أكتب هذه المقالة، وأنا على يقين أن فعلي هذا ما هو إلا إطلالة على كتاب رائد للنقد الثقافي في وطننا العربي: أ.د عبد الله الغذامي، وأن خفايا الكتاب وزواياه كلها في روحه هو وفي عقله ووجدانه.
إن هذا الكتاب جاء ذروة الشغف والتأمل والخبرة التي تحملها تجربة الدكتور الغذامي النقدية، وخصوصاً فيما يتعلق بالنقد الثقافي، إذ ينطوي في رؤاه على ما يمكن أن نسميه (رحيق التجربة)، كما يمثل هذا الكتاب مراجعة وإضافة ومزيداً من الكشف والإيضاح لكتابه الرائد: النقد الثقافي ، الذي صدرعام : 2000م.
إن مبدأ المراجعة للآراء العلمية هو مبدأ العلماء المخلصين لعلومهم ، والذين يمتلكون ميزة المتابعة والرؤية الثاقبة لمشاريعهم الثقافية والعلمية.وقد عُرف عن بعض علمائنا قديماً هذا الأمر ،ومنهم الإمام الشافعي الذي شُهر بمراجعته لآرائه الفقهية القديمة ،ولذا تشكّل مفهوم: الفقه القديم والفقه الجديد ، عند الحديث عنه.
صحيح أن كتاب الدكتور عبد الله الغذامي لم يتضمن تصحيحاً لآرائه السابقة في كتابه القديم بالمعنى العلمي ، ولكن مجرد الإثراء والإيضاح لما أشكل منه هو مراجعة علمية جادة وإيجابية .ولنفكر بحداثة هذا المنهج نسبياً ، ومغايرته لفلسفة المناهج الأخرى ، وهذا سبب مهم في هذه المراجعة، فضلاً عما يتضمنه فعل المراجعة من تأكيد لريادة الدكتور الغذامي لمنهج النقد الثقافي في عالمنا العربي.
لقد كان عنوان الكتاب : (إشكالات النقد الثقافي: أسئلة في النظرية والتطبيق ) مخاتلاً ، فمضمون الكتاب أكثر ثراء من عنوانه ، وكأني لمحت سمة استطرادية جاحظية بين ثناياه، إذ يتجاوز مجرد عرض ونقاش إشكالات النقد الثقافي ،حيث يتنقل بالقارئ عبر جناحيه بين الفلسفة والسياسة والاجتماع والقيم والأخلاق، والشعر والنثر طبعاً، وكأن ثقافته الواسعة وخبرته الحياتية قد آتت أكلها في هذا السفر الجميل .يظلل هذا غيمة رقيقة تمطر القارئ بالأسئلة، ولا غرو فالعنوان يحمل كلمة (أسئلة) بكل ماتعنيه من حمولة بعيدة عن اليقين ، قريبة من انفتاح الأفق لكل سؤال طارئ.
لقد أعاد د. عبد الله النظر في مصطلحات النقد الثقافي المشكلة والتي تحتاج لمزيد من الإيضاح: الجملة الثقافية، النسق المضمر، المجاز الكلي، التورية الثقافية، الشعرنة ، المؤلف المزدوج. وهذا فعل محمود ومطلوب ،فمن قرأ كتابه الأول يدرك أهمية هذه المراجعة لجدة المصطلحات والتباسها بمصطلحات بلاغية معروفة ،وقد وسع الدكتور النماذج والأمثلة لمزيد من الكشف والتحليل والتفسير والتقريب.
تمكننا شفافية الدكتور عبد الله ووضوحه المنهجي في تحليل شخصيته العلمية فيما يلي:
أ- مدى حرصه على آراء المتلقين لكتبه وآرائه، وأخذها مأخذ الجد والتمعن ، إذ أوضح في المقدمة أن فكرة الكتاب انبثقت أيام كورونا ، حين نشطت الفعاليات الثقافية عن بعد ، فكان أن شارك في لقاءات علمية كثيرة ، حول النقد الثقافي، شهدت حوارات عميقة دفعته لمزيد من البحث والتدقيق في هذه النظرية،لإيضاح المنهجية وزيادة نجاعتها.وأظن أن هذه السمة يحتاجها العلماء جميعاً: التفاعل الجاد مع المتلقين، والإنصات لآرائهم ، وأخذ مايمكن أن يطور مشاريعهم العلمية.
2- يؤكد الدكتور عبد الله الغذامي – في شكل غير مباشر - فلسفة أؤمن بها كثيراً وهي فلسفة التحولات التي يمر بها المبدعون والعلماء ، ما يخلق النقلة المهمة في مشاريعهم الإبداعية والثقافية، حيث يبين تفجر النقد الثقافي عنده بعد تشبعه من النقد الجمالي والفني، حين وجهت له دعوة من اتحاد الأدباء العرب في أبو ظبي للحديث عن الشعر الحداثي في الخليج، حيث وجد أن ذاكرته امتلأت بأعمال نقدية جمالية، حتى لم يعد لديه الجديد، أو ماسماه بالانسداد المعرفي مع المنهجية النقدية بصيغتها المستقرة في النقد الأدبي.فكان أن اختار موضوعاً عن المرأة في الشعر المعاصر ،وكانت بداية تشكل دراسة الأنساق المضمرة،وبداية الانطلاق في النقد الثقافي.
لقد ذكرني هذا المنعطف الذي مر به الدكتور عبد الله بالمنعطفات والتحولات التي مر بها كثير من المبدعين على صعيد رؤاهم الشعرية، أذكر منهم الآن : نازك الملائكة ومحمود درويش، وليس هذا الوقت الملائم لاستعراض حجم هذه التحولات وأثرها في تجربتهما الشعرية، ولكن هذا الفعل يدلل على أن التغير والتحول هو الأساس في تجربة المفكرين والمبدعين، وليس الثبات.
ج- شفّت النماذج والأمثلة التي استعرضها أستاذنا الكبير عن شخصيته المفعمة بقيم الخير والحق والجمال والإنسانية، في استدعاء الفلسفة والتاريخ والسياسة، إذ حاكم أفلاطون، وانتقد ابن خلدون،وأوسع الانتقاد لبعض السياسات الغربية المتناقضة، وهذا يشي بالرحابة التي يملكها النقد الثقافي أيضاً.
وأخيراً ، لقد كان الجزء الأخير في الكتاب كاسراً لأفق تو قعي،حيث كان دراسة عن المكان في الشعر، في مقاربات ممتعة تطبيقية بين المكان الذهني والمكان العيني، وبين الطلل / الوشم ، والطلل / العش ،والمكان / الجسد ، لم تخل من ملامح جمالية، تظهر بخفية وبضبابية مشوقة ، مايجعلني أتساءل هل يعود الدكتور عبد الله الغذامي للنقد الجمالي مرة أخرى؟!.
** **
أ.د دوش بنت فلاح الدوسري - أستاذ الأدب والنقد بجامعة الأميرة نورة بنت عبدالرحمن - جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن