في كتابه «قِصَّة الأندلس ـ مختصر نفح الطِّيب من غصن الأندلس الرَّطيب» للمقري التلمساني، اختار الروائي المصري، أشرف الخمايسي، الانتصار للتشويق، وأن تكون روايته لتاريخ الأندلس بأسلوب «شَيِّق وسهل ورشيق»، بحسب قوله، مفضلاً أن يُقدّم كتاباً خفيفاً ولطيفاً، وأيسر حَملًا وأمتع قراءة، بدل أن يكون كتابه مرجعاً تاريخياً.
وفي مقدمة كتابه الصادر حديثاً عن دار المحرر للنشر والتوزيع بالقاهرة، يقول «الخمايسي»: مائة وثمانية وثلاثون سنة على وجه التَّحديد، هو الزَّمن الفاصل بين غروب الأندلس من على وجه الخريطة العالميَّة وشروقها في صفحات كتاب «نفح الطِّيب من غصن الأندلس الرَّطيب». حيث زالت الأندلس في 1492 ميلاديَّة، فيما خرج الكتاب إلى الوجود بين عامي 1629 و1630 الميلاديَّين، فوُصِف بأنَّه «أقدم كتاب أندلسيٍّ ظهر للنُّور وعرفته المطبعة العربيَّة، وكان مصدرًا لأكثر ما عرفه المشارقة عن الأندلس على مدار مائة عام أو أكثر».
الوزير لسان الدِّين الخطيب
ويشير الروائي المصري أشرف الخمايسي، في مقدمة كتابه « قِصَّة الأندلس»، إلى أن الشَّيخ أحمد بن مُحمَّد المَقَّري التِّلمساني، صاحب كتاب «نفح الطِّيب من غصن الأندلس الرَّطيب»، لم يكن في نيته كتابة تاريخ الأندلس حين شرع في وضع هذا الكتاب، بل نوى وضع مُؤلَّف كبير عن الوزير لسان الدِّين الخطيب، وهو واحد من أهَمِّ وأشهر الشَّخصيَّات الأندلسيَّة، فاختار لكتابه عنوان «عرف الطِّيب في التَّعريف بالوزير ابن الخطيب»، بيد أنَّ أحد أصدقائه الدِّمشقيِّين، في أثناء إقامة المَقَّري بدمشق، اقترح عليه جمع تاريخ الأندلس في كتاب، وعندما فعل وجد التَّاريخَ طال واستطال بما لا يصِحّ معه قصر العنوان على ابن الخطيب، فغَيَّر العنوان إلى «نفح الطِّيب من غصن الأندلس الرَّطيب وذِكر وزيرها لسان الدِّين بن الخطيب».
ولا يفوت «الخمايسي» أن يحدثنا باستفاضة عن «المَقَّري» ومولده سنة 986هـ في قرية مقَّرة التَّابعة لتلمسان إحدى مدن الجزائر، التي نشأ وقرأ بها إلى أن رحل عنها في زمن الشَّبيبة إلى مدينة فاس سنة 1009 هـ، ثُمَّ عاود الرُّجوع إليها، إلى أن ارتحل عنها للمشرق أواخر رمضان سنة 1027هـ»، فيما وضع كتابه الأندلسيّ البديع «نفح الطِّيب من غصن الأندلس الرَّطيب»، خلال إقامته بالقاهرة.
بين القاهرة ومكة والمدينة ودمشق
وبحسب الكتاب، فقد كان عُمر «المقَّري» حين غادر إلى فاس أربعة وعشرين عامًا، وعند وصوله إلى مصر ـ قادمًا من فاس ـ اثنين وأربعين عامًا. وأخذ يَتنقَّل من القاهرة إلى مَكَّة والمدينة ودمشق، وقد حَجَّ بيت الله الحرام سبع مَرَّات، وحَدَّث في مسجد الرَّسول صلَّى الله عليه وسلَّم. وأعجبته دمشق كثيرًا، غير أنَّه عاد إلى مصر رغم إعجابه بدمشق وأهلها، وكان أثناء إقامته الطَّويلة بمصر قد تزَوَّج امرأة من عائلة السَّادة الوَفائيَّة، رزق منها بنتًا، تُوفِّيت عام 1038 هـ، ويبدو أنَّ العلاقة بينه وبين زوجته لم تكن مُوشَّحة بالوفاق، مِمَّا اضطرَّه إلى تطليقها؛ وقد زادت هذه الحادثة من تنغيص حياته بمصر.
