من يقرأ في التاريخ، فسيجد أن ابن سينا، يشار له بالبنان كأنموذج للطب، ليكون طبيباً للأمراء باختلاف إماراتهم، فتارة طبيباً للأمير الساماني نوح الثاني، الذي كان فرصة ابن سينا وانطلاقته، ثم طبيباً ووزيراً للأمير البويهي شمس الدولة، ثم طبيباً لأمير بني الكاكويه علاء الدولة، ومكنته هذه الرعايات الأميرية أن يعالج كثيراً من العوام مجاناً، حيث دفعه لذلك مما دفعه، تكثير خبرته بتكثير مرضاه حتى لا يكون علمه حبيس قراءاته فقط. أو يجد القارئ أندروماخس الأكبر، طبيبا للإمبراطور الروماني المستبد نيرون، وكان أندروماخس هو من خدع الناس، والظن أنه خدع نفسه كذلك، بفكرة الترياق أو الإكسير على أنه علاج لكل شيء ومطيل لعمر الإنسان لقرون طويلة، حتى صار الترياق يعد من قبل كثير من الباحثين أنه أول «بلاسيبو» معروف في التاريخ، وقد يصادف القارئ أعلاما لم يعرفوا لكونهم أطباء أساسا مثل جون لوك، الذي كان طبيباً خاصاً لإيرل شافتسبري بإنجلترا، إنما يعرفه الناس كفيلسوف عبر أطروحته «مقالة في فهم الإنسان». ولن ينتهي الحديث إذا ما أردنا استحضار شخوص الأطباء عبر كتب التاريخ، إنما إن أخذت عينة عشوائية منهم، لن تجد فيهم طبيباً ذا ظروف مشابهة لطبيب العصر الحديث، حتى لو تماثلت الإمكانيات الذهنية، وهذا متوقع وطبيعي.
فإن بحثت عن صور الطبيب في التاريخ، على اختلافها وتنوعها، لن تجد منها صورة موجودة بين أطباء اليوم، وهذا ليس بالضرورة لأن ذلك انحدار أو تطور، إنما هو تغير فسيفسائي يحمل هذا وذاك. فلا جدال على أن هناك صورة بارزة للطبيب في أذهان الكثير في مجتمعنا، وهي صورة الطبيب المحترم، الأبوي، الآمر الناهي، والمنظور له على أنه من سادة القوم، فله مكانه حتى خارج شؤون الطب، فهو لدى هؤلاء الناس ذو ذهن فريد وجليل، مسلَّم بذكائه المتفوِّق، بينما هذه الصورة ليست مطابقة لعموم صور الطبيب الموجودة اليوم، في العالم الغربي على الأقل، الذي يبدو أننا في عالمنا العربي نتجه لها. وليس بالاستطاعة إيعاز هذا التغير لسبب وحيد أو أسباب قليلة، إنما هو سبب مهم وكبير من هذه الأسباب هو النظم الاقتصادية التي تهيكل مهنة الطبيب وبالتالي تهيكل حياته، والآليات التي تسخر بها هذه النظم التقنيات المعاصرة سريعة التطور. وعلى أنه لا تسعنا المقارنة العلمية الصارمة بين وضع الأطباء المعاصرين مقارنة بأسلافهم القدامى، إلا أني أحاول التأمل مع القارئ صيرورة مهنة الطب.
دوافع السعي لمهنة الطب
بداية، طال التغيير حتى دوافع السعي لامتهان هذه المهنة، ففي حين أن بعض الدوافع الرئيسية مثل الشغف تظل كما هي، إلا أن دوافع أخرى قد أوهنها التغيير إلى حد كبير. وتجد مصداقاً لهذا، بطء ازدياد عدد المقدمين على كليات الطب في الولايات المتحدة الأمريكية، بل إنه انخفض 11 % مقارنة بعام 2021م! هذا على الرغم من الازدياد الحرج في الحاجة للأطباء، على الأقل خلال السنوات المنظورة القادمة. فيقدّر عدد النقص التي ستعاني منه الولايات المتحدة الأمريكية عام 2030م بمئة ألف طبيب، على الرغم من العديد من الطرق التي تسلكها الدولة لتحمّل هذا النقص، مثل استحداث وظائف «مساعدي/ مشاركي الأطباء» و»الممرض الممارس» إن جازت الترجمة، أو مثلاً وكما أعلن مؤخراً حاكم ولاية تينيسي في سابقة على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية عن قانون يسمح للولاية باستقدام أطباء من العالم لم يتموا تدريبهم في الولايات المتحدة الأمريكية.
