العظماء يتميزون بإنجازاتهم ومساراتهم المختلفة، فتهوى أفئدة الناس إليهم، فمع المنطق نتذكر أرسطو، ومع النقد ينبثق كانط، وفي البلاغة نرى الجرجاني، والغذامي من هؤلاء العظماء، فعندما تمر الثقافة يتجلى الغذامي. والثقافة وإن اختلف تعريفها عند المهتمين بها فهي لا تشذ عن كونها طريقة في الحياة انتقل إليها البشر بعد الطبيعة، فخلقوا وأبدعوا منجزاتهم. وكل طريق يستلزم سالكين ولكل منهم أيضا مشرب. ومشرب الغذامي هو النقد الثقافي، والنقد بعيدا عن الاصطلاحات هو بيان قيمة الشيء، ولذا فإن النقد الثقافي يعتبر خريطة بيانية لأعراض الثقافة العامة المتوارية عن الأذهان، وأعني المفاهيم التي تشكل خطرا على الإنسان والثقافة نفسها، ولاسيما إذا كانت علتها هي ما يظن أنه دواؤها.
السياق الغذامي يتمثل في وحدة كتبه، بداية بالمرساة الخطيئة والتكفير وتتويجا بالنقد الثقافي واستدراكا بإشكالات النقد الثقافي وهو الأخير، فهي جميعها متجاورة جنبا إلى جنب إلا أن في كل فترة زمنية يتقدم أحدها على الصف ليؤدي مهمة. ومن يستقرئ كتبه التي زادت على ثلاثين كتابا، ويتقلب بينها، يجد أن مشروعه ينطق عنه في الإبداع، والابتداع.
الإبداع يعرف على أنه خلق شيء لا مثيل له وسابق على الزمان، والغذامي أبدع النقد الثقافي الذي محوره يترصد للنسقيات الثقافية، لكونها تتربص بالإنسان وتنتقل عبر الزمن، فتعجب من قدرة هذا النسق على المكوث في الزمن حيا، وقدرته أيضا على تكوين أرض مشتركة بين منفصلين جسديا وزمانيا في حين أنهم يقيمون عليه، فهو إن جاز التعبير هويتهم، وميزة الثقافة هي غالبا في تماثل سلوك الأفراد وتشابه المنطوقات وإن اختلفت صيغ التعابير، إذ الإشارات والإحالات إلى الشيء واحدة في كثير من الأحيان. والنسق هو النظام الذي تتفاعل فيه العناصر في وحدة واحدة، ومفهوم النسق الثقافي قريب من هذا إلا أنه يتميز بأنه كامن لا يعترف بالزمن، ومضمر يتوارى عن الأنظار، ولا ينكشف إلا بفحص الأثر، فظاهره متنكر بالجمالية التي تغر العقل وتسلبه لبه، وباطنه مناقض لظاهره، ولذا فهو علة اجتمع فيها المعنى القريب والمعنى البعيد في نفس الوقت والحين، وبعبارة أوضح، هي مظالم ثقافية لم تحاكم، والنسق بعبارة الغذامي وبتصرف، هي أمراض ثقافية وأشبه بالفيروسات التي تصيب الأجساد وبه تتناقل العدوى، والعقول عنه محتجبة.
النقد الثقافي قام على أصول مقعدة، وهي وسائل مبتدعة من النقد الأدبي، والبدعة في أصلها إحداث شيء من موجود، وهي طريقة في التجديد بالإضافة أو الحذف أو بكليهما معا ليبقى المعنى حيا يتمدد، ولكن خاصيته خارجة عما رسمته الأذهان، ووسائل النقد الثقافي وأدواته تعتبر بدعة في النوع والكم والكيف والسبب ولها إرهاصات في كتاب الخطيئة والتكفير خصوصا التشريحية، وما يهمنا هو أنها خدمت النقد الأدبي، فمن رحمه انبثق علم جديد يحيي ذكره، فصار الأدب شجرة الثقافة، وهكذا هي العلوم في تكاملها مع بعضها بعضا، فالفقه كمثال، نظرية قامت على التفسير والحديث والإجماع والقياس، ورغم أن الأخير فرع من علم المنطق وليس من اختراع المسلمين إلا أنهم ضموه إلى علومهم.
