«أعطني مكانًا لأقف عليه، وسأحرك العالم، هذا ما قاله أرخميدس بعدما توصل نظرياً إلى مبدأ الرافعة (Lever Principle) الذي كان يعني أنه وباستخدام نقطة ارتكاز ثابتة وقوة كافية، يمكنه تحريك ورفع أي جسم من مكانه مهما كان حجمه.
تحضر البلاغة في مقولة أرخميدس السابقة وتعد تعبيراً قوياً عن القوة الكامنة في إيجاد الأسس الصحيحة والرافعات الفعالة لتحقيق تغييرات جوهرية في المواقف، والأحداث، والظواهر وكل ما من شأنه قبول التطوير أو التغيير في الحالات الفيزيائية أو الرقمية، بمجرد البحث فيها ووجود نقطة الارتكاز والقوة الكافية للتغيير.
إنّ النمو في أي مجال يتطلب بحثاً فيه لكشف خفاياه ونقاط قوته وضعفه والفجوات ومراكز أو اسرار الابتكار المتاحة فيه. وعليه فإنّ الذكاء الاصطناعي الذي نشهد ثورته يتطلب منا لمواكبته، الكثير من البحث والتجربة للنمو والابتكار به والإبداع فيه.
ويعّد البحث العلمي أقدم عمراً ووجوداً من الذكاء الاصطناعي الوليد الحديث في عالم التكنولوجيا. إلا أنهما متكاملان في أدوارهما - إن صح القول - فالذكاء الاصطناعي بمثابة المنظار الذي يتيح للبحث العلمي رؤية التفاصيل الدقيقة التي كانت خفية عن العين المجردة، بينما البحث العلمي كاليدِ التي تمسك بالمنظار وتوجهه نحو المسائل الأكثر عمقًا وتعقيدًا. فالبحث العلمي هو من يضع الأسس النظرية والتطبيقية التي يقوم عليها كل تقدم في مجال الذكاء الاصطناعي، تماماً كنقطة الارتكاز.
تعمل أوراق البحث العلمية في مجال الذكاء الاصطناعي كالروافع التي تساعد هذه التقنية في النمو وتخطي التحديات، وتسهم في تطويرها عبر مجالات عديدة مثل: الشبكات العصبية ومعالجة اللغة الطبيعية. كما تقدم تلك الأبحاث المعتمدة على الفكر البشري وإبداعه رؤى وابتكارات بالغة الأهمية لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في العالم الواقعي الذي نعيش فيه.
إنّ الأمم العظيمة ليست تلك التي تستورد ما تأكل وما تلبس الخ؛ بل التي تبتكر وتنتج بالبحث العلمي من رحم أفكارها، وبجهود مواردها البشرية كل ما تحتاجه للتأسيس والتطوير أو للنمو والمنافسة وحجز مكان في القمة التي لم تكن ضيقة يوماً؛ أو محجوزة لأحد دون آخر.
وبالنظر إلى الصراع بين الصين وأمريكا قطبي العالم في الذكاء الاصطناعي تساءلت مجلة الإيكونيميست في العام 2019 «هل تصبح الصين قوة علمية عظمى؟» لتعود في العام 2024 هي ذاتها – أي المجلة - فتقرر أنّ: «الصين أصبحت قوة علمية عظمى». ويأتي هذا التأكيد وفي ظرف حوالي خمس سنوات فقط نتيجة لما تحققه الصين في مجال البحث العلمي الذي يدفع التكنولوجيا للنمو، بينما التكنولوجيا في المقابل تدفع البحث العلمي للتعمق والتوسع، حيث تشير الإحصائيات إلى أن مساهمة الصين في الأوراق العلمية عالية التأثير ارتفعت من أقل من (10 % في عام 2003 إلى أكثر من 30 % في عام 2022)، متجاوزة الولايات المتحدة. ووفقاً لمؤشر Nature: زادت من حوالي ( 5,000 ) مساهمة في عام( 2015 ) إلى حوالي ( 20,000 ) مساهمة في عام ( 2023)، مما جعلها تتصدر عالميًا وتضع نفسها في ريادة العالم في البحث العلمي.