الأمان الوظيفي
قد يكون الطب من أكثر المهن أماناً وظيفياً، ومدعاة ذلك بطبيعة الحال هذه الحاجة المتضاعفة لعدد الأطباء في كل أنحاء العالم. وعلى الرغم مما ذكرناه سابقاً من نقص شديد في الأطباء والذي من المتوقع تضاعفه، إلا أنه مع التطور التقني، خصوصاً مع التعليم الآلي Machine Learning والذكاء الاصطناعي Artificial Intelligence ، بات من المتصوّر انحسار الحضور البشري في بعض التخصصات الطبية على الأقل. وقد حدث فعلاً في السابق أن انحسر تخصص طبي ما بسبب التطور، وهذا التخصص هو التخصص الدقيق في مرض الزهري، فهذا المرض الذي تبينه البشر في القرن الخامس عشر ميلادي والذي سرعان ما صار وباء معروفاً، فترك حفرياته في أجساد البشر وتاريخهم لعدة قرون، قد تخصص كثير من الأطباء فيه وقتلوه درساً وبحثاً ببراعة، حتى إن الأطروحة الأكاديمية لآرثر كونان دويل، الطبيب والروائي الشهير مؤلف الرواية ذائعة الصيت «شارلوك هولمز»، كانت عن حالة عصبية تصيب مرضى الزهري، إلى أن تم اكتشاف البنسلين علاجاً له في أوائل القرن العشرين، وقل نتيجة ذلك عدد الأطباء والعلماء المهتمين حصراً به، إذ بات مرضاً ذا فرصة محدودة لهم للاكتشاف والتأثير. وعلى هذا المنوال، قد تنحسر المساحة البشرية المتاحة لبعض التخصصات الطبية إن لم يكن كثير منها على أثر التقدم الآلي، من هذه التخصصات مثلاً طب الأشعة وعلم الأنسجة، حيث من المتصور أن تتدرب الآلة للتعرّف بشكل دقيق، بل بقدرة قد تفوق قدرة البشر في مهام معينة في المستقبل القريب. حينها قد يجد هؤلاء الأطباء أنفسهم أمام عطالة ما كانت في أذهانهم يوماً. وقد قام المجتمع العلمي بالشروع في دراسة هذا بطبيعة الحال، فعلى سبيل المثال، نشرت هذا العام دراسة بحثية تزعم أن الذكاء الاصطناعي ليس بأقل قدرة من 3 أطباء أعصاب تخصصيين وذوي خبرة عالية في قراءة دراسات تخطيط الدماغ، هذه العملية التي يستغرق الطبيب فيها سنة على أقل تقدير ليتدرب على قراءة تخطيط الدماغ بعدد قراءات يتاخم المئات، بل الآلاف حتى تتكون لديه الخبرة اللازمة، وهنا قد يحك الطبيب رأسه حسرة على هذا الجهد والوقت حين يتم استبداله بالآلة إن نجحت فعلاً في إزاحته!
