إن دلالاتِ فضاء النص السردي بأبعاده الجمالية تجلَّت من خلال لجوء الكاتبة الأستاذة ريم إلى مُعجم الطبيعة: الليل وما يصاحبه من عتمة، والقمر وما ينتُج عنه من ضياء، كان من الممكن للكاتبة أن تُغوي القارئ بالاسم النابع من الليل، وليكن «ليلى» أو بالاسم الظاهر في السماء وليكن «قمر»، لكن الكاتبة لم تلتفت لا إلى الليل ولا إلى القمر ولكنها أخذت القارئ إلى منعطف آخر حين خلقت من تلك الآلة الموسيقية «الناي» اسما علما للشخصية الرئيسية التي يدور حولها مِحور الرواية.
ولأن هذه الآلة الموسيقية ككل الآلات الموسيقية تتمتع بوظيفة إغرائية تأثيرية بما يصدرُ عنها من نغمات يُعبّر بها العازف عن غرضه من العزف، فان الكاتبة استطاعت أيضا أن توظف الاسم العلم «ناي» توظيفا ايحائيا ومنحته بهذه الوظيفة عمقا في الدلالة وتأثيرا في المعنى من خلال التركيب اللغوي للعنوان (ليل وناي وقمر) الذي يحمل في طياته دلالات مكثفة أحالته بشكل مباشر الى تلك المقطوعة الموسيقية التي سيعزفها البطل.
ولأن الدّخول إلى عالمِ العُنوانِ يعني دخولا إلى عالم الرواية، فستفصح لنا جمالية العُنوان عن مُتخيَّل سردي تتجلّى فيه جماليةُ الرواية، وسيكتشف القارئ رويدا رويدا أن الكاتبة انطلقت في اختيارها للعنوان من فضاء الحضور الى فضاء الانسحاب، فكانت ناي وهي الشخصية المحورية في هذه الرواية كالحاضر الغائب في حياة البطل مراد، الا أن انسحابها من حياة مراد سيخلّف وراءه نظرات دامعة منكسرة وحزن دفين يغشي قلبها وقلبه.
ولأن الكاتبة تمكنت من توضيح الرابط الذي يربط بين الآلة الموسيقية الناي من خلال السرد العميق وبين الليل من ناحية والقمر من ناحية أخرى، فان هذا العمل الأدبي يعتبر التعبير الأصدق عن صورة من صور العلاقات الإنسانية المتشابكة والمعقدة التي ستظل مستودعا لأسئلةٍ كثيرة تحتاج الى قارئ أغواهُ العنوانُ إلى فعلِ القراءة.
ان القراءةَ النقدية لرواية (ليل وناي وقمر) النصية تقودُنا الى فضاء النص السردي وتجعلُنا قادرين على استدعاء مجموعةٍ من الحقول الدلالية التي تدور في فلك الليل الذي لن يكتسب قيمته الجمالية الا مع اكتمال القمر. ولأن الليلَ الطويلَ زمنيا ومعنويا كان ولا يزال مبعث همومِ الانسانِ رجلا كان أم امرأة، فقد صوَّر امرؤ القيس تلك الهموم التي سدلت على صدره في ذلك الليل البَهيم بقوله:
ألا أيّها اللّيلُ الطّويلُ ألا انْجَلي .. بصُبْحٍ وما الإصْباحُ منك بأمثَلِ
فمـا الليل في رواية «ليل وناي وقمر» الا ثيمة زمانيــة غلّفت الحيز المكاني الذي التقت فيه البطلة بالبطل لأول مرة في روسيا. لن تختفي التيمـة الزمانيــة لليل وانما تُطل برأسها عندما تَغرَق ناي في بحر المنامات الذي يجعلُها أضيعَ من قمر الشِّتاء. ان انفعالاتِها النفسية وتجاربِها الحياتية ما هي الا اختلاجات تُعبّر عن شخصيتها، الأمر الذي أضفى على فضاء النص السردي ببنيته الزمانية نوعا من الصراع الداخلي الذي يتم ترجمته من خلال الحُلم المنامي الذي نحتته ناي بخيالها السارد.
دقة العدسة التصويرية للروائية الأستاذة ريم في التقاط ما يجول بخاطر بطل الرواية أكسب البطل في حواره مع الكون صورا حيوية نقلت النص من الركود الدلالي لكتمان المشاعر إلى تصوير متحرك لدلالات أكثر عمقا مع ما ينطوي نفس البطل من مكنونات جعلته يكتم مشاعره سنوات طوال بعد موت زوجته الأولى الى أن استطاع أن يبوح بخواطره من خلال مقطوعته الموسيقية (ليل وناي وقمر).
ختاما، نود نشير الى نقطتين:
أولا: أن فضاء النص السردي في رواية «ليل وناي وقمر» يؤكد على نجاح الكاتبة في اختيار معجم متميز أتاح للقارئ إمكانية الوصول الى مضمون العمل. من هنا نستطيع التأكيد على أن التوظيف الجمالي لهذا العُنوان بهذا الشكل المعجمي رجع الى رغبة الكاتبة في استيفاء المعنى وتعميق جمالية لغة الكلام وتقريب وظيفة العنوان التأثيرية الى ذهن القارئ.
ثانيا: استطاعت الروائية الأستاذة ريم أن توظِّف العلاقات الإنسانية المعقدة والغامضة بين الرجل والمرأة بحمولاتها الكثيرة ودلالاتها العميقة توظيفا جماليا من أجل تشكيل تحفة فنية رائعة البناء بلغة عربية فصيحة من أول صفحة في الرواية وحتى نهايتها.
ان هذه اللغة هي التي جعلت كاتب هذا المقال يتذكر كلمات عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين في المقدمة التي كتبها «لجمهورية فرحات» تأليف الأديب الدكتور يوسف إدريس، حين رفض الدكتور حسين رفضا تاما لجوء القاص للعامية، وقال: أتمنى أن أقرأ له، يعني للدكتور إدريس، كتبا تمتاز بصفاء اللغة وإشراقها وجمالها الذي لم تبلغه العامية، وما أرى أنها ستبلغه في وقت قريب أو بعيد.
**
أيمن منير - أكاديمي وكاتب مصري