تعدّ سيرة غازي القصيبي -رحمه الله- من أهم السير الذاتية في الأدب السعودي الحديث؛ فهي تجربة طويلة ناجحة في الوزارة والقيادة والإدارة، وعمل تلفظي إقناعي، يتوخى الإصلاح، ونقل التجارب الشخصية إلى الإداريين وبخاصة الشباب؛ لاستخلاص الدروس النافعة، والعبر المفيدة في علم الإدارة، الذي يتسم بالتغير والتحول، مع كثرة ثوابته، وتنوع أصوله وفروعه، وفي ذلك دلالة على أن «حياة في الإدارة» عمل متضمن في القول يسعى إلى بناء القيمة الإدارية الصالحة في المجتمع السعودي؛ فالذات المتلفظة في «حياة في الإدارة» تسرد سيرتها بمنطق الانتقاء والاختيار؛ رغبة في الإقناع والتأثير والحمل على الفعل والعمل، يقول غازي القصيبي: «حاولتُ ألا أضيّع وقتي ووقت القارئ في تفاصيل الأحداث التي يعرفها الجميع، وركزتُ جهدي على الجانب الخفي من الصورة: خلفية القرارات التي أصبحت أحداثاً معروفة للجميع»، فالسيرة عند القصيبي صناعةٌ للقيم الإدارية الناجحة، وإعلاء من شأن العمل النافع للمجتمع، وتثبيت بالفن والكتابة لقصة من قصص الإصلاح الإداري المكلل بالنجاح والتوفيق، وهذا كله صناعة للقيم العليا، التي تنشد الخير والتقدم للمجتمع البشري، ونقل للمعارف الإنسانية النافعة، التي تهدف إلى التهذيب، وغرس الأخلاق النبيلة في العمل القيادي والإداري.
لقد كانت سيرة غازي القصيبي الذاتية إعادة إنتاج لوجهة نظر صاحبها، وتمثيل للمنطق الداخلي للهوية السيرذاتية في علاقتها بالمتلقي، وهذا ما ظهر جلياً في قول القصيبي: «إنني مؤمن إيماناً جازماً أن القائد الإداري يخطئ خطاً فادحاً عندما يستخدم أسلوباً عنيفاً في سبيل الوصول إلى أهدافه، إذا كان بوسعه استخدام الرقة، كما أن القائد الإداري الذي يجبن عن استخدام الشدة، حين لا يكون هناك بديل، هو إنسان لا يستحق أن يوضع في موضع القيادة. شعرة معاوية الإدارية التي تُشد وتُرخى، هي التي تشكل الفرق بين المدير الضعيف، والمدير الفعال، والمدير الطاغية». إن هذه الفلسفة الإدارية جديرة بالاتباع والاقتداء، والسير على منوالها؛ فهي خلاصة تجربة القصيبي في العمل الإداري الناجح، وهي أيضاً إستراتيجية كتابية سردية تلفظية تسعى إلى إعادة إنتاج الفعل التواصلي بين الكاتب والمتلقي؛ طلباً للإقناع والتأثير والحمل على الإنجاز.
لقد كانت الجهة الاعتقادية في سيرة غازي القصيبي الإدارية إعادة تأليف للمنطق الداخلي للحياة الخاصة في بنيتها اللغوية، وإستراتيجيتها الحجاجية التداولية، وهذا ضرب من ضروب التأثير والإقناع في الخطاب السيرذاتي، يقول القصيبي في معرض حديثه عن الدوام والانضباط في العمل: «إنني أعتقد أن الذين لا يستطيعون التقيد بالمواعيد، لا يستطيعون تنظيم حياتهم على نحو يجعلهم منتجين بحدٍ عالٍ من الكفاءة. ذات يوم، كنتُ وزير الصناعة والكهرباء، رشّح لي بعض الأصدقاء رجلاً قالوا: إنه يصلح لمنصب وكيل الوزارة الذي كان شاغراً وقتها، حددتُ موعداً لمقابلته في منزلي، وجاء بعد الموعد بأكثر من ساعة، دون أن يعتذر عن التأخير. إذا كان هذا تعامله مع الوزير، فكيف سيكون مع المراجعين؟! غني عن الذكر أن المرشح لم يصبح وكيل وزارة حتى هذه اللحظة». لقد كشف هذا المقطع التلفظي من الخطاب السيرذاتي القصيبي منهج الكاتب في إعادة تأثيث الفضاء السردي؛ فالتقيد بالزمن (ذات يوم، موعدا، ساعة، اللحظة) مسلك من مسالك صناعة القيمة في العمل الإداري عند غازي القصيبي -رحمه الله- وطريقة من طرائق الإقناع والتأثير في المتلقي، وهذا ما أكده قول الكاتب: «غني عن الذكر أن المرشح لم يصبح وكيل وزارة حتى هذه اللحظة»، وهذا التعليق عمل متضمن في القول، يتخذ من المعيش اليومي جسراً لإعادة إنتاج الذاكرة الحية المرتبطة بلحظة الكتابة السيرذاتية، وتأثيرها في بناء القيم الإنسانية النافعة في العمل الإداري؛ فالتقيد بالوقت جزء أصيل في العمل الإداري الناجح.
إن إعادة إنتاج التجربة الزمنية السيرذاتية عند القصيبي مظهر من مظاهر بناء القيم النافعة للمجتمع، وسبيل من سبل تمثيل المعنى الإداري في أثناء التفاعل القولي والتواصل اللغوي؛ ومن ذلك حديث القصيبي عن (الابتزاز بالاستقالة) عندما كان مديراً للمؤسسة العامة للسكك الحديدية، يقول: «حرصتُ على أن أعطي العاملين في المؤسسة كل ما كان بوسعي أن أعطيه من حوافز ترفع الروح المعنوية؛ إلا أن الإدارة الحكيمة تتطلب الحزم بقدر ما تتطلب العطف. كان هناك مسئول قديم في المؤسسة لم أكن أسأله عن شيء إلا انفجر: أنا لا أستطيعُ أن أتحمل الضغط، كنتُ أريد الاستقالة، ولكن كل المدراء الذين سبقوك أصروا على رفضها، بقيتُ مضطراً، أرجو ألا تحملني فوق ما أحتمل. استمعتُ إلى هذه الأسطوانة بهدوء مرتين أو ثلاث مرات، عندما بدأ، مرة أخرى، يكرر الكلام نفسه، قاطعته: كم عدد الأبواب في مكتبي هذا؟ سكت، ثم قال: مذهولاً: بابان، قلتُ: ولا تنس الشباك، هناك ثلاثة مخارج، تستطيع أن تستخدمها هذه اللحظة، الاستقالة مقبولة، لم يعد صاحبنا بعدها إلى حديث الاستقالة، أو قصة الضغط. أوصي كل مدير -بشدة- ألا يخضع لابتزاز الاستقالة، عليه أن يخبر من يريد الاستقالة أن كل الأبواب مفتوحة، لا يستطيع أي إنسان أن يحيا حياة طبيعية في ظل الابتزاز مهما كان نوعه، والابتزاز في هذا المجال لا يختلف عن الابتزاز في كل مجال».
لقد حمل هذا المقطع السردي الحواري أعمالاً تلفظية استرجاعية، وإستراتيجية كتابية إصلاحية، تسعى إلى إحداث تغيير في التمثلات الذهنية الاجتماعية للعمل الإداري السعودي؛ فالإداري الناجح هو الذي لا يخضع لمسألة التهديد بالاستقالة؛ لأن مَن يقبل الابتزاز بالاستقالة مرة، سيضطر إلى قبوله في كل مرة، وهذا بلا شك يجعل القائد الإداري متردداً في اتخاذ القرارات الضرورية للمؤسسة، وفي المقطع السابق تحذير من العاقبة الوخيمة للعمل الابتزازي، بوصفه عائقاً لقيم النجاح والتقدم، وهذه الإستراتيجية الكتابية تكأة يتكئ عليها كاتب السيرة الذاتية؛ لإعادة إنتاج الهوية السردية الواقعية لحياة الكاتب الإدارية، وتمثيل للمعيش اليومي تمثيلاً لغوياً؛ رغبة في استخلاص العبر والدروس في مجال القيادة والإدارة، وبناء دستور عملي نافع.