المكانة والتأثير الاجتماعي
وفي هذا المجال يلاحظ المتابع أن تغيراً تاريخياً حصل ولا يزال يحصل في مكانة المهن، حتى قد تزال وصمة العار عن مهن ما وكذلك قد تزال وصمة الشرف عن مهن أخرى، وهذا تغير ليس معلناً بطبيعة الحال إنما أنت تجد آثاره. ففي حين تتفحص مهنة مثل التمثيل، فقد كانت في الولايات المتحدة الأمريكية مهنة مشبوهة في عين المجتمع الأمريكي في بداية القرن العشرين. وقد اعتقلت شرطة مدينة نيويورك عام 1927م الممثلة ماي ويست وطاقم المسرحية التي كتبتها بنفسها ومثَّلت فيها شخصية ابنة الليل، بعنوان «الجنس». وقد أدينت بـ «الفحش» وبالسلوك المفسد لأخلاقيات الشباب وحكم عليها بالسجن لأيام. لكن تغيَّرت هذه النظرة تدريجياً، فصار الممثل والممثلة أشخاصاً مرغوبين عموماً، حتى إن أمير موناكو، ذا الشرف الاجتماعي الرفيع تزوج من غريس كيلي، الممثلة الهوليودية المشهورة عام 1956م، بل إن رونالد ريغان، الرئيس الأربعين للولايات المتحدة الأمريكية جاء من هوليوود، بل كان كغيره من الممثلين يقوم بالدعاية والإعلان ككثير من مشاهير اليوم، ولا يزال اليوتيوب يحفظ له دعاياته التي قام بها لصالح شركة صابون، وهذا النمساوي الأمريكي آرنولد شوارزنيجر، بعد أن كان نجماً رياضياً وتلفزيونياً صار حاكم كاليفورنيا. فاليوم بات كثير من الوالدين يرغبون لأولادهم الخوض في هذا المجال، مجال الشهرة، عسى أن يصيبوا حظاً من نفوذ، مثل والدي ما يلي سايرس التي دخلت عالم الشهرة في طفولتها كممثلة أطفال بقرار من والديها. وكثير من السياسيين المتنافسين على مقعد رئاسة الدولة التي تعتبر الأقوى عالمياً، يخطبون ود المشهورين والمشهورات أملاً في أن يزداد حظهم في الفوز بالمقعد الرئاسي، فكل رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية المعاصرين توددوا للمشهورين عموماً، بل إن الشهرة، حتى لو كانت بداية عبر مهنة التمثيل الإباحي قد تؤتي ثمار النفوذ والمكانة الاجتماعية، فها هي إيلونا ستالر، انتخبت من قبل شعبها الإيطالي برلمانية، وهي صاحبة الآراء المثيرة، فهي من تصدرت الصحف يوماً، عارضة الجنس على صدام حسين وأسامة بن لادن، مقتنعة بأن هذا سيخفف حتماً من تأزم الوضع، مفتتحة بذلك لحظة تهكمية على فرويد! قد ابتدأت حياتها المهنية ممثلة إباحية، ووصلت في السياسة أن أسست حزباً في إيطاليا.
وفي مقابل تخفيف وصمة العار عن مهن مثل التمثيل، بل عن مهنة مثل التمثيل الإباحي. تجد تخفيفاً لوصمة الشرف والتأثير الاجتماعي لمهنة الطب. فحين تفتش في تاريخ المجتمع الأوروبي، ستجد الألماني روبرت كوخ، كان يتصدر الصحف رغم نفوره من الصحفيين، بل إنه تزوج زواجاً ثانياً من ممثلة تصغره بما يقارب 30 عاماً، وكان هو من بينهما الشهير وهو المؤثّر المباشر في مجتمعه، حتى إن يوميات زوجته استقت أهميتها من إسقاطها الضوء على مناحي شخصية كوخ نفسه. ثم إنك ستجد زميله في تأسيس علم البكتيريا، الفرنسي لويس بستور وغيرهما من العلماء -وقلة من العالمات- على أغلفة أعداد مجلة «Vanity Fair» البريطانية - وهي بالمناسبة ليست نفس المجلة الشهيرة المعاصرة التي تحمل نفس الاسم-. فالصحافة قبل أكثر من قرن كانت أكثر اشتباكاً مع الأطباء، بينما تتنامى عزلة الأطباء اليوم في مجتمعاتهم العامة، ويعود هذا لكونهم يعيشون في مجتمع علمي بالكاد يتماس مع المجتمع العام في التفاعل الاجتماعي، وإلى لغتهم العلمية الخاصة التي لا تزال تتوسع وتتبرعم بشكل عازل لغير المتخصصين الدقيقين، ولظروف وأنظمة عملهم التي تحد من خوضهم في مجتمعهم العام. فالمشهورون هم المناط بهم دور التأثير المباشر في مجتمعاتهم وسياساتها، أما الأطباء فتأثيرهم لا يتعدى علاج مرضاهم والقيام بأبحاثهم، وعبر هاتين الطريقتين يؤثرون بشكل غير مباشر. فليس لهم التأثير المباشر على مجتمعاتهم إلا في النادر من الحالات أوقات الأزمات، مثل ما حدث مع الطبيب أنتوني فاوتشي، مدير المعهد الوطني الأمريكي لأمراض الحساسية والأمراض المعدية، حين تفشى وباء كورونا في كل أصقاع الأرض، هنا صار فاوتشي نجماً مجتمعياً تتسابق عليه المنابر الصحفية والإعلامية، بل والشخصية حتى، للحصول منه على أي تصريح، فوقتها صارت كلماته عملة يتداولها الناس. ومصداقاً لهذا، تستعين جمعية ألزهايمر الأمريكية بما تسميهم الأبطال المشاهير، لتشييع الوعي وجمع التبرعات، بل إن الممثل والمخرج الكندي سث روغان، هو من خاطب الكونجرس الأمريكي، السلطة التشريعية، عن هذا المرض بوصفه أحد هؤلاء الأبطال المشاهير للجمعية. ثم إنك تجد الجمعية الأمريكية للطب النفسي تعلن عن اجتماعها السنوي لهذا العام في سان فرانسيسكو، بإبراز صورة واسم وسيرة الممثلة الأمريكية آشلي جد، حيث إنها كانت متحدثة رئيسية في المؤتمر، هذا المؤتمر الذي يستهدف العلماء والعامليفي قطاع الطب النفسي بالدرجة الأولى، ولا يستهدف العامة غير المتخصصين العلميين، تحفيزاً للعلماء والعاملين للحضور، فهنا باتت الممثلة تمارس التأثير عليهم حتى داخل المجال العلمي كعنصر استقطاب للمشاركين والحضور. وستجد طبيب العيون، د. ويل فلاناري، يدعى للمؤتمر السنوي الأمريكي لمجتمع عاملي العناية الطبية الفائقة، ليحكي عن تجربته مع المرض في محاضرة المؤتمر الشرفية، وما أعطاه هذه الفرصة، ليس علمه، فهو من تخصص آخر وهو طب العيون، لكنها شهرته ككوميدي بين الأطباء، حيث استخدم مواقع التواصل الاجتماعي لنشر سكيتشات قصيرة تتندر بمواقف وشخصيات المستشفى المختلفة بشكل كاريكاتوري، فعرف هو كيف يغتنم الفرصة، حيث صار يتاجر باسمه الفني، ليبيع للناس منتجات مثل الملابس والأكواب وغيرها من تصميمه وشعاره عبر موقعه الخاص في الإنترنت.