ومن المفاهيم الهامة التي أحدثها النقد الثقافي وأضافها هو العنصر النسقي في عناصر التواصل اللغوي، فأصبحت به سبعة عناصر بعد أن كانت ستة، وينصب اهتمامه في البعد الذي يمس المضمر الخفي والدلالي للخطاب. والعنصر النسقي مرتبط بالمجاز الكلي الذي لا يقف على حدود اللفظة والجملة بل يتوسع فيه ليشمل الأبعاد النسقية في الخطاب. كما اجترح بالإضافة على الدلالة الصريحة والدلالة الضمنية مفهوم الدلالة النسقية. والرابع هو الجملة الثقافية وهي مقولة ثقافية تغير المعنى، وخاصيتها في تحويل الحال إلى نقيضه، والخامس هو مايسميه التورية الثقافية ، إذ النسق متوار عن المرسل والمتلقي، وهو الفاعل بالضرورة لأنه من مسلماتهم، ولتوضيح هذه الصورة نضرب مثلا بشخصين يتفقان على فعل واحد وبنفس الهيئة والكيفية دون قصد ووعي منهما. والسادس هو المؤلف المزدوج ويرتبط بالدلالة النسقية ويزل منها، وخاصيته في جمع المتناقضات حيث الظاهر مناقض للباطن. والسابع هو الشعرنة وما يكون على وزن فعلنة، وهي وصف للذات التي تحولت من جزء حقيقي إلى جزء إضافي أو مفهوم كلي، وخاصيتها في نفي شبيهها أو ندها.
الغذامي يشترط في النسق كي يعبر عن وظيفته أن يكون واقعيا وعمليا، ولذا يتحدد النسق عبر وظيفته وليس في كونه مجردا، فيشترط أن يكون النص جماليا في أعين الناس وبتعبيره « وإنما الجمالي هو ما اعتبرته الرعية الثقافية جميلا « وفي هذا لا يحاكم الأذواق بل المفاهيم. والشرط الآخر» أن يكون جماهيريا ويحظى بمقروئية عريضة»، وفي هذا الشرط يظهر الأثر والتأثير وتنكشف التصورات، وانظر مثلا صفحة 108 و 109 النقد الثقافي، والشرطان الأخيران، أحدهما التناقض فظاهر النص أو مافي حكمه مناقض للمضمرالنسقي، والشرط الآخر هو التعارض، أي أن يحدث النسقان معا في آن واحد في نص واحد. وهذان الشرطان الأخيران يقيمان ويقومان المقاصد والمآلات وانظر مثلا صفحة 110 في نفس الكتاب، إذن النقد الثقافي يقوم على خلفية فلسفية تهتم بالمقاصد والغايات، وتحديدا الأخلاقية والتجديدية، ولها رؤية متأسسة على أصول منطقية وأدوات سليمة، ولذا فإنه ليس مجرد ترف فكري أو مناكف، وبما أن له غاية أخلاقية فإننا سنعرض بعض المفاهيم للظلم والتي يحاكمها ويمسها النقد الثقافي، إذ الظلم في جوهره وضع الشيء في غير موضعه قصدا، ولذا فإن الظالم يتعدى على الحق بالسلب أو بالزيادة، ومدفوعا إليه بأحد ثلاثة أمور إن لم تكن كلها، فيتقلب في حالات الظلم مابين زيادة ونقصان أو نفي، ولا تبرح قصديته من الأنانية أوانسلاخ من الرحمة أو الجهل. ولئن كانت تلك الدوافع تقصد لغير إلا أنها تمسه أيضا، خصوصا إذا أدركنا أن الظلم ينقسم إلى اثنين، ظلم النفس، وظلم غيره، ولا يقف وصف غيره على العاقل وحده بل يصل إلى غير العاقل، فينزل إلى أن يصل إلى الأشياء الجامدة، حتى وإن كانت الأرض التي هي مستقرله وما فيها مستودع.
_ الجور، وفيه ميل وقهر، وهو مفارق للاستقامة،وعدول عن الحق، ولذلك يطلب الحق فيه بنقيضه وهو الإنصاف والعدل، أو العدول بالفعل إلى الحق، وهذا الشكل هو ما يتشابك معه المجاز الكلي والتورية الثقافية، ويحاولان فحص القيم الكبرى مثل العدالة والحرية والجمال، ويمكن العودة إلى بعض ماورد من شواهد في كتاب إشكالات النقد الثقافي صفحة 34 ، والعدالة بين المفهوم والإقصاء صفحة 58، وفي كتاب النقد الثقافي صفحة 111.
_ البغي، وهو كما عرفه الكوفي صفحة 584 « طلب تجاوز قدر الاستحقاق، تجاوزه أم لم يتجاوزه، ويستعمل في المتكبر وهو طالب منزلة ليس لها بأهل» ، وتبلغ الخطورة إذا أزاحه وأحل نفسه، وهذه دافعيتها أنانية محضة يظلم بها نفسه ويحرم بها المستحق، ويمنع من وصول الخير إلى من يحتاجه من الناس، وهذا ما يتصارع معه الشعرنة (الأنا المتضخمة) ومفهوم المجاز الكلي، وقد أسهب كتاب إشكالات النقد الثقافي في هذا الجانب، وانظر صفحة 34 والفصل الثاني، وصفحة 94 و 118 في الكتاب الآخر النقد الثقافي.
