بالاستثمار في الكلمات النائية والتعابير غير النمطية المتداولة، وعندما سُئل أبو تمام:
- لمَ لا تكتب ما يفهم، فأجاب رده البدهي الذي خلده التاريخ، ولما لا تفهم ما يقال.
لن أوظف سلاطة البحتري عندما قال:
أهز بالشعر أقواما ذوي وسن
في الجهل لو ضربوا بالسيف ما شعروا
علي نحت القوافي من معادنها
وما علي إذا لم تفهم البقر
فهذا استشهاد جائر ومتعجرف، ولعلي أكتفي بما قاله أبو تمام
وأيضا هناك حكاية تروى عن أبي تمام بنفس السياق عندما أراد البعض أن يسخر منه نظرا لغموض معانيه على أفهامهم، طرق أحدهم بابه ومعه إناء وقال أريد رشفة من ماء الملام، معرضا ببيته:
لا تسقني ماء الملام فإنني
صب قد استعذبت ماء بكائي
فأجابه بسرعة بديهة قائلا..
لن أسقيك ماء الملام
قبل أن تجلب لي ريشة من جناح الذل
يقصد هنا الاستعارة في الآية الكريمة..
- يقول جودار: «أشفق على السينما الفرنسية لأنَّها تفتقر إلى المال، وأشفق على السينما الأمريكيَّة لأنَّها تفتقر إلى الأفكار»، قد تكون هذه وجهة نظر (فيها نظر)، لكنِّي أنطلق منها إلى الرواية والسينما هنا في المملكة.
ثمة أفكار كثيرة تصلح أن تنتقل من الحالة اللغوية المكتوبة إلى الحالة البصريَّة، واللغة المنطوقة.
ولا نقص في المال فنحن نرى نصوصًا تستنفد أموالًا لتحويلها إلى مشاهد بصريَّة دون أن تحرِّك ساكن الذائقة.
تمتلك أميمة هذا السرد الطيِّع للتنفيذ، فهو متشكِّل بصريًّا على نحو مشبع للمخيِّلة، ولا أظنُّه يحتاج إلى كثير من المعالجة كي يتحوَّل فيلمًا أو مسلسلًا.
نص سينمائي
*هل ترى أميمة نصًّا من نصوصها ممثَّلًا سينمائيًّا أو تلفزيونيًّا؟ وهل لسردك اشتراطات كي يتحقَّق مرئيًّا على إحدى هاتين الصيغتين؟
- لا أعتقد أن الأمر يسير ومتدفق، والقوالب التي ينصبها السيناريو في درب الأحداث والشخصيات وهي تحاول أن تنمو وتتكامل وتغرف من أنهار اللغة، لتكتشف بأنها هناك قانون آخر يتحكم في صفحات السيناريو (أظهر ولا تخبر) أي لابد أن تنثر رسالتك في زوايا اللقطة أردية الممثلين، الحوار، المواقيت، ولا أخفيك بعد قراءتي لكتاب ماركيز حول السيناريو، وكنت أيضا عضوة في عدد من لجان لتحكيم السيناريو، فحاولت أن أتسلل إلى هذا العالم على اعتبار أن عصرنا هو عصر الصورة، لكن بعد عدة صفحات أصبت بالإحباط والحنق، وكأن أحدهم قصص أجنحتي، وجعلني أتسلل كالسلحفاة المنهكة فوق الصفحات.. وحسمت أمري وقتها.. وجمعت شخصياتي ومصائرهم وأقدارهم.. إلى أمان بيت الرواية، لنخرج برواية هي الآن تحت الطبع .. ولكن لا أعتقد بأنه قرار نهائي فقد أعود للسيناريو يوما ما.. ولو حتى بعضوية معلقة.
