المفاهيم التي طرحها الغذامي في النقد الثقافي عصية على القبول، عصية على الرفض. انطباع تكون لدي عند قراءة الكتاب المؤسس «النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية»2000، ثم ترسخ بعد قراءة أحدث كتبه «إشكالات النقد الثقافي: أسئلة في النظرية والتطبيق»2023.
يكاد الكتابان أن يكونا واحدا، برغم أن بينهما ما يقرب من ربع القرن، فالمفاهيم التي تكونت أولا هناك، عادت للظهور هنا، ومعها كل الأسئلة المحيطة بها. وبرغم أن الكتاب الأول ووجه بمراجعات وانتقادات كثيرة، فإن هناك زاوية لم يقترب منها أحد، على الأقل فيما قرأت، وهي علاقة الأنساق الثقافية بالنماذج الأصلية Archetype عند يونج ونورثرب فراي.
عند يونج، وهو الذي سنركز عليه أكثر، فإن النماذج الأصلية متجذرة في اللاوعي الجمعي، وعند الغذامي، فإن الأنساق الثقافية مخبوءة في اللاوعي الثقافي. والاثنان يحضر عندهما أفلاطون وأسطورة الكهف حضورا لافتا للنظر. تتحول النماذج الأصلية عند يونج إلى شبكة من الرموز تنبثق من أربعة نماذج أصلية: الذات، الأنيما/ الأنيموس، الظل، الشخصية/القناع، ومن نماذجها الأخرى: الأم، الجد، الحكيم، المحتال، الأب، البطل، وغيرها، بينما تظهر الأنساق الثقافية عند الغذامي من خلال مفاهيم أساسية هي: النسق المضمر، الجملة الثقافية، المجاز الكلي، التورية الثقافية، المؤلف المزدوج/ المضمر. يربط يونج النماذج الأصلية بالغريزة، فهو لا يؤمن بأن عقولنا صفحة بيضاء، وهو ربط غامض لم يستطع تفسيره، لا هو ولا شارحوه. أما الغذامي فيرى أن الأنساق الثقافية تاريخية أزلية راسخة، ويقول إنها مخبوءة في اللاوعي الثقافي دون تحديد لماهية هذا اللاوعي ولا كيفية نشأته ولا الطريقة التي يتوغل بها ليؤثر ويهيمن. وإذا كان يونج قد قال إن نماذجه الأصلية فطرية وعالمية، فإن الغذامي يكتفي بأن يحصر أنساقه الثقافية في المجتمع العربي، دون أن ينفي أو يؤكد عالميتها. ثم يضيق أمثلتها أكثر فيكتفي بالإبداع الأدبي، ثم يخطو خطوة أكثر ضيقا فيكاد يحصرها في الشعر مع نماذج شاردة في السرد وفي اللغة، وكأنه يرى أن للشعر الدور الأكبر في نشأة الأنساق الثقافية، وهي فكرة لا يوافقه عليها كثيرون. عبد الله إبراهيم مثلا يقول في مراجعته لكتاب «النقد الثقافي»: «القول إن النسق الشعري قد صاغ الذات العربية يحتاج إلى برهان لم يقم له وجود في الكتاب».
أحد ما ينفرد به الغذامي مقارنة بيونج هو مفهومه للمؤلف المزدوج، أو ما يسميه أحيانا بالمؤلف المضمر الذي يرى أنه هو الثقافة نفسها، وهي فكرة صحيحة في ذاتها، وفي تجلياتها التي تظهر في اللغة. فالنصوص اللغوية ليست إبداعا خالصا لمنشئيها، إنها مزيج من الإبداع الشخصي، وهو قليل، وإبداعات الآخرين التي تتسرب إلينا طوعا أو كرها. طرح باختين الفكرة في حديثه عن الكرنفال، وطورتها كريستيفا فيما يسمى بالتناص، واستغلها هارولد بلوم فيما أطلق عليه قلق التأثر. وفي كل، فإن هناك مؤلفا مضمرا حاضرا بقوة داخل النص أو أصواتا أخرى ثقافية لا يمكن الفكاك منها.
قد يمكن الجدال طويلا حول مفاهيم «الجملة الثقافية» و» المجاز الكلي» و» التورية الثقافية»، فالغموض حولها كثيف، والأسئلة التي تنبثق عن أمثلة الغذامي لهذه المفاهيم ليست قليلة الأهمية ولا يمكن تجاوزها، لذلك فإن مزيدا من تحريرها أمر واجب.
ما يسوغ الربط بين الاثنين: يونج والغذامي أن أمثلة الغذامي يمكن أن تعدها نسقا ثقافيا مضمرا بتعبيره هو، أو أن تكون نموذجا أصليا وفق تصور يونج، مثلا صورة الطاغية التي أفرد لها الغذامي مساحة كبيرة في كتابه الأول يمكن أن تكون كذلك نموذجا أصليا، وهو جمع، إن بدا هينا، ويمكن تجاوزه على اعتبار أنه خلاف اصطلاحي، فإن تحليل صورة الطاغية وفق كل مفهوم سيؤدي إلى نتائج مختلفة.
ظني أن النظريتين برغم كل ما وجه إليهما من نقد، فإنهما حاضرتان في الوعي الجمعي لكل المجتمعات حضورا مهيمنا وغامضا في الوقت نفسه، فالأب، مثلا، سواء أكان نموذجا أصليا بتعبير يونج، أو نسقا ثقافيا بتعبير الغذامي، صورته حاضرة هناك في اللاوعي المجتمعي أو اللاوعي الثقافي برغم أنه يصعب الدفاع عن فطريته عند يونج أو غموض منابعه عند الغذامي. وقل مثل هذا عن بقية النماذج الأصلية أو الأنساق الثقافية. وإذا كانت نظرية يونج عن اللاوعي الجمعي والنماذج الأصلية قد تابعها كثيرون، أضافوا إليها وحذفوا منها ونقضوها وروجوا لها برغم كل الغموض المحيط بها، فإن نظرية الغذامي في حاجة إلى مثل هذا الجهد الدؤوب حتى تستوي أفكارها وتكون أكثر إقناعا وقابلية للتحليل
والتطبيق. لا يتيح الحيز الضيق الذي أكتب فيه هنا إلا مثل هذا العرض الموجز، وإلا، فإن مثل هذه المقارنة يمكن أن تتسع وتطرح مزيدا من الأسئلة، وتقدم بعض الإجابات.
** **
د. أحمد صبرة - جامعة أم القرى