الطغيان، وهو الزيادة في الحد، والتحميل فوق القدرة والوسع، وهذا الشكل يحدث فيه استغلال الضعفاء والبسطاء وتحميلهم فوق سعتهم، والتجاوز عليهم بغيروجه حق يتشفع في ذلك، وفي هذه الحالة يتحقق الدافعان، الأنانية وانسلاخ الرحمة، وفي أحيان ينضم لهما الجهل، والكوفي يعرفه فيقول : «هو تجاوز الحد الذي كان عليه من قبل، وعلى ذلك (لما طغى الماء) «صفحة 584، وفي هذا الشكل تبرز التورية الثقافية والمؤلف المزدوج في مناكفته أكثر من غيرهما.
_الغشم، وهو شدة الظلم، ومنها جاء التعبير عن الحرب الغشوم لأنها تطال غير الجاني، ورجل غاشم أي ظالم، والغشيم هو الجاهل بالأمور، والغاشم وهو الحاطب بالليل يقطع كل مايقدر عليه بلا نظر وفكر، وورد عند أبي هلال العسكري، الغشم ، اعتسافك الشيء، والاعتساف هو خبط الطريق على غير هداية، صفحة 386. يتبين مما سبق أن المراد به هو الجاهل، فالجهل يورد الإنسان إلى الظلم والمهلكة، وبطبيعة الحال لن تستثنى أنانية النفس، وهذا الشكل يتصارع معه مصطلح التورية الثقافية والشعرنة.
_ العدوان، وهو مجاوزة الحد في الأخذ، فيأخذ ما له وماليس له، ولا يحدث العدوان إلا فيما أبيح للإنسان أن يأخذ منه، ومنها جاء الاعتداء على المال العام، ولهذا قال الكوفي في كتابه الكليات «العدوان هو تجاوز القدر المأمول به والانتهاء إليه والوقوف عنده» صفحة 584 ، ولذا فإن مصطلح الشعرنة والمجاز الكلي يعترضانه. والفصل الرابع من إشكالات النقد الثقافي أسهب في نقد هذا الجانب.
هل النقد الثقافي يهدم الجمال؟
هذا سؤال مشروع، بما أن النقد الثقافي يقوم على مقاصد أخلاقية في جوهر رؤيته ويتوسل بالعقل والمنطق في أدواته ووسائله ويمس الأدب أيضا ، ولكن لماذا لا يكون العكس، أي أنه يخدم الجمال، وبتكامل الأخلاق مع الجمال يصل المرء إلى السعادة. فنسعى إلى مدّ النظر، وتوسيع مفهوم الجمال من ناحية اعتبار الاختيار والأفعال وذاكرة المرء، مادامت القيمة الجمالية مرتبطة بالصورة التي تثير الذهن، ولكن قد يأتي معترض ليقول بأن مصدر الجمال لا يكون إلا عبر الحس وحده حيث يراها في الجميل نفسه، ونحن نسأل لماذا
لا يفسّر هذا المذهب الاتّفاق والاختلاف فيما هو جميل؟ فلو كان جميلًا في ذاته لحصل الاتّفاق، كما أنّ الحواس تختلف باختلافات البشر. وقد يأتي آخر يرى أنّ الشعور هو مصدر الحكم، فحيثما ثار الشعور، ثار الجمال، ولكنّ هذا أيضًا لا يفسّر الاتفاق والاختلاف بين الناس في المشاعر، كما أنّه لا يملك معرفةَ سرّ انفعالها، ولا سبب تغيرها في الشيء نفسه، فقد تنجذب إلى منظر أوأغنية أو صورة شعريّة لأوّل وهلة، وما أن تعاود الكرّة حتّى تذوب تلك الجاذبيّة، إضافة إلى أنّ تغليب العاطفة على العقل لا يرقّيها إلى الوجدان، فتلج إلى التيه.
