لم يروِ عطش أسئلتي سوى النقد الثقافي ولاسيما بعد أن قرأت كتاب الدكتور عبدالله الغذامي ( النقد الثقافي دراسة في الأنساق الثقافية) وما أحدثه الكتاب من ثورة على أفكاري. هذا ما كتبته في مقدمة كتابي (الذات والمجتمع دراسة في الأنساق) الذي كان في الأصل رسالة الماجستير التي لم أوفق بها أكاديمياً لكني نجحت نقدياً لأنّي اكتشفت بأن النقد الثقافي ينمو في الأجواء المشاكسة، فكنت كذلك. مذ كنتُ طالبة في مرحلة الماجستير وأنا أبحث عن نقد يحرك السواكن فعندما قرأت لأوّل مرة كتاب المفكر الدكتور الغذامي انقلبت على أفكاري، فنقده يثير الدهشة أو يبدأ منها كالفلسفة لكنه ليس مثلها، ويحول قارئه إلى قارئ غير بريء لأنه ينفي البراءة من النصوص التي عدها حاملة فايروسات وتتخبئ خلف البلاغة والمجاز.
إنَّ أفكاره النقدية في مؤلفاته يمكن وصفها بـ( علوها سهل على العصافير) بمعنى لا يرتفع معها الا من أقبل عليها راغباً بتوبيخ ما هو غير إنساني في النص ولفت نظر الثقافة إليه، ولأول مرة كما أظن دث في نقدنا العربي أن يقوم ناقد ويهز عرش البلاغة ويوجه لها تهمة الجمال غير البريء ، فالدكتور الغذامي ينظر بنقده إلى بواطن النص الأدبي ورصد ما يعانيه من كدمات وخدوش وجروح في القيم الإنسانية المخفية في النصوص الكبرى ، فمن كان يظن أن المتنبي شحاذٌ عظيم؟ ومن كان يفكر بأن شاعراً كنزار قباني الذي نشر الحب والورد هو وراث لفحولة أسلافه ـ الفحولة غير الإنسانية ـ وأنه بذات متضخمة وعلى النقاد أن يقفوا موقف المتعبد أمام الفحل الأسطوري. فالنقد الثقافي يجعل الوعي ينتفض من بلله الذي سقته الثقافة العربية على مرّ قرون طويلة، بالمقابل نلحظ أنه لم يوشم بالثقافة الغربية لأنَّ مؤسسه الغذامي لم يشكل نفسه وفقاً للنموذج الغربي، ولم يجعل من نظريته النقدية مرآةً لهم، وهذا تسبب بإشكاليات عدة : وهي أن الباحث أو الناقد يلجأ إلى الكتب المترجمة غير العربية في النقد الثقافي للتعرف على معاييره وطبيعة منهجه، فيجده عاما شاملاً لكل مظاهر الحياة، ومن ثم يقارنه بالنظرية العربية التي وضعها الغذامي فيرى الاختلاف التام، فالأخير يُعنى بالنصوص بدءاً من الشعر ومن ثم السرد والخطابات الثقافية الأخرى، فهو نقد نصوصي يسير وفق أدوات و معايير دقيقة، ولعل الإشكالية الأهم التي وقعت فيها دراسات عديدة وهي الاعتقاد التام بأن كلَّ الشعر صالح للدخول إلى صالة عمليات النقد الثقافي لكن الأمر ليس كذلك، ففي حوار لي مع المفكر الغذامي أشار بقوله: إنَّ النصوص الكبرى ذات البلاغة العالية التي شكلت ظاهرة اجتماعية ثقافية نجد الأنساق الثقافية مختبئة فيها فهي التي تشرّح ثقافيا، وبدليل أنه حلل نماذج من كبار النصوص الشعرية في كتابه ( النقد الثقافي) كمعلقة عمرو بن كلثوم وقصائد جرير والفرزدق والمتنبي وأدونيس ونزار قباني، لكن ما حدث في الدراسات الأكاديمية من خلل منهجي كبير عندما وضعوا كل الشعر في ميزان النقد الثقافي، فهناك شعر إنساني ذاتي يعبّر عن العمق الوجودي لا يمكن نقده ثقافياً، فمحمود درويش مثلاً من الصعب أن نجدَ في شعره أنساقاً ثقافية، لأنَّ البعد الوجودي والإنساني والروحي هو المهمين على شعره:
سأحلمُ لا لأصلحَ أيَّ معنى خارجي
بل كي أُرمّمَ داخلي المهجور من أثر
الجفاف العاطفي، حفظتُ قلبي كلَّه
عن ظهر قلبٍ: لم يعدْ متطفلاً
فأيُّ نسق بهكذا شعر؟
فهذه إحدى أهم الإشكاليات التي يقع فيها الباحثون والدارسون عندما يعتقدون بأن جميع النصوص يمكن دراستها وفق النقد الثقافي، بل لاحظت وقوع أغلب الأكاديميين من ذوي تخصص النقد الحديث بالإشكالية نفسها، ومؤخراً حضرت محاضرة في كلية الآداب الجامعة المستنصرية للشاعر والدكتور فائز الشرع وتفاجأت بأن موضوعها في النقد الثقافي لطلبة الدراسات العليا وضمنها طلبا من طلبته دراسات عن هذا الموضوع فعرض الطالب بحثاً مشتركا لأستاذين كتبا بحثهما في النقد الثقافي عن شاعر عراقي شعره ذاتي و زعما أنه ممتلىء بالأنساق الثقافية والطالب اقتنع بمزاعمهم، وفي نهاية المحاضرة وبعد الشرح المفصّل من قبل د. فائز الشرع لنظرية النقد الثقافي في كتاب الدكتور عبدلله الغذامي قال لطلابه: عليكم الحذر من اختيار الشعر ودراسته وفق منظور النقد الثقافي لا بد أن توفر المعايير التي أشار إليها المفكر الغذامي، فعرف طالبه أين الخلل المنهجي الذي وقع الأستاذان ببحثهما، وقال الدكتور الشرع لطالبه قم بنقد هذه الدراسة وبيّن موطن الخلل، والحقّ أنها ملاحظة مهمة فدراسات النقد الثقافي صارت بحاجة إلى نقد ثقافي آخر .
إنَّ المفكر الدكتور عبدالله الغذامي شكل ـ ومازال ـ ظاهرة ثقافية في عصرنا الحديث فكتبه لم تكرر نفسها ، وأفكاره لم تخجل من عورة الحقيقية، فهو يدهشنا باللغة التي تبسط الأفكار الكبرى كما أنها عصية على التقليد، لذلك لا يُقرأ نقده متقطعاً بل إن يُقرأ متسلسلاً لأنه نقل النقد العربي من النخوبية والإكاديمية إلى الحياة اليومية فصار ملكية عامة وهذه أصعب مهمة في النقد. فتعلّمت منه الأفكار وإثارة تساؤلاتها، وكيف أشرح نفسي وأتصدى للتحديات التي واجهتني والتي ستواجهني وأنا أسير في حقل النقد الملغم. فالدكتور الغذامي مدرسة في الإنسانية والفكر والمعنى.
** **
- موج يوسف