تنبيه
الأحداث المروية هنا متخيلة ولا علاقة لها بالواقع، وأي تشابه بينهما هو محض صدفة
حتى الأيام المختلفة تبدأ مسطحة. في الليلة السابقة مسانا الغبار بالخير حتى هجعنا، وحين رفعت جفن الصباح كانت الذرات المسحونة لا تزال تلطم النوافذ بعنف.
بقيت على جنبي الأيسر أعيد ترتيب يومي، ثم استدرت للجهة الأخرى لأوقظ جوالي. اشتغل فأمطرتني التنبيهات: رسائل واتس، أنستغرام، تويتر، حتى الفيس بوك خلع رزانته المدعاة. الرسائل النصية أيضًا انبعثت من مواتها الطويل. أغراب يباركون فوز بكرتي النجيبة في سباق هجن!
لم أبتهج بالفوز، لماذا؟ لأني لم أفز.
لا أتهم لجنة التحكيم الموقرة بمداهنة ملاك الإبل الآخرين، ولا عيب في البكرة. الأمر أني أنا وبكرتي لم نشارك في السباق، أقصد أني أنا والبكرة المسماة «النايفة» لم نتقابل أبدًا.. أعني ليس لدي بكرة.. أظنكم فهمتم.
قضيت ساعة أصد المهنئين: حاولت مع أولهم بلطف، أخبرت بعضهم أن تبريكاتهم تصب في المجرى الخطأ، قلت للبعض إن عليهم البحث عن قرينتي التي يتطابق اسمانا تطابقًا ثلاثيًا!
مللت فتركت باقيهم معلّقا ينتظر ردي، ومع أن الخلط بيننا ليس ذنبي سأتشاطر مع الأخرى تهمة الوقاحة والتغطرس.
كبعير أجرب، تمرغ دماغي في هواجسه: لماذا كان وصول المشغولين بالإبل لي أسهل من الوصول للفائزة؟
قوقل لا يعرف شيئًا عنها: لا سنة تخرجها من جامعة أو ثانوية، لا خبر تعيينها موظفة حكومية في قطاع ما، ومع ذاك احتفل بفوز ناقتها بالعربية والإنجليزية والأردو!
كل ما أعطانيه البحث هو صورة النايفة، ناقة حمراء مثل آلاف النياق (لا تنفث النار من منخريها وليست في ضخامة ناقة صالح) وللإنصاف سأقول إنها تبدو أمونا كألواح الإران.
بعد فطور وأنا واقفة، وضعت الثروة المتحصلة من فوز النايفة في الميزان، ما كسبته ناقتنا جدير بأن يوصد أبوابًا حامية. المزعج أني كلما أوصدت بابًا تبرعمت وراءه ثلاث شهوات.
وقفت وقفة احترام لقرينتي التي لم تنهك دماغها ست عشرة سنة في التعليم، لم تسع لتقييد نفسها بوظيفة، لم تضع اسمها على خريطة بيانات النت المفضوحة إلا بخبر تضج به ثلاث لغات حية.
حين يرن المليون ريال في حسابها لن تستخفها الفرحة، ثم تطحنها رحى حسابات الواجب والترف. صاحبة النايفة الحقيقية لن تشقيها الموازنة بين الخيارات وهي قلقة من هواجس التضخم وكوارث سوق الأسهم وجنون سياسات الاقتصاد الجديد. ببساطة، قرينتي ستشتري ناقة أسرع من النايفة وتدخل بها منافسة جديدة.. وتفوز.
لماذا لم أفز أنا؟ أنا ابنة بدو، وبيتي مغروس في الرمل، لو مددت يدي من النافذة فحطت على سنام ناقة باركة لن تكون هذه واقعية سحرية.
للحق هذه ليست غلطتي. أبي يتحمل الغلطة، فلا أذكر له أي علاقة بأي بهيمة ناهيك عن الإبل. جدي - قبله- بدوي بالاسم، مع أنه قادم من شجرة نسب جذورها على الركائب. جدي من جهة أمي كان غواص لؤلؤ، وفي الأيام السود بنى دكانًا باع فيها القهوة والهيل. جدتي - وياللعار - عشقت البقر، حتى أنها حين سمعت عن أبقار الجرسية باعت مشبكًا ذهبيًا لتحصل على بقرة مرقطة!
الناقة الوحيدة الباركة في مرابع طفولتي امتلكها عمي لفترة وجيزة، لم يعطها اسمًا حتى.. كنا نسميها الناقة. جاءت الناقة ثم اختفت الناقة، ولم يقل أحد كلمة. كانت في شبك خلف بيت عمي وسط غابة من أشجار العِشر. كل ليلة يتربع حولها الجن يحدثونها عن مغامرات أخواتها في قلب الرمل. لا بد أنها فرت.
في الليل، راح الغبار يحْلِق رؤوس الكثبان خلف ديرتنا، وجاءتني النايفة. باركت لها الفوز ولم أتطرق للجائزة. كان حديثًا طويلاً مسترسلاً كما بين صديقين قديمين. أخبرتني عن جَدّة لها خرجت قبل ثلاثين سنة من بلدة صغيرة لا تتذكر اسمها، لم تشرح ظروف خروج قد تؤاخذ بها الجدة، قالت النايفة إن جدتها سرت ست ليال حتى رأت جماعة في بطن وادٍ. راقبتهم لتتأكد أنهم بدو أقحاح قبل أن تسلمهم قيادها.
في رواية الحفيدة، رافقت الناقة الجدة البدو، تقطع المفازات حتى يرتخي سنامها، وكلما أربعوا تخيروا لها فحلاً يضربها فأنتجت سبع مرات أوسطها أمها. النايفة حفيدة ناقة عمي لا ريب. سأحتفظ بهذا اليقين لنفسي. أين وضعت ورقة حسابات الجائزة؟
وهي على وشك أن تغادر ومن باب اللباقة عرضت علي النايفة ركوبها، قالت: جرّبي!
أمسكت زمامها لأنيخها فانخفضت بسرعة، ارتفاعها وهي باركة يصل لخصري. رفعت ساقا وفردته على جنبها وأنا متشبثة بوبرها. حين استويت، انحنت للأمام حتى صار وجهي بين ركبتيّ ثم رفعتني. لم تبطن نية إسقاطي، لكن تطويحها ورغاءها أرعباني.
فوق النايفة، غدا رأسي أرفع بأربعة أذرع. كل شيء تحتي أصغر. من هذا العلو رأيت قرينتي الفائزة، كان يجب ألا أطرح أي سؤال عنها، حاولت حتى لم أعد أقدر. الناقة تخطت استفهامي وعادت تحدثني عن جدتها والبدو: لم يخب ظنها فهم بدو.. بدو أقحاح.
تستطرد - والفخر ينفخ مهدلها - عشيرة رجالها لا تنحني أنوفهم إلا لغيم رغو الحليب.
ضجّ صبري فقاطعتها: ونساؤهم؟
التفتت لي مستغربة سؤالي. كان هذا ما أنتظره.. هذه اللفتة كل ما أحتاجه. عليّ الآن أن ألوي عنقها بسرعة وأطعنها في الموضع الذي أوصت به كل فيديوهات ذبح الإبل في يوتيوب. سأفعل وأفوز، ولن يؤاخذني أحد لنحر ناقتي.
شعرت بخدر كثيف في يدي، انسكب آخره في ضلوعي. أنختها وهربت مهزومة.. مهزومة مرة أخرى.
** **
- أمل الفاران