وقد يتعرّض آخرون إلى الأخلاق نفسها، فيرون الحكم الأخلاقيّ مختلفًا عن الحكم الجمالي، والقيمة الجمالية منفصلةً عن القيمة الأخلاقية، ويستشهدون -مثلًا- بالطبيب الجرّاح الذي لا ننزع عنه أخلاقيّات ما نفرّ منه، مثل مشاهدة أدواته ومجزرته المجبر عليها لإنقاذ مريض. إذًن ، الحكم أخلاقيّ بصرف النظر عن قبح الوسيلة، وكذلك الأمر مع الحكم الجماليّ بغضّ النظر عن لا أخلاقيّته. ولكن لنتفحّص الأمر برويّة. ينفعل الشعور بالشيء في حينه، فيكوّن صورة عنه، كأن تبتهج بمنظر طبيعيّ أوصورة شعريّة أولوحة رسام، وهذه صورة لحظيّة تزول بزوال المثير، بينما تتجلّى الصورة المتكوِّنة من العمل الأخلاقيّ في الذاكرة فيما بعد، فتكون صورةً جميلة يحيا المرء معها كلّما وردت إلى ذهنه، ويستأنس بها، وينفعل دون سأم؛ إذ إنّ الإنسان يحيا في عالم الغيب أكثر من عالم الشهادة، ولا ييأس من التوسّل بالذاكرة فهي مستودع الأثر. إذن ، الصورة الجماليّة على مستويين: صورة قريبة، وصورة بعيدة، والنسبة المنطقية لهذين الكلّيين، الأخلاق والجمال، هي العموم والخصوص المطلق؛ إذ إنّ كلّ أخلاقيّ جميل، ولكن ليس كلّ جميلٍ أخلاقيًّا، فالجمال يستوعب الأخلاق، لكنَّ الأخلاق لا تستوعب كلّ الجمال، بل هو يتعداها إلى غيرها، ولا تحيط به. ولا غرابة في حدوث التداخل بين الكلّيات، فالعلم والفلسفة يتداخلان. العلم يستمدّ مشروعيّة السؤال من الفلسفة، فيبحث ويقيّم نفسه، ويفحص مصداقيّة نتائجه، في حين أنّ الفلسفة تسعى إلى مساءلته لتقويمه أخلاقيًّا من خلال البحث في الغايات والمقاصد، إلّا أنّ التداخل في هذا الحال هو: العموم والخصوص من وجه، أي أنّ بينهما مشتركات في الحدود، ولهذا فإن النقد الثقافي أنقذ مفهوم الجمال عندما كشف عن التقنع بالجماليات، فالجمال رمزية شبيه بالدين وقع عليها الظلم كما وقع على الدين، وليس هذا بجديد على الرمزيات، فالدين مع عظمته كان باحة للمستغلين، ولن نجعل الفنانين أو الشعراء في مماثلة مع مستغلي الدين، ولكنها مجرد مشابهة.
هل يمكن أن يكون النقد الثقافي صالحا؟
وأعني بالسؤال هل يمكن للنقد الثقافي أن يكون صالحا مع مرور الوقت واختلاف المكان. إن العلم لا يكون حقيقيا إلا إذا كان قابلا للتبرير، وأدواته سليمة، ويمكن البرهنة عليه، ومتماسك معرفيا، وبانت ثمراته العملية، ولهذا : فإن كتاب إشكالات النقد الثقافي كرس جهدا في إثبات نجاعة النقد الثقافي وأدواته ، لأنه يبحث في الحال ، وكل حال له فعل وأثر، وله أيضا صفة الثبوت اعتباريا، والاعتبارات الثابتة في حياتنا كثيرة ، خذ مثلا الساعة التي هي ستون دقيقة ليست ثابتة إلا من قبيل الاعتبار لارتباطها بالواقع وإلا ما الذي يمنع ألا تكون تسعين دقيقة مثلا، ولذا لا نتعجب من شروط النقد الثقافي الأربعة عندما جعل النظرية تعلق بالأثر، كما لا نعجب من حيث جعل الجماليات البلاغية وسيلة للكشف عن الحال ، فالمريض قد لا يعلم أنه مريض، وعند سؤاله عن حاله، يجيب بأنه في أحسن حال، والطبيب من جهة أخرى يجعل أقوال المريض مجرد وسيلة مع غيرها لكشف العلة. والنقد الثقافي كذلك يعتبر النقد الأدبي واللغة كلها وسائل، وما كان وسيلة كان بديلا وله بديل، فما الذي يختلف عند سؤال شخص ما عن حاله باللغة العربية أو اللغة الإنجليزية؟ طبعا، لا شيء إذا كان ما يهمنا فقط هو مجرد معرفة حاله، فجميعها وسائل لمعرفة حاله، وهي هنا في حالة ترادف معرفي. وهذا جانب فلسفي يهتم بالملاحظة والاستقراء، وينطلق من المعلول إلى العلة، ويعتمد ما يسمى في المنطق البرهان الإني وهو الانتقال من المعلول الى العلة أو من معلولين متلازمين إلى علة، كأن تستدل بالنهار على وجود الشمس أو بالنهار والشمس على وجود علة أكبر.
وبناء على ماسبق: فإن النقد الثقافي يعتبر صالحا مع تغير الزمن واختلاف المكان، لكونه نظرية لها صفة الثبوت اعتباريا، ولا يتعمد الإسقاط بل يهتم بالكشف، وسيظل في حيز النظرية والمشهورات، مراعيا للمستجدات مع مرور الوقت، وهكذا أرى.
** **
- صالح الصالح