مستعمرة التفاصيل * الرواية هي مستعمرة التفاصيل. في سردك وصف يؤول بالقارئ إلى الانفعال؛ فهو يشعر بالالتذاذ أو الاختناق، بالإشراق أو التجهُّم بفضل تلك التكوينات الفنيَّة الصغيرة الضامَّة للعوالم الكبيرة في الرواية. ويكاد المكان الذي تصفه أميمة يستقبلنا ونتهيَّأ جلوسًا فيه قبل أن ينبجس منه الحدث. ويكفي في هذا المقام: سرد الرائحة الذي يضمِّخ الذوات والأمكنة في أعمالك. هل التفاصيل هي سنَّة الرواية المؤكَّدة؟
- التفاصيل مسحوق خطر سحري، هو الذي ذرته الساحرة على الضفدع لينقلب شابا وسيما، ويجب أن نتعامل معها بحذر ورفق، فهو قد يؤثث المكان ويسكب عليه تلك اللمسة الأسطورية البراقة التي تأخذ بلب القارئ، لكن في نفس الوقت الإسراف فيه قد يحوله بارودا ينسف المخيلة الخاصة ومغامرتها داخل النص، فيشيح عندها القارئ غاضبا منهكا من لجاجة التفاصيل.
- في واحدة من تغاريد وسم #فقه_الرواية حديث عن الزمن، والرواية فنُّ صناعة الزمن وتطويعه وتشكيله، والزمن مظهر لا يمكن الإمساك به، لحظة الآن سرعان ما تصبح ماضيًا، فلا يقودنا إليها إلَّا (كان).
هناك زمن السرد وزمن الحكاية وزمن الكتابة وزمن القراءة، تنويعات كثيرة على بعد غامض. نعرف السرد الذي يتتابع وتطعِّمه انتقالات تقطع هذا التتابع على وجه فنِّيٍّ.
خطة الزمن
* ولأنَّه يصعب قطعًا أن نتصوَّر الحدث دون خطَّة الزمن، فهل هي الفكرة التي يعلق بها خطُّها الزمنيُّ؟ أيصنعها الكاتب على مهل وتؤدة ويستغرقه التأمُّل في المغزى كي يقتنص هيئة الزمن البنائيَّة؟
- هذه التغريدة حول توظيف رواية (قبل أن تبرد القهوة) للروائي الياباني توشيكارو كواغوتشي والتي تدور حول مقهى، تقدم مقاعده خدمة الرجوع بالزمن في لحظة خاطفة ما بين سكب فنجان القهوة وبين برودتها، الفكرة كواجهة مذهلة، لكن مسار القصة خذل الروائي، وساقته قسرا إلى فكرة مركبة الزمن المستهلكة، والموجودة حتى في أفلام كارتون الأطفال.
الزمن في الرواية عمودها الفقري، يحمل الأحداث، التفاصيل، الحبكة، شهقات الخيبة وصيحات الفرح، إذا أعوج هذا العمود أو التوى أو اتكأ على عصي تنهض به، تهاوى المعمار البنائي ووقع.
- في موضوع الزمن نفسه دعينا أستاذة أميمة نقف عند زمن الكتابة، ولا أعني بعده التاريخي الذي يعني موقع الكاتب من التاريخ، بل الزمن المستغرق للكتابة والإنتاج. الرواية فنٌّ دقيق متطلِّب، وأظنُّ أنَّ أحد مفاتيح إجادتها هو إكرامها بالوقت؛ فالعجلة مقصلة للفنِّ، وفخٌّ مستدرِجٌ إلى الخطأ.
وأعرف أن المسرى وهي السفر الضخم الذي يقارب الست مائة صفحة قد استنفد من وقتك ما يزيد على أربع سنوات. كيف يوفِّق الروائيُّ بين ضرورة الترَّوي وشهوة الظهور والنشر؟
- المفارقة تكون عندما أخبرك عن طبيعتي السريعة المستعجلة قليلة الصبر، التقط أقرب ما يعجبني في الأسواق وأغادر، وأرضى عند المقايضة بين إنفاق المزيد من الوقت في البحث عن لون مناسب للستائر والعودة للمنزل والالتئام بكتبي وحاسوبي، فإنني أفضل الأخيرة.
قال مرة الروائي أمبرتو إيكو (أكتب روايتك كأنك ترسم لوحة خالدة على جدار كنيسة، الدقة والاهتمام الفائق بالتفاصيل) عندها تذكرت لوحة العشاء الأخير لليوناردو ديفنشي التي استغرق رسمها 4 سنوات، ولوحة مدرسة أثينا لرفائيل، الصبر والتأني والاستغراق هي مدخلك الوحيد للخلود.
