هل كان الروائي الياباني كواباتا انتحاريا؟!
بالطبع لم يكن.. إنما كان إنسانا.. كان يعيش وفق تقاليد الإنسان الصادق الذي يعيش دوره ثم يتلاشى.. رحل كواباتا بصمت دون أن يؤذي أحدا، بعدما قدم جزءا من رسالته الفنية، قدم شيئا من روحه على شكل فنون لا يمكن أن ينساها التاريخ.
في رواية الجميلات النائمات لم يظهر الروائي وإنما ظهر الإنسان البسيط.. العاشق الثمانيني الذي يقرأ شريط حياته من خلال مخلوق آخر بديع. ومن خلال فتاته – الطفلة، استطاع أن يعبر إلى حياته الأخرى التي لم يعشها إلا على شكل ضيف متنقل، تماما كما تنتقل نحلة في بساتين الجبال اليابانية التي صورها في روايته – (الجميلات النائمات)..
كانت رحلته عبر الجبال – في الرواية - ترميزاً لرحلة الإنسان الصبور الذي ينتظر ما وراء الحدث التالي.. ينتظر حدثا ثم يحاول أن يبصر ما يحمله الحدث من جوانب حسنة أو سيئة.. ولا يطالب بأكثر من اللحظة.. لا أكثر من الآن!
كان يا سوناري كواباتا يمثل المثقف الحزين.. المثقف الذي سلبه الزمن أكثر مما قدم له.. وتفجرت رواياته شجنا على شكل أحداث مسالمة، لا يريد من خلالها أن يؤذي الناس أو أن يجرهم الى معاناته، هو فقط يرسم الصور تاركا إياها في فضاء الشمس للتأمل والحكمة.. كمن يقول أنا هنا أعاني ولا داعي أن تعانوا مثلي.. هذا هو الإنسان الحقيقي في ذلك الزمن..
رمزيات كواباتا تأخذ بالألباب.. طريقته في إنهاء حياته، صمته، عزلته، لون عينيه..
كل ذلك عبارة عن رمزيات تجعلنا نتوقف فقط لنقرأ. ماذا نقرأ؟ نقرأ روح الإنسان حينما يودع الحياة قبل أن يفارقها.. أن يودع جسده قبل أن يتخلص منه، أن يقول للآخرين وداعا وهو ما زال يتمشى بينهم! هذا جزء من إنسانية الإنسان الحزين المسالم.. وليس أدل على ذلك من مجموع التراث الذي تركه كواباتا للعالم مثل رواية (لاعب القو) .. والرواية الحالية التي نتحدث عنها..
يجعلنا هذا الكاتب العميق نتساءل في مرحلة من مراحل القراءة.. هل نحن نقرأ للمتعة أم لإعادة صياغة الذات وفق ما التجربة القرائية.. بمعنى آخر هل نقرأ لمزيد من التعلم أم للرغبة في التغيير.. السياق – عموما- يقودنا للتغير دون أن نشعر، وهنا تأتي المتعة، هذا هو ما يحدث! وهذا ما أوصلنا اليه كاتب مثل كواباتا.
(... قالت غير مبالية: «إنها فقط مسألة إحصاء!”، ثم أردفت: أنت يا سيد أيغوشي لاتزال في مقتبل العمر، أنت لا تعرف معنى الشعور بالوحدة عند اقتراب النوم! وإذا اتفق وعانيت ذلك، يكفي أن تقترن بواحدة!).
معاناة الوحدة لدى كواباتا والتي أدت في النهاية لشعوره بالاكتئاب والرغبة في الخلاص من العالم على الطريقة اليابانية القديمة، تلك المعاناة كانت هي الألم الذي استفاد منه العالم قبل أن يرحل صاحبه.. ذلك النوع من الألم الذي يحول حياة الآخرين إلى شعور مبهج.. شكل من الأشكال البوهيمية التي تملأ بستان الروح بروائح من أزهار جميلة توشك على الذبول..
( .. كان صخب المطر الليلي الذي بدأ ينهمر فوق البحر الهادئ يصل إلى مسامع أيغوشي العجوز، وكذلك هدير بعيد لا يبدو أنه صوت سيارة، بل كالرعد العميق الذي نسمعه أحيانا ...)
كل تلك المشاعر التي يوصلها الروائي الى قارئه بأمانة، مستخدما كافة أشكال التواصل السمعي والبصري والحسي، اتقنها كواباتا، ليس لأنه روائي حاصل على جائزة نوبل في بداياتها وحسب، لكن لأنه كاتب أمين! لديه رسالة يريد إيصالها بأي ثمن..
وكل ما فعله ذلك الكاتب الأمين هو إيصال الرسالة ثم الرحيل.
ما يمكن أن نتعلمه من بطل الساموراي – كواباتا- هو أن المعاناة ليست شرا مطلقا.. وإنما هي أحد أشكال الحياة المتعددة، والتي تتلون وفقا للظرفية (الزمكانية).. وكل معاناة لدى كاتب في زمكان ما قد يقرأها قارئ في مكان وزمن آخر كقطعة فنية تشكل حياته للأبد. هذا ما فعله ايسوناري كواباتا بالضبط..
** **
- فيصل عسيري
@arabwrite