ثم إن مثل الطبيب إيرك كندل، الحائز على جائزة نوبل للطب لعام 2000م مناصفة، لدوره في أبحاث الذاكرة، قد خرج من دائرة الأكاديميا التي لا تزال تضيق إلى الدائرة الأعم، الثقافة العامة، فبات يستخدم معرفته العلمية ليقارب مواضيع ثقافية بأسلوب أدبي مهتماً بالفنون والرسم تحديداً، مثل كتابه «عصر البصيرة» الذي تناول فيه الحركات الفنية في الرسم في مطلع القرن الماضي في فيينا، وربطه بما نعرفه اليوم عن آليات الدماغ البشري. أو زميله جوزيف لودو، العالم المهم في مواضيع الذاكرة والعاطفة، الذي كذلك كتب كتابه المهم «الدماغ العاطفي» لعموم الناس، ودخل في دائرة الثقافة العامة وبات يستشهد الناس والكتاب منه، عبر كتابه، لا عبر أوراقه العلمية، كمثل عالم الإنسانيات طلال أسد. بل إنه دخل مجال الغناء مع فرقته الموسيقية التي يعزف ويغني فيها، عن مواضيع اهتمامه العلمي، ومواضيع أخرى سياسية اجتماعية متاحة للمشاهد على موقع اليوتيوب على قناة الفرقة واسمها، المشتق من اهتمامه العلمي بالمناسبة، «The Amygdaloids Channel» والتي قد تترجم إلى « اللوزانيون» نسبة إلى اللوزة، عضو الدماغ الذي يشكل جزءاً مهماً من دوائر العواطف والأحاسيس العصبية. وكذلك أنطونيو داماسيو، فهو وزوجته عالما أعصاب مهتمان بالعواطف والأحاسيس، إنما داماسيو كذلك اهتم بتأليف الكتب الموجهة لمجتمع القراء العام بعيداً عن صرامة الدوريات العلمية المحكمة، وبهذا اكتسب دائرة تأثير أكثر بكثير لو لم يخض تجربة كتابة الكتب غير الأكاديمية. وأما من هو أشهر من كل هؤلاء الثلاثة، ذا الإنتاج العلمي الركيك أو النادر، بل قد يكون أشهر علماء وأطباء الأعصاب في عصرنا وهو أوليفر ساكس، ولا يخفى على أحد أن سبب ذلك هو كتبه بأسلوبه الجيد وموضوعه الفريد والمهم أثناء إصدارها. فقد يكون هو بمثابة كارل ساغان في الفيزياء من حيث استخدامه معرفته العلمية لإشاعتها بين الناس بأسلوب ممتع.
الأطباء ومواقع التواصل الاجتماعي
وعامل المكانة الاجتماعية والتأثير، بزعمي، هو العامل الذي يفسر من خلاله سلوك كثير من أطبائنا في مواقع التواصل الاجتماعي. فالمتجول في حسابات كثير من الأطباء السعوديين يجدها استجابة لحاجة اكتساب مكانة اجتماعية ما، مفقودة في العالم الواقعي غير الافتراضي - كما هو الحال مع كثير من المهن والأشخاص وليس فقط الأطباء-، فتجد جراح التجميل يفتي في أسباب الصداع، وطبيب الأعصاب يدلي بدلوه عن كيفية الوقاية من ترهل الجلد. وهنا أنا لست من المنادين بأن يقتصر حضور الطبيب الاجتماعي حصراً على دوره كطبيب في تخصصه، لأنه أوسع من ذلك كعاقل اجتماعي، لكن في نفس الوقت، أفضل أن يتجنب الطبيب سلس التفوّه أو الكتابة في المعلومات الطبية إن لم يكن متحرزاً على مصادرها وعلى بيئتها التي تنشأ فيها، وسيكون ذلك أصعب على غير المتخصص. طبعاً هنا الحديث ليس على تسريب خصوصيات المرضى المتعينين دون علمهم، كمن يصور وجه المريض، أو يفشي بأية معلومة قد تدل على ذات المريض، فهذا قد يدخل ضمن السلوك المجرّم قانوناً بحسب نظام حماية البيانات الشخصية الذي أُقرَّ في المملكة عام 2021م والذي تتضمن عقوباته السجن والغرامة المالية. وبزعمي لو كان لدينا صحافة علمية رصينة تغربل أقاويل الأطباء وتميز الغث من السمين، لتغير المشهد كلياً للأفضل.
ومع مرور الوقت وتغيّر النظام الصحي إلى مزيد من الخصخصة، وتغوّل الشركات لتحكم قبضتها على الأطباء كما جرى الأمر في الولايات المتحدة التي انحسرت فيها عيادات الأطباء الصغيرة لصالح الشركات الضخمة. قد يتغيَّر مشهد الأطباء في وسائل التواصل الاجتماعي عبر فرض نظم وقوانين أكثر صرامة تحمي الشركات والمرضى معاً، ليصبح المشهد شبيهاً بما عليه الأمر الآن في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث ينغلق الأطباء على أنفسهم في دوائرهم الافتراضية الخاصة ليشيعوا أبحاثهم ويتبادلوا أفكارهم وليستخدموا وسائل التواصل الاجتماعي استخداماً يساعدهم في عملهم كالمشاركة في الأبحاث والدعوة للمحاضرات وما إلى ذلك. مع انحسار حضور العوام في هذا المشهد، حيث يدعون، إذا ما حاولوا الولوج إليه بسؤال طبي، إلى زيارة العيادة لأن وسائل التواصل ليست المكان الصحيح لهذا.
