أجلس بمحاذاة النافذة، القطار يسير بسرعته المعتادة، استمتع بمنظر الأشياء العائدة للخلف، الشمس، حبات الرمل، وقمم جبال بعيدة، صخور متناثرة هنا وهناك، تآكلت أطرافها من شدة الريح وقسوة المطر.، وأشجار متفرقة وهنت وهي تبحث عن الماء.
أتناول كوب عصير الليمون بالنعناع الذي اخترته، أرفعه إلى فمي أتلذذ بطعمه وهو يتسرب إلى جوفي عبر هذا الأنبوب الشفاف، أعيد الكرة تلو الأخرى باستمتاع حتى أصبح فارغا.
تأخذني غفوة ذكريات «بالأمس كنت أحلق طيارا، أمخر عباب الفضاء واليوم راكب عادي يتهادى بي قطار مقيد إلى قضبان حديدية لا يستطيع التمرد عليها».
يقطع الرجل الغريب الذي يجلس على يميني استرسالي وهو يرفع طرف غترته إلى الأعلى ويمعن النظر عبر النافذة، حتى إن رأسه كاد يستند على صدري وهو يسأل:
- هل تعد الأشجار؟
لفتني جمال عينيه، ورغم صغر أنفه وفمه، لاحظت ذقنه المعكوف قليلا إلى الأمام. تحتل عينيه نصف مساحة وجهه، بينما الأعضاء الأخرى جميعها النصف الثاني.
لكن لم يكن هناك أشجار أصلا..
نظرتُ نحوه ببلاهة وصمت.
عدت لرحلة تأملي من جديد....
بينما استمر بكل حماس يصف لي كل ما يراه من اخضرار الأشجار البرية، الخيام وسط الصحراء ورعاة الإبل، كان يلوح بيديه في رحلة شرح مضنية، كاد أن يصيبني في وجهي مرتين، وهو مندمج في الوصف. يهتز داخل كرسيه بحركة نصف دائرية، يبدو أنه لم ينتبه لتلك الطفلة التي علقت نظراتها عليه رغم نهر المرأة بجوارها لها. شعرت بصداع عنيف.
رغم شكله الوسيم وهندامه الأنيق إلا أن ثرثرته لا تطاق. ورذاذ لعابه المتطاير مقرف.
من ينظر نحونا، يقرأ على وجهينا نفس الدهشة من عدم فهم أحدنا للآخر. نبدو كلوح فلين بوجه واحد.
وضعت سماعة هاتفي في أذني وسرحت عبر مساحة الصحراء وحرارة الشمس الحارقة وضوئها المنسكب على كل الأشياء حتى إن فيضة تسلل عبر النافذة الينا، تمنيت أن هذا الوادي امتلأ عن بكرة أبيه بقطيع إبل يخوض في هذه الأمواج المعلقة بين السماء والأرض، أمواج وهمية هادرة في جوف الصحراء البعيدة المدى.
تجرني تلك الأغنية العتيقة إلى مرابعها أردد مع مطربها بانسجام وتماهي «يا لله أنا طالبك حمرًا هوى بالي..
استمر جاري في المقعد بالحديث مما لفت الآخرين خاصة في المقاعد المجاورة عندما يناوشهم رذاذ لعابه المتطاير.. يعتذر للمتأففين، يهدأ قليلا ثم يعاود الكرة.
في كل مرة يسألني كنت أهز له رأسي بصمت برجاء أن يتوقف
تمر الأوقات مملة برفقة من لا يفهمون إيماءاتك
استفزني بتكرار السؤال:
- دعني اشرح لك.
في هذه المرة رددت عليه بصوت عال
بعد تفكير عميق
لا أريد أن أعرف -
هز رأسه باستغراب واعتدل في جلسته
وابتسامته الساخرة لا تفارق ثغره، خلته يضحك عليَّ، أو أن نظري أصابه خلل، استغربت أن تحمل بعض الملامح اللطيفة شيء من الخبث، كل شيء جائز في هذا الزمن.
للحظة أطفئت أنوار القطار الداخلية
علت الهمهمات من الرجال والنساء وصراخ الأطفال
- سألني ما لذي حدث؟
جاوبته بالصمت، واستغربت! عاد كل شيء كما كان
التقطت أنفاسي
بينما واصل حديثه، كنت أنظر في ساعة هاتفي وأردد هانت، كاد يسحق ذاكرتي ويفقدني ثقتي في نظري.
توقف القطار، توقف عن الحديث ونهض استعدادا للنزول، ونهضت ناولته عصاه التي تزحلقت تحت قدمي
أخذها وهو يمسح العرق عن وجهه ويتلمس طريق الخروج بها.
** **
- فاطمة عبدالله الدوسري