لا تخلو أجواء المثقفين من عداوات، وقد تكون - وهو الغالب- تافهة، وحين أتذكرُ قول المتنبي: وعداوة الشعراء بئس المنتقى! يخف تعجبي وألمي، ولكن لا بدّ من القول في ذلك، وهذا القول ينسحب على بعض المثقفين كبيرهم وصغيرهم ولا غايةَ في تعميمه أبدًا.
والحق - وهو ما يصبو إليه العقل - أنه لا عجب في وجود اختلافات في قضية أو تباين آراء في موضوع، بل هذه هي السبيل لنمو الثقافة وحراكها، وتجدد الأفكار وانتشارها، وشحذ العقول وانتباهها، وتوثب النفوس ويقظتها، ولكن العجب العجاب الذي تنبهر له النفس أنْ تنسحب العداوة على العمل الثقافي نفسه فيقصى عن الدعوة والمشاركة من يستحق ذلك لاختلافٍ في فكرة، وتبتر العلاقات الإنسانية لتباينٍ في رأي، وقد تدخل في ذلك انتماءات لا علاقة لها بالثقافة الأدب والفكر فيكون الخزي والعار وحسبي بهذا ألما! وتصبح الأفكار التي اختلف حولها سببًا لقطيعة أزليّة وجفوة دهرية، تتناقلها الأجيال وترويها الأشبال عن شيوخهم الذي شهدوا بما علموا. وفي تاريخنا العربي نماذج كثيرة امتدت ولا تخفى على مطلع كذلك الصراع بين جرير والفرزدق، وإن كانت عداوة مصنوعة، وجفوة البحتري وعلي بن الجهم، والمتنبي وخصومه، وفي العصر الحديث قرأنا عن خصومات بين كتاب كبير مثل طه حسين والعقاد ومحمود شاكر وغيرهم، ولكنها عداوات قد تصل إلى قطيعة إنسانية ولكنها تبقى الاحترام والتقدير وإعطاء كل ذي حق حقه مهما بالغ بعضهم في نقده وتعريضه وقسوته وتدقيقه.
وفي واقنعا تمتاز العداوات بشيء آخر مختلف، فالاختلاف في الآراء يفسد العلاقات كلها ويبتُّ الصلات جميعها، وقد تمتد القطيعة حتى إنهم لو التقوا صدفةً في مكانٍ عام لصد أحدهما عن الآخر ولو تجمّعوا في منتدى أو ملتقى لآثر أحدهما ألا يرى الآخر، فكيف لو كان حوارا مرئيًا أو تحقيقًا صحفيًا يجمعهما لانبرى أحدهما اعتراضا على وجود الآخر معه في ذلك، بل من الأسهل- مع مواقع التواصل الاجتماعي- أن يقوم أحدهما بحظر عدوه الثقافي، وأن يحجب عنه تغريداته وأن يحجب عنه معلوماته، وما ذاك إلا لاختلاف الرأي حول قضية أدبية أو فكرة نقدية أو وجهة نظر ثقافية، وحسبك أن ترى الأعلام ومن يشار إليهم بالبنان يتهاجرون وكأنّهم من أطفال روضة لا يعلمون أن هذا الفعل لا يليق بهم ولا يجدر بأمثالهم، هذا وهم يعدون نخبة المجتمع في مجالهم وصفوتهم في عطاءاتهم، ولا سبب بيّن لكي يهتدي إليه المتابع فيعذرهم.
ودونك من ذلك كلّه ما تراه من اشمئزاز شاعر لناقد بسبب عرضه لرأيه في قصيدة له، أو ما تراه من غلظة وجفوة لقاص أو روائي وجد في نقد ناقد ما يخالف هواه في عمله الأدبي، وتاريخنا القريب حافل بصراعات بين بعض المثقفين أوصلتهم إلى عداء لا مبرر له سوى وجهة نظر مخالفة في قضية أدبية أو رؤية ثقافية أو وجهة نظر فكرية، بل الأعجب أن يكون المتعاديان من تيار فكري واحد، ويصدران من رؤية ثقافية واحدة، وتجدهما قد تغذيا من فكر واحد وبزغ نورهما في مرحلة واحدة، وحسبك بعد ذلك لمَن لو أصاخ سمعه لكل ناقد ألا يجد مَن يجبر قلبه ويهدهد روحه إذا قال أو كتب.
إن الاختلاف بين أرباب الثقافة مادة خصبة وأرض مباركة لتأسيس جدول ثقافي جميل ينمو ويترعرع في أفياء الفكر والثقافة؛ لتتنوع مشارب الثقافة وتتعدد ظلالها وتتزايد ثمارها، وينمو الجيل إثر الجيل وقد تربى على الإنصاف في الاختلاف لا الإجحاف في الخلاف، وهو سبيل لتنمية العقول وتظاهر الحجج وتنامي الأفكار وتجدد الآراء، والاختلاف طبيعة بشرية متواترة، ولكن هل يحسن أن يكون هذا الاختلاف سببا للخلاف، ونتيجة للقطيعة وطريقا لتسفيه العقول وتحجيم القامات؟، ولا ريب أنّ ذلك وصمة لا يمكن أن تغترف لمن سلك مسلكها، وأقام أوتاده بين مرابعها، فإنما العقول تنمو بالمناقشة والحوار، وتضمر بالخلاف والقطيعة.
** **
- د. أحمد اللهيب