«الخمايسي» قال بان خطته في تبسيطه وتلخيصه لكتاب «المقَّري»، تضمنت اختيار عنوان جديد هو «قِصَّة الأندلس ـ مختصر نفح الطِّيب من غصن الأندلس الرَّطيب» دون إشارة إلى الوزير لسان الدِّين الخطيب من قريب أو بعيد، ولفت إلى أنه لم يستهدف بمختصره ما استهدفه المقَّري التِّلمساني بكتابه، وأن هدفه منذ البداية هو تاريخ الأندلس وقِصَّة هذا القطر الإسلامي المفقود، وليس تاريخ الوزير الخطيب أو قِصَّته.
وأكد على أنه لم يُعنَ في مختصره تدوين معلومات تَخصُّ شَخصيَّة أندلسيَّة وحيدة، فاستبعد الأجزاء الخاصَّة بالوزير الخطيب، وهي طويلة غزيرة – بحسب قوله - وهي بمجملها تُمثِّل ثلث أصل الكتاب على الأقل، ما كان نتيجته الطَّبيعيَّة أن خَفَّ الكتاب ولطف، فصار أيسر حَملًا وأمتع قراءة.
ونوّه «الخمايسي» إلى أنه لم يقف عند حَدِّ استبعاد الأجزاء المُختصَّة بلسان الدِّين الخطيب، بل حذف أيضاً ما لم ينتبه المقَّري التِّلمساني إلى تكرار نقله من الكتب التي أخذ عنها، وحذف ما رآه يُخلُّ بوحدة موضوع الكتاب، وهو تاريخ الأندلس، مثل المسائل اللُّغويَّة، منها على سبيل المثال الفرق بين المُسهِب والمُسهَب، وكذلك المناظرة الشَّهيرة بين سيبويه والكسائي.
وذهب إلى القول بأن المقَّري التِّلمساني، كان كعادة الرُّواة والإخباريِّين من العرب القدماء، يترك موضوع الكتاب ويذهب بعيدًا إلى مواضيع أخرى – وذلك وفقاً لقوله - فإذا عاد كتب: «وقد آن وقت الرَّجعة إلى كلام الأندلسيِّين الذي حلا، وأبعدنا عنه، بما مَرَّ، النُّجعة..»، وأنه حذف نجعات الشَّيخ من أخبار ووقائع منسوبة لشعراء وأدباء ليس ميدانها تاريخ الأندلس، حتَّى أنه استبعد ذكر كُلِّ أديب وشاعر أندلسيٍّ تفتقد ترجمته إلى قِصَّة شائقة، أو لفتة باسقة، أو حكمة رائقة، بل وحذف كثيرًا جِدًّا من أشعارهم المنظومة وسَرديَّاتهم المنغومة، لا لأنَّها سَيِّئة أو غير مفهومة، ولكن فكرة الاختصار تقتضي حذف المُتشابِه، وفي أشعار الأندلسيِّين تشابه كثير، وذلك بحسب قول «الخمايسي».
ولأنَّ غاية الروائي أشرف الخمايسي «الخروج بكتاب شَيِّق سهل رشيق» - بحسب قوله - فقد حذف أيضًا، الفقرات المُطوَّلة في وصف الوزراء والقضاة، وغيرهم من أرباب الدَّولة، واحتفى بالخبر وتخلّى عن المُخبِر، فحذف أسماء الرُّواة واختار أن ينتصر للتَّشويق، لافتاً نظر القراء إلى أن من يرغب في دِقَّة المعلومات الرُّجوع إلى الأصل، وهو موجود متوافر، قام على خدمته بالتَّمحيص والتَّحقيق علماء أجلَّاء.
وبيّن «الخمايسي» أنه لم يَتوقَّف العمل في مختصر «نفح الطِّيب من غصن الأندلس الرَّطيب» عند الحذف، بل انه قام بإعادة ترتيب الأبواب، ووضع عناوين جديدة لها بعد أن رأى أنَّها أكثر معاصرة وجِدَّة، وأليق بقُرَّاء عصرنا، مع الثَّبات التَّام على مَنهجيَّته بخصوص لغة الكتاب وأسلوبه، فلا تغيير فيهما البَتَّة، لأنِّي أحبُّ لقارئ مختصره الخروج شبعانًا بلغة القوم وأساليبهم، ليشعر أنَّه لم يقرأ مُختصرًا معاصرًا، بل قرأ أصل الكتاب، وعرف الكاتب الأصل.