وبالنسبة لرواية مسرى الغرانيق بدأت بمرحلة مفصلية وهي اقتراب البطل للقدس مخلفا وراءه، صباه في اليمامة، وعامين في بغداد، ولو تأملنا في النسيج النفسي لمزيد الحنفي لاكتشفنا أنَّهما أهم مدينتين أسهمتا في تكوين تركيبته النفسية وشخصيته، مكتبة جده، والنهر المعلوماتي الذي هز وجدانه ووعيه في بغداد ووضعه على درب مصيره، وحافة مواجهة مع العالم.
والزمن في الرواية التاريخية يمثل تحديا كبيرا لأن التحدي الأكبر أمام الروائي، هو كيف تسكب فوق النص التاريخي المحفور في الصخر ترياقا يعيد سريان ماء الحياة في عروقه.
ما وراء المرئي
* لا يغيب عالم ما وراء المرئي، والخرافي عن سرد أميمة، فهناك هالة الشخصيَّات في (الوارفة)، وهناك بنات أبي دحيم في (البحريَّات)، والإشارات والمرويَّات والتفسيرات الغيبيَّة في (مسرى الغرانيق)، تسريد تلك الوقائع لا يقف في وجه لواء التفكير الذي تشهره أميمة دون فجاجة واعظة في سردها، فما قيمة تلك الأخيلة الجمعيَّة الموروثة، وتلك المبتكرة في تحقيق السرد؟
- أليست المخيِّلة التي تتصوَّر ما وراء الصورة هي أعظم انتصارات العقل، يقول الفيلسوف هيدغر (الفن يعيد للعالم السحر الذي اختلسه منه الفن)، المخيلة دائما تشاغب الأطر التي يضعها العقل، وتحلم بآفاق أوسع وأبعد، على المستوى المحلي مدونتنا السردية وسباحيننا منسوجة بسحر الماورائيات، لأنها تحاصر غرور الإنسان وعجرفة العلم وتخبرهما كلما ظنا بأنهما أحكما السيطرة على الحقيقة، بأن القصور البشري دائم وأبدي.
سيمفونية كبرى
* تقولين أستاذة أميمة «إن الرواية هي السيمفونية الكبرى» بالنسبة إليك، وهي مرحلةٌ تالية لتجربة قصٍّ مقدَّرة في المشهد الأدبيِّ، فكيف أعادتك العزلة إلى القصِّ عبر (الغزالة). وهل لهذه المراوحة تفسير فنِّيٍّ أو ذاتيٍّ؟
- لعلها أتت لتعطيني درسا، في عدم إطلاق أحكام قطعية ونهائية، فالنصوص الجافلة المتفلتة والنافرة هي التي تختار القوالب التي تستقر بها، بعيدا عن مزاعم الكاتب ونرجسيته.
- تتيح الترجمة للأديب الابتعاد عن أرضه، إنَّها فرصة تقليب العمل وفِقهه – إن جاز التعبير – وفق أطر فكريَّة وتداول مختلف: مرجعيًّا وثقافيًّا. كيف ترى أميمة حركة الترجمة، وما نصيب سردك منها؟
- في السنوات الأخيرة نشطت حركة الترجمة بصورة واضحة على المستوى المؤسسي المحلي، ودفعت بالكثير من النصوص المحلية المترجمة إلى مدونة العالم، وهذا يحتاج بعضًا من الوقت لتصل للدوائر المثقفة والنخبوية، والتي بدورها تكتب عنها وترشحها للقراء، وإن كانت رواية (البحريات) سبق وأن ترجمت للفرنسية، ورواية (مسرى الغرانيق) بعد فوزها بجائزة نجيب محفوظ ترجمت للإنجليزية واليونانية، مع عدد من الترجمات المختلفة لمجموعاتي القصصية، وقصص الأطفال.
تتبع الوصول!
* وربما كان السؤال الأهمُّ: هل بلغك أو تقصِّيت آثارًا من هذا الوصول عند الآخر؟
لم يصلني شخصيا، ولكنني أتتبعها شخصيا على مواقع التواصل وأجد ردود فعل إيجابية وجيدة.