ونلاحظ في المقطع السردي السابق الاستعانة بالمشيرات المقامية (أنا، هناك، هذا، هذه)؛ لتأثيث الفضاء السيرذاتي، وإعادة إنتاج تاريخ الحياة الإدارية للأنا المتلفظة، وتأصيل للقيم الإنسانية النافعة في المجتمع، وهذا كله ضرب من ضروب التفكير الكتابي المرتبط بوعي صاحب السيرة، وقدرته على تطويع الذاكرة للملكة السردية المنتجة للمعارف والحكم والوصايا الإدارية.
إن مقاربتنا التداولية لسيرة غازي القصيبي -رحمه الله- إعلاء للنشاط الإنساني النافع للبشرية، وتجريب للمناهج النقدية الحديثة في دراسة الخطاب السيرذاتي السعودي الحديث، واكتشاف لمفهوم (القيمة) في بناء الخطاب الأدبي؛ فاللغة في نظر التداوليين نظام من القيم الإنسانية البانية للخير والعدل والجمال والتواصل والتفاعل.
لقد جعل القصيبي – رحمه الله- من سيرته الذاتية دستوراً إدارياً حاملاً لقيم النجاح والصلاح، وهذا يؤكد السمة التواصلية للخطاب السيري، ويكشف علاقته بالواقع التاريخي، وتأثيره في المتلقي، كما يكشف -أيضاً- أهمية القيمة في العمل الأدبي؛ فإعادة كتابة تاريخ العمل الإصلاحي للذات المتلفظة مسلك من مسالك المعنى التواصلي المفضي إلى الإقناع والتأثير؛ فسيرة القصيبي سجل حافل لتاريخ العمل الإصلاحي السعودي الناجح، ومرجع ناجع في الإدارة والقيادة؛ ولهذا تتحول الشخصية في الخطاب السيرذاتي من مقام التسريد الذاتي إلى مقام التبادل القولي والتواصل اللفظي؛ لترسيخ القيم النافعة في العمل القيادي، ومن ذلك قول القصيبي: «هناك ثلاث صفات لا بد من توفرها في القائد الإداري الناجح، الأولى صفة عقلية خالصة، والثانية صفة نفسية خالصة، والثالثة مزيج من العقل والنفس، ولعل القارئ عندما ينتهي من قراءة هذا الجزء، سيدرك أن كثيراً من النقاش الذي يدور حول الإدارة، هو نقاش لفظي عقيم...الصفة الأولى العقلية، هي القدرة على معرفة القرار الصحيح...والصفة الثانية المطلوبة النفسية، هي القدرة على اتخاذ القرار الصحيح...والصفة الثالثة المطلوبة، وهي مزيج من الصفة العقلية والنفسية، هي القدرة على تنفيذ القرار الصحيح»، إن هذا الدستور القيادي، هو إعادة إنتاج للفعل التواصلي المشترك بين الكاتب والمتلقي، وإنشاء لمقام تلفظي أخلاقي قيمي، وتجديد لوعي الذات المتلفظة بالعالم المسرود، وإخضاع السيرة الذاتية للمعيش اليومي، والتفكير الاستدلالي المرتبط بشؤون الإدارة والقيادة في أثناء التواصل القولي، وهذا كله راجع إلى إستراتيجية كاتب السيرة في الإقناع والتأثير، وطريقته في بناء العوالم السردية المحيلة إلى جهة اعتقاده، وموقفه من الفن والحياة، ووجهة نظره في الإدارة والقيادة.