إنّ التطوير التقني وبخاصة بالذكاء الاصطناعي يندفع للأمام بفعل البحث فيه والتغلب على تحدياته، وهذا فعلاً ما حدث في الصين حيث برزت ظاهرة تعرف بـ»معركة المائة نموذج». ووفقاً لصحيفة (National Business Daily) فإنّ شركات التكنولوجيا الصينية حتى نهاية أبريل من هذا العام2024م ، أطلقت (305) نماذج كبيرة في الصين في مجالات مختلفة. وفقًا لبيانات مركز الأمن والتكنولوجيا الناشئة بجامعة جورجتاون (CSET)، تركزت الأبحاث في الصين بشكل كبير على مجال رؤية الحاسوب، حيث مثلت (32 % ) من الأبحاث العالمية في الذكاء الاصطناعي ونمت بنسبة (121 % ) بين عامي ( 2017 و2022) كما شهدت معالجة اللغة الطبيعية نموًا بنسبة ( 104 %)، حيث شكلت ( 11 % ) من الأبحاث، في حين نما البحث في مجال الروبوتات بنسبة ( 54 % ) فقط، وشكل حوالي ( 15 % ) من جملة الأبحاث.
من هنا يتضح أن النهوض بالتكنولوجيا والتميز فيها إنما يأتي من الابتكار المرتبط بالبحث العلمي، وهذا ما يحدث تمامًا الآن في الذكاء الاصطناعي، حيث يشير معهد ستانفورد للذكاء الاصطناعي الى أنه بين عامي ( 2010 و2022)، تضاعف عدد الأبحاث المنشورة في الذكاء الاصطناعي ثلاث مرات تقريبًا، حيث ارتفع من حوالي ( 88,000 ) بحثًا في العام ( 2010) إلى أكثر من ( 240,000 ) بحثًا في العام ( 2022).
يمثل البحث العلمي إذن العمود الفقري للابتكار المستمر وتحسين الأداء في المجال التقني المتسارع، من خلال الإسهام في تطوير النماذج والخوارزميات، وتحسين كفاءتها، وتقليل استهلاكها للطاقة والموارد. ومن جانب آخر فإنه ينمي التعاون بين المؤسسات الأكاديمية وغيرها. حيث يؤدي إلى تطوير تطبيقات جديدة للذكاء الاصطناعي في مجالات متعددة مثل: الطب، والتعليم، والصناعة بحيث تخدم تلك التطبيقات النوعية الذكية الجميع وترفع من الكفاءة الفردية والجماعية للمؤسسات المختلفة.
عليه فإنّ دور المؤسسات الأكاديمية يجب أن يتغير ويواكب التسارع «الأسي» للذكاء الاصطناعي، وذلك لتحقيق الفوائد المؤملة للمؤسسة وللمجتمع. حيث ينبغي أن تهدف إلى نشر المعرفة المزدوجة بين البحث العلمي والذكاء الاصطناعي، وإتاحة الفرص للتعلم والتفاعل بهما مع الجمهور العام، من خلال: الدورات التعليمية المفتوحة عبر الإنترنت، والشراكات مع المؤسسات غير الأكاديمية، وغير الربحية، والإثراء بالمعرفة الأساسية والنمو بها نحو المستويات التي تساعد على إطلاق العنان للبحث العلمي في مجال الذكاء الاصطناعي لمستويات أعمق.
ختاماً، الذكاء الاصطناعي والبحث العلمي، هما ضمن مقاييس تصنيف الدول ومؤسساتها سواء من حيث الإنتاج أو الابتكار، أو الجودة. وتطوير أي منهما يترافق معه نمو للآخر بالضرورة عبر كشف تحدياته وتجويده كمخرج أو بناء. لذا فإنّ علينا السعي نحو ضبط المخرج وربطه مع الهدف، فأهدافنا ليست الاستخدام فحسب؛ وإنما الإنتاج والابتكار بشكل أساس، لذلك يجب علينا جميعاً أن نركز على التطبيق العملي والواقعي لتحقيق الأهداف، متجنبين الاقتصار على التنظير وحده.
**
سعيد محمد الكلباني - باحث في الذكاء الاصطناعي