صفحات كتاب «قِصَّة الأندلس ـ مختصر نفح الطِّيب من غصن الأندلس الرَّطيب» للروائي المصري أشرف الخمايسي، تؤكد لنا أنه لا جدال في أنَّ «فوح الطِّيب» يصف حضارة إسلاميَّة عظيمة قامت في الأندلس، كان لها تأثيرها القَويُّ في تطوير الأقطار الإسلاميَّة في المغرب الأفريقي كُلِّه، فلطالما قامت تلك الأقطار بدور القاعدة العَسكريَّة، تنطلق منها الجيوش الإسلاميَّة لنصرة ومؤازرة ممالك الإسلام في الأندلس حين الخطوب والهزائم والانكسارات. وأنه لكثرة الكلام عن عظمة حضارة الإسلام في الأندلس انطبعت في أذهان المسلمين المعاصرين صورة ذِهنيَّة لحضارة أندلسيَّة أعظم بكثير من حضارات الإسلام المَشرقيَّة في العراق وسوريَّة ومصر.
وأنه بإشارة بسيطة، خاطفة، لفت المقَّري التِّلمساني انتباهنا إلى أنَّ هذه الصُّورة الذِّهنيَّة مغشوشة، مُشوَّشة، عندما قارن في أحد أجزاء كتابه بين النُّدماء في «الأغاني» وكانوا مشارقة، وبينهم في «نفح الطِّيب» المغاربة، فأكَّد تَفوُّق المشارقة على المغاربة، هذا عن الأدب مَنظومًا ومَسرودًا، أمَّا عن رؤيته في بيوت الأدب فقد انبهر المقَّري بالحمَّامات والصَّنابير في بغداد، ما يعني أنَّها تفوَّقت على حمَّامات الأندلس!
أمَّا أهمُّ ما مَثَّله لي هذا الكتاب بشكل شَخصيٍّ فهو الأمل، رغم أنَّه كتاب يُدوِّن تاريخ حضارة إسلاميَّة بائدة! فذلك التَّاريخ البائد صالح تمامًا لأن يكون مرآة ذات درجة وضوح عالية نرى من خلالها حاضرنا فنفهمه، ثُمَّ من بعد الفهم يمكننا تَوقُّع مستقبلنا.
ونطالع من خلال صفحات كتاب «قِصَّة الأندلس ـ مختصر نفح الطِّيب من غصن الأندلس الرَّطيب» للمقري التلمساني، كيف كانت الأندلس قَويَّة وقت أن كانت مملكة واحدة، جيشها واحد، هَمُّه حماية الحدود من الضُّمور، بل والعمل على تمديدها وتوسيعها كلَّما أمكن.
وأنه ما أن بدأت صراعات الطُّموحات الشَّخصيَّة، حتى تَفتَّتت الدَّولة إلى دويلات، فكان على رأس كُلِّ دويلة ملك لا هَمّ له إلَّا حماية عرشه، وغاية أمله اقتناص مملكة غيره، ولو اقتضى الأمر خيانة الإسلام بالتَّحالف مع أعدائه ضِدّ مَن هم مِن بني جلدته وعقيدته، والتَّصاغر والذلَّة درجة دفع الجزية لهم ليتولُّوا حمايته وترسيخ ملكه، وقد صارت جيوش المسلمين مهمومة بمحاربة بعضها بعضا، وكأنَّ قادتها وجنودها آلات عمياء لا تُفرِّق بين العدوِّ وبين بني الجلدة الواحدة، فقط تُؤمَر بالخيانة، فتُنفِّذ على وجه السُّرعة، وهنالك ضاعت الأندلس، ولا سبيل إلى رجعتها.
ونختتم إطلالتنا هذه على كتاب «قِصَّة الأندلس ـ مختصر نفح الطِّيب من غصن الأندلس الرَّطيب» للمقري التلمساني، بما اختتم به كاتبه أشرف الخمايسي كلمته التي كتبها في مقدمة الكتاب، حيث عبّر عن أمله في أن يكون مختصره هذا «قِصَّة الأندلس»، قد صقل صدأ الأصل، وأبرز في أجمل هيئة، وأن يكون أتى بالبحر كاملًا في حجم بحيرة، وهو أمر أراه قد تحقق بالفعل.
** **
- حجاج سلامة