لقد اعتمد القصيبي – رحمه الله- في المقطع السيرذاتي المار ذكره على المسلك القيمي (سيدرك أن كثيراً من النقاش حول الإدارة، هو نقاش لفظي عقيم)، وهو مسلك من مسالك الإقناع والتأثير في الخطاب الأدبي؛ فإصدار القيم عملٌ قولي تلفظي استدلالي؛ ولذلك لجأ الكاتب إلى التعليل التداولي الحجاجي، رغبة في تأكيد حجته، يقول: «لعلنا نستطيع الآن، أن نتبين أسباب الفشل الإداري؛ الإداري الغبي لا يستطيع معرفة القرار الصحيح، والإداري الجبان لا يستطيع اتخاذ القرار الصحيح، والإداري غير الماهر لا يستطيع تنفيذ القرار الصحيح. ما يبدو لغزاً أو شبيهاً باللغز، يصبح عند تحليله في ضوء هذا المنظور، أمراً بالغ البساطة. لماذا فشل الأستاذ الجامعي اللامع النابه في الوزارة؟! لأنه افتقر إلى الشجاعة، لماذا فشل الإداري الشجاع المقدام في الوزارة؟! لأنه افتقر إلى الحكمة، ولم اذا فشل الرجل الفلتة الذي جمع بين الشجاعة والحكمة؟! لأنه لم يدرك أن القرارات لا تنفذ نفسها بنفسها». إن هذا المقطع التلفظي دليل على أن الخطاب السيري خطاب تداولي بامتياز؛ فاستعمال التعليل الحجاجي، هو عمل متضمن في القول يعيد إنتاج المعنى التواصلي الأدبي، ويكشف طرائق الكاتب في بناء الذاكرة السردية للشخصية المتلفظة، ويحيل إلى العمل الإشهادي للذات المتكلمة في المجال الإداري والقيادي.
إن صناعة القيمة في الخطاب السيرذاتي إستراتيجية إقناعية يراد بها كسب مودة القارئ، وتعاطفه مع الشخصية الساردة، ومن ذلك حديث القصيبي -رحمه الله- عن علاقة الود التي كانت تجمع بين وزارة الصحة والمواطن السعودي، يقول: «كان للمسات الشخصية في التعامل مع المواطنين مفعول البلسم، المواطن الذي يرى وزير الصحة بنفسه، يعوده ويطمئن عليه، وهو نائم في المستشفى؛ سيحتفظ بهذه الذكرى بقية حياته...أهلُ كل طفل يولد في مستشفيات وزارة الصحة، كان يتلقون بطاقة مني معها صورة الطفل، و»دليل الأسماء العربية» الذي أعدته الوزارة بالتعاون مع عدد من الجامعات السعودية...كنتُ أريد -عبر هذا السبيل- أن يبدأ الطفل حياته بعلاقة ودية حميمة مع الوزارة»، ففي هذا المقطع السيرذاتي تتجلى القيمة النبيلة في أبهى صورها؛ فالوزير يتابع بنفسه أحوال المرضى، ويطمئن على صحتهم، وهذا إعلاء من شأن العلاقات الإنسانية في العمل القيادي، وضرب من ضروب تأصيل القيم الإنسانية النافعة في المجتمع، ومسلك من مسالك بناء التاريخ الخاص للذات المتلفظة في التخاطب السيرذاتي، وتمثيل للوقائع المروية باللغة والفن، واستعادة للمشاعر الثاوية في الذاكرة بفعل الكتابة والسرد.
رحم الله غازي القصيبي، وأسكنه فسيح جناته، فقد كان مضرب المثل في بناء القيم النافعة في الوزارة والقيادة والإدارة، وهذا ما عبّر عنه في خاتمة سيرته الذاتية إذ قال: «لقد حاولتُ في كل موقع شغلته أن أخدم مواطنيّ بكل طاقتي، خدمتُ أبناء هذا الجيل، أما أبناء الأجيال القادمة، الذين لن يتاح لي شرف رؤيتهم أو خدمتهم، فلا أستطيع أن أقدم لهم شيئاً سوى قصة هذه الخدمة، مصحوبة بكثير من المحبة، وكثير كثير من الدعاء»، وفي هذه الخاتمة تتجلى صناعة القيم الإنسانية النافعة، وتتكشف مظاهر العلاقات الإنسانية النبيلة؛ فالاختتام بالدعاء عمل قولي تلفظي، يسعى إلى استمالة المخَاطب، وحمله على إنجاز القيم النافعة للفرد والمجتمع.
** **
د.قالط بن حجي العنزي - باحث في السرديات التداولية
qalit2010@