أصْدر الدكتور عبد الله الغذامي عامَ (2023م) كتابَه «إشكالات النقد الثقافي»، بعدَ صدور كتابه «مآلات الفلسفة عام 2021م» الذي تكلَّم فيه عن موضوعات ظلَّت تُطرح في عناوين كتبه وفي مضامينها، والمطالِع لمضمون كتابه «مآلات الفلسفة» و»إشكالات النقد الثقافي» يجد رابطًا بينهما يستحقُّ الوقوف والتأمُّل عنده.
يطرح سؤال مهم، هل كان كتابه «مآلات الفلسفة» تمهيدًا لِما سيُطرح في كتاب»إشكالات النقد الثقافي»، أعني:الرَّبْط بين الفلسفة والنقد الثقافي، وكيف تطوَّرت الفلسفة بصورة تختلف عن صُورتها القديمة، وما طرَحه من مضامِين أمثلة الأسئلة الكبرى، كالإرادة الحُرَّة، في حديثه عن العقلنة.
وبين عناوين الكتابين تشابه واشتراك، وإجمال وتفصيل؛ ففي توالت عناوين كتاب «مآلات الفلسفة» حول العقلنة: كهوف العقل، عقلنة العُنف وعقلنة اللامعقولية، وعقلنة الهروب، بينما جاء في كِتابه «إشكالات النقد الثقافي» عن تعدُّدية العقل الواحد، التي تتناسب مع تقبل التعددية الثقافية، والعقلنة (نسقية الإزاحة والإحلال)، إلَّا أنَّ ما يميز «إشكالات النقد الثقافي» هو ربْطُه للعَقلنة والفلسفة بالنقد الثقافي.
وقد طرَح في آخر فصل مِن كتاب «مآلات الفلسفة» عنوان: موت الفلسفة، ناقش فيها رُؤيةَ هوكينج، باشلار ورورتي في تأسيس التصوُّر الحديث لوظيفة الفلسفة، تحت عنوان النظرية، مؤكِّدًا على أنَّ النظريةَ حلَّتْ محلَّ الفلسفة، وليس إلغاء، لكنه تصدَّى للمبحث الفلسفي بصِيغة حديثة؛ يقول: (إنَّ النظرية النقدية هي الصِّيغة التي تقوم مقامَ عِلم إنساني وثيق الصِّلة بالعقلنة والاستدلال العقلي والتفكير الناقد، وهذا المنشِّط هو الصِّيغة العصرية للفلسفة)().
يُعيدنا كلُّ هذا إلى البداية حين قال بـ: موت النقد الأدبي، وتأسيسه للنقد الثقافي، وفي كتابِه «الجُنوسةِ النَّسَقيَّةِ» حين عَنْونَ: «النظرية» بوَصفِها إشارةً حرةً قائلًا: (إنَّ النظريةَ النَّقديةَ هي الثَّورةُ المَعرِفيَّةُ التي ستتولَّى إعادةَ توجيهِ الأسئلة)().
تأييد الغذامي لإحلال النظرية محل منظومة البحث الفلسفي، هو مناداته بالتعدديَّة ، بعكس البحث الفلسفي الذي اعتمَد على الثُّنائية، وحسم السُّلطة للعقل، كما وصَف العقل أنه مخاتِل يمجِّد ويبرِّر كلَّ تغيُّر يطرأ، ويظل الفرد في الرؤية الفلسفية يمجِّد العقلَ على أيِّ قوة أخرى في الذات البشرية؛ ولأنَّ النظرية وَفق رُؤيته تعطي حريةً معرفية بعيدًا عن الأسئلة الكبرى وهي من توجِّهها، وليس العكس، وكون النظرية تفاعليَّةً تتجدَّد، ومنفتحة على مزيد من الأسئلة، ميزتها اللاقطيعية، وليستْ فرضيَّة أوَّلية، ما ينشأ عنه نوع من (التفاوُضية الثقافية).
إنَّ النقد الثقافي يؤسِّس في حقيقته لنظرية معرفية تضمُّ مجموعةً من النظريات المختلفة، والأسئلة التي من الصَّعب أن تجتمع في حقْل غير حقْل النقد الثقافي؛ كل هذا يجعلني أقول: إنَّ النقد الثقافي ضِمن العلوم البَيْنة وَفق تعريف جامعة الأميرة نورة للدِّراسات البَيْنة؛ فالفلسفة جزءٌ من الأجزاء التي تتَّصل بالنقد الثقافي.
وإذا كانت الفلسفة في نظَر الغذامي تعني التفكير في التفكير نفْسه، كما ذكَر في كتابه «إشكالات النقد الثقافي»، وأنَّ فِكرة الفلسفة في طرْح الأسئلة وليس التعلُّق بالأجوبة والنِّضال عن أجوبتها؛ كل هذا يجعلنا نُدرك نِقاطَ التقاطُع بين النقد الثقافي والفلسفة؛ فكلامها تفكيرٌ في التفكير، وهو يُفسِّر لنا كميَّةَ الأسئلة التي طرَحها الدكتور عبد الله الغذامي دون إجابةٍ في مؤلَّفاته، لكنَّ المدرِكَ لخصائص الفنَّينِ يعلم أنَّ لكلٍّ منهما جوانبَه التي يبحث عن إجابة لها في عقلية المتلقِّي.
