إذا لم يكرِّر التاريخ نفسه، فإنه حتما سينتقم وسيجعل مفترسي الأمس فرائِس اليوم.
مؤلف كتاب «زمن المفترسين» فرانسوا هيسبور، كبير مستشاري المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في أوروبا ( IISS) ومستشار مؤسسة البحث الاستراتيجي (FRS) ، يسلّط الضوء على منطق كل من الصين والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الذي يتحينون الوقت المناسب لافتراس أوروبا.
يهدف كتاب «زمن المفترسين» (صدر عن دار نشر أوديل جاكوب الفرنسية عام 2020 في حوالي 240 صفحة) إلى حث أوروبا وفرنسا، المهددتان بالانحدار الاقتصادي والديموجرافي نتيجة لأزمات سياسية وأخلاقية، على الوقوف في مواجهة ثلاثة مفترسين جدد: تأتي في المقدمة الصين التي أصبحت قوة عظمى، تليها الولايات المتحدة الأمريكية التي تتزَّعم العالم، وأخيرا روسيا غير الراضية عن مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي.
يشير مؤلف كتاب «زمن المفترسين» الى أن الأوروبيين اليوم، الذين يعيشون على نفس الوهم الذي عاشه البريطانيون في بداية القرن العشرين، لا يتصورون أن الخطر أصبح قاب قويسن أو أدنى منهم. يشكِّل هذا الطرح رؤية المؤلف الاستباقية للحالة الأوروبية التي أصبحت هدفا سهلا للشركات المفترسة في الصين والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا. ولأن لكل مفترس أهدافه وأساليبه المالية والقانونية والتكنولوجية والصناعية والاقتصادية، ولأنه من الضروري في الوقت الحالي والمستقبلي أن يحمي الأوروبيون مناطق نفوذهم من هجمات المفترسين الجدد، فان على أوروبا أن تكون قادرة على تقييم سلوك هؤلاء المفترسين وتحليل الخيارات الاستراتيجية المتاحة لهم. ولأن أوروبا تشبه الآلة الثقيلة ذات ردود الأفعال البطيئة والأصوات المتنافرة ولأنها قدمت للمفترسين الفرص تلو الفرص لتنفيذ عملياتهم الخاطفة، فان المؤلف يدعو إلى توحيد الجهود لمقاومة عملية الافتراس التي ستتعرض أوروبا لها لا محالة.
يشير مؤلف كتاب «زمن المفترسين» الى أن التهديد الرئيسي لفرنسا وأوروبا يأتي من الصين التي تَعتبر فرنسا وأوروبا الحلقة الضعيفة في العالم الغربي ولهذا فان الصين ستجعل من العام 2049 عام الاحتفال بالذكرى المئوية لإعلان جمهورية الصين الشعبية وهو التاريخ الذي تراه الصين كأنه الأفق الأقرب لاستعادة قوتها السابقة. يشير المؤلف أيضا الى أن إعادة بناء الصين لا تزال في بدايتها لكن طموحاتها الآن تتجاوز محيطها الجغرافي حيث تجلى ذلك في سياستها المتمثلة في انشاء طرق الحرير الجديد وأيضا التطور التكنولوجي الفائق خاصة ما يتعلق بشبكة الجيل الخامس.
أما عن الولايات المتحدة الأمريكية، الشريك السابق الذي كان الأوروبيون يعتمدون عليه طوال القرن العشرين، فتبدو الآن وكأنها تحلِّق بمفردها في هذا العالم المتوحش حيث وصل هذا المنطق إلى ذروته في عهد دونالد ترامب الذي جعل من المواقف الأمريكية أحادية الجانب بوصلة للعلاقات الدولية. ولهذا يشير مؤلف كتاب «زمن المفترسين» السيد فرانسوا هيسبور الى أن انعدام قدرة الولايات المتحدة الأمريكية على الثقة في شركائها السابقين يعود إلى أوائل العقد الأول من الألفية الثالثة حيث تزامن ذلك مع شرارة الحرب التي أطلقها جورج دبليو بوش على العراق وأيضا مع انتهاء ولاية باراك أوباما التي مهدت للتدخل المحتمل في سوريا في عام 2013.
يؤكد مؤلف كتاب «زمن المفترسون» على أنه لا ينبغي لأحد أن يمنعنا من فتح باب التفكير الاستراتيجي حول العلاقات المستقبلية بين كل من أوروبا وفرنسا من ناحية والمفترسين الكبار في القرن الحادي والعشرين من ناحية أخرى: الولايات المتحدة الأمريكية، القوة العظمى السابقة، والصين القوة العظمى الناشئة التي كانت حتى وقت قريب فريسة لشهوات الإمبراطوريتين الأوروبية والأمريكية.
من الجدير بالذكر أن الأوروبيين لم يعودوا يعرفون كيف يعوّلون على الشريك الأمريكي للدرجة التي جعلتهم يشعرون بأنهم أصبحوا بمفردهم في مواجهة مع روسيا التي يبدو أنها لم تعد راضية عن تفكّك الاتحاد السوفييتي. وبما أن الشهية تزداد مع الأكل، فإن ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 لروسيا لم يعد يروي عطشها للنفوذ والسيطرة: الدليل على ذلك طموحات روسيا في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، كما أن تغيير الدستور الذي صادق عليه الروس يفسّر هذا الطموح الذي يجسده فلاديمير بوتين. يشير المؤلف فرانسوا هيسبور الى ان روسيا التي تمكنت، على الرغم من ضعفها الداخلي، من أن تصبح مرة أخرى لاعبا استراتيجيا رئيسيا لا تزال تتحدى الحالة العالمية الراهنة بعد الحرب الباردة عندما وضعت تحت وصايتها أجزاء من أراضي جورجيا وضمت شبه جزيرة القرم وغزت شرق أوكرانيا وأعادت التأكيد على دورها المحوري في سوريا وليبيا.
ختاما: السؤال الذي يطرح نفسه: هل ستتمكن أوروبا غير الموحدة من تجنب الوقوع فريسة لهؤلاء المفترسين الجدد الذين اتخذوا قرار بالوصول إلى سوقها الموحدة لإضعافها أو لتدميرها. للإجابة على هذا السؤال، يشير المؤلف الى أنه مع بداية الحرب العالمية الأولى، سرعان ما وجدت أوروبا، التي سيطرت على العالم، نفسها محاصرة عندما تجاوزتها القوى الناشئة على الجانب الآخر من المحيط الأطلسي. وفي العصر الحديث، ورغم تكاثر أعداد القوى المفترسة، فإن الأوروبيين يكافحون من أجل تطوير استراتيجية متماسكة لمقاومتهم، الا أنه في مواجهة هذا التهديد الثلاثي وفي غياب رؤية استراتيجية قارية حقيقية، يبدو أن الأوروبيين محكوم عليهم بالانحدار الحتمي.
ففي ظل هذه التحديات المتزايدة، تبدو أوروبا غير قادرة على القيام برد فعل مناسب وسيُحكم عليها بالانقسام. ولهذا يستطيع القارئ القول بان التحليل الذي يقدمه فرانسوا هيسبور عن زمن الافتراس المعاصر لا يدعو الأوروبيين إلى التفاؤل.
** **
- د. أيمن منير