نبل وخيرية مهنة الطب
أما عن نبل مهنة الطب، وقد يتبادر إلى ذهن البعض أن كثيراً من الأطباء إنما خاضوا في الطب نبلاً منهم، ولخيرية هذه المهنة، وأن شعور الخيرية هذا سيجلب الرضا والسعادة للطبيب، وأن هذا بحد ذاته دافع مهم ورئيس للسعي لهذه المهنة. لكن العين ستخطئ هذه السعادة في الدراسات التي تستقصي شعور السعادة لدى الأطباء، فنسبة عالية منهم في الولايات المتحدة غير سعيدين حتى في الأمور الخارجة عن نطاق عملهم، بل إن غالبيهتم غير سعيدة إذا سألتهم عن شعورهم بالسعادة تجاه عملهم حصراً! هذا ناهيك عن بروز الاحتراق الوظيفي، الذي بات اعتلالاً رسمياً بحسب التصنيف العالمي للأمراض في نسخته الحادية عشرة والأخيرة، بمستويات عالية جداً رغم تفاوتها بتفاوت التخصصات، ولا يفوتك علو نسبة الانتحار، الذي ينظر له عادة كنتيجة للاكتئاب, لنسب تتجاوز ضعف نسب الانتحار في المجتمع العام، بل حتى أمر الخيرية هذا ليس شائعاً في سلوك الأطباء بزعمي، وذلك يعود لنفس السبب الذي يفسر ظاهرة انخفاض نسبة المتبرعين بالدم في الدول التي تكافئ المتبرعين مالياً مقارنة بغيرها، وذلك لأن شعور فعل الخير ينتفي حين وجود المقابل العيني. والطبيب اليوم يعمل ضمن مؤسسة ضخمة تفصل يومه بما يخدم رؤية المؤسسة وسياساتها، فقدرته على التحكم في جدول عيادته مثلاً ضئيلة، وفي حين زحام مهامه التي يحددها له المستشفى تتضاءل قدرته على القيام بمهام طبية خارجة عن عمله الرسمي إلا في أحيان نادرة، مثل المشاركة في الرحلات الطبية الإغاثية في إفريقيا وما شابه ذلك في أوقات فراغه من عمله.
ففي النهاية، طريق مهنة الطب طويل جداً، قد بدأ في بعض التقديرات قبل عشرات آلاف السنين، في عصر ما قبل التاريخ مع الشامانية التي هي في الأساس عقيدة وممارسات دينية تنبني على تصور ما عن الأمراض والأرواح واستخدام بعض المواد المستخرجة من النباتات للمساعدة في العلاج على أثر هذا التصور. ونشأة الطب بطبيعة الحال أسبق من نشأة العلوم، ورمز المهنة اليوم بالمناسبة، الحيَّة أو الحيتان الملتفتان حول عصا، يحمل الخرافة المتكئة على الأساطير القديمة في جوفه. ومرت المهنة بتحولات ضخمة، بل وعنيفة في بعض الأحيان، وصولاً لما نحن عليه اليوم، ومن أهم مفاصلها الحديثة، مثل غيرها من الصناعات، الثورة البخارية، واكتشاف الكهرباء، وصناعة الكمبيوتر، واختراع الإنترنت، والأتمتة، وها نحن في ظلال مفصل مهم وهو الذكاء الاصطناعي الذي سيغير الخارطة بشكل غير مسبوق، والذي سيحسم مستقبل المهنة في المستقبل هو ما سيرسى من نظم وقوانين يحددها سعي الشركات لاستحلاب هذه التقنية لأقصاها لجني أكبر قدر من الأموال، وفي المقابل دفع الناس والشعوب قدر إمكانهم لحياة فيها من الكرامة والأمن ما يقبلونه لأنفسهم ولأجيالهم القادمة.
** **
- سلام نصر الله