وكما ذكَر الدكتور عبد الله في كتابه «إشكالات النقد الثقافي» أنَّ التفلسف على التفلسف هي لُعبة التذويب والنفي، ولُعبة الإزاحة والإحلال، في طرْح السؤال فوق السؤال، يَفعَل الفِعل نفْسَه في النقد الثقافي، فإنْ كان المفكِّر والفيلسوف يحاول ممارسةَ التنظيف الذِّهني لإزاحة هينمة فِكر وقناعات، فإنَّ هذا ما يُحاوله النقدُ الثقافي، لكن الغذامي يرى أنَّ المفكِّر الحقَّ هو مَن يشعر أنه بحاجة إلى الخروج عن عباءة غيره، ولكن مهما حاول المفكِّرُ الخروجَ عن عباءة سابقيه، فإنَّه موجود في ضميره.
هذا ما حاوَل الدكتور فِعلَه في الكثير من مؤلَّفاته، خاصَّة في ما يخصُّ موضوعَ المرأة، حاول كشْفَ المُضمَر الثقافي، وكيف هو النَّسق المضمَر بالعقل الجمْعي، وطرح الأسئلة دون إجابة في كثير من المواضع، ورغم هذا الكشف فإنَّه ظلَّ يُظهر حالةَ ازدواج مع الوعي الفرد للمفكِّر، وخاصَّةً في واقع موضوع المرأة.
ذكَرتُ في بحث «صورة المرأة في الخِطاب النقدي عند عبد الله الغذامي» أنَّ المرأة شكَّلت حجرَ زاوية في التحوُّل النقدي عنده، وهذا ما أكَّده الدكتور في كتابه «إشكالات النقد الثقافي»؛ إذ تكلَّم كيف دراسة «نماذجِ المرأةِ في الفعلِ الشِّعريِّ المعاصرِ» بداية لفِكرة النسق المضمَر، وهي اللَّبِنة الأساسية من لَبِنات النقد الثقافي، حيث تحدث بأنْ أخطر صِيغ النقد الثقافي، متمثِّلًا بمقام المرأة، سواء في حضورها المعنوي أو القيمي، وفي تشكُّلها بالذِّهنيات عبر التوارُث عبر القرون، رغم فروق الزمن والوعي. وسبق أيضًا أن كتبتُ في رسالتي المعنونة بـ «صورة المرأة في الخِطاب النقدي عند عبد الله الغذامي»، وكيف أنها حجرٌ مركزي في تكوين النقد الثقافي وإنْ جاء التطبيق على النماذج مبعثرةً في كثير من الكتُب التالية للنقد الثقافي، وخاصَّة الجُهنية، وهذا باب من التوريق؛ فالمرأة نسق مُضمَر في تأثيرها الثقافي والمجتمعي، ظلَّ مُضمرًا حتى وقت قريب وإنْ كان المحرِّك الأساسي لكثيرٍ من التغيُّر الثقافي والمجتمعي.
وصرَّح في كتابه الأخير «إشكالات النقد الثقافي» لأوَّل مرة في فصل الهويات الضائعة، عن مصطلح النسوية، وأنه مصطلح موشومة، كما وشم الليبرالية والعلمانية؛ مما جعَله يتجنَّب استخدامه تجنُّبًا للمتاهات الدَّلالية وما حملتْه من ازدواجية دَلالة، لكنه يظل السؤال لماذا ظل مشروع المرأة مركزيا بعد نقده الثقافي لكنه متناثر في كتبه؟ .
في مشروعهِ تعددت جوانب النظر حول المرأةِ، ؛ فكوَّن رُؤيةً فلسفيةً لُغويةً وخاصةً في ثُنائية الفُحولةِ والأُنوثةِ، ركَّز على السِّياقِ الاجتماعيِّ من خلال القصص والموروث، وكيف كانتِ المرأةُ مُنفَعِلةً وليست فاعلةً وكيف تحول هذه الصورة، شكَّل نقده الفلسفيَّ الثقافيَّ النِّسوي أداة حديث لتحليل القصص والسياق لاجتماعيّ ِوالثقافي ، فكلَّما اقترب من النقدِ النِّسْويِّ ابتعَد عنِ الألسُنِيَّةِ.
وهذا أيضًا مما جعل كتابه «إشكالات النقد الثقافي» إعلانًا لفلسفة حديثة، ويُدخِلُنا في مرحلة (المابعدُ) مابعد الفلسفة فهي مرحلة خليط من المعارف هدفها النقد ، لكِنَّ الصِّراعَ لن يتوقَّف، والصوتَ الأعلى سيظلُّ نصيبًا للطرفِ الأكثرِ مُثابرةً، وكما قال: إنَّ التحَوُّلَ لِمَابَعدُ، ليس إلغاءً للمُصطَلَح السابق؛ وإنَّما فتَحه وكسَر قَوقعتَه عَبْرَ نقْدِ المُنجَز، ومِن ثَمَّ تصحيح مَسارِه().
** **
د.خديجة الجهني - دكتوراة في البلاغة والنقد مهتمة بالدراسات الثقافية .