نظرة تأملية في نص «صودرت سبأ» للشاعرة حوراء الهميلي
النص:
صُودرتْ سبأُ !
ما زلتُ رغمَ اتقادِ الحبِّ أنطفئُ
بلقيس في العرشِ تبكي:
صُودرتْ سبأُ !
هل نكَّروا دمعَها مِن لونِ زرقتِه؟!
حتى تراكمَ في شطآنِه الصدأُ
(أهكذا عرشُك) اللجيّ؟!
تحسبه وحي المرايا
لبئرٍ ماؤه ظمأُ
(كأنه هو)
واجترَّتْ خطيئتَها
مِن خطوةٍ غامرتْ
أودى بها الخطأُ
(قيل: ادخلي الصرح)
(قالتْ) -وهْي خائفةٌ-:
أخشى بقلبي ممراتِ الهوى أطأُ
حوراء الهميلي
الرؤى والتأملات:
هذه مقطوعة شعرية، للشاعرة السعودية حوراء الهميلي، والمقطوعة هي ما بين اثنين إلى سبعة أبيات.
من سمات المقطوعات التكثيف والتركيز، وغالبا ما يكون طابعها قصصيا أو حواريا أو وصفيا، والمقطوعة في الشعر تشبه القصة القصيرة في النثر.
جاءت مقطوعة الشاعرة بعنوان «صودرت سبأ»، وعتبة العنوان عبارة عن جملة فعلية مكونة من فعل مبني للمجهول ونائب فاعل، وهذا يفتح مآلات السؤال في ذهن المتلقي، ويحمله على أن يبحث عن تأويلات الإجابة: من الفاعل؟
والجملة الفعلية - كما هو معلوم- تدل على الحدوث والتجدد؛ مما أسبغ على المقطوعة طابع الحركة والحياة – مع قليل من الغموض المحبب -منذ بدايتها.
وما رفع من مؤشر الحيوية والحركة في النص تتابع الأفعال بأزمانها المختلفة، فقد حوت المقطوعة ستة عشر فعلا.
جاءت المقطوعة على بحر البسيط بتفعيلته المزدوجة: مستفعلن فعلن
والبسيط يمتاز بإيقاعه القوي، وتنوعه، وقدرته على التعبير عن مختلف المشاعر والعواطف والأفكار والأغراض الشعرية.
يبدو أن فكرة النص تحدثنا عن المعاناة والفقد والحرمان، فقد صودرت سبأ بلقيس، وأظن أن الشاعرة هنا صودر منها شيء ما، فحُرمتْه، وتأذّت من فقدانه.
السمة الغالبة في بلاغة هذه المقطوعة هي التناص الذي نحت فيه الشاعرة منحى مختلفا، فكثير من الشعراء لا يفلحون إلا في التناص مع سورة يوسف وقصته، رغم الثراء الموجود في القرآن الكريم؛ مما يمكن أن يكون ميدانا واسعا للتناص، فأبدعت الشاعرة بالتناص مع قصة بلقيس الواردة في سورة النمل.
ومن مواطن التناص مع قصة بلقيس في هذه المقطوعة:
هل نكَّروا دمعَها مِن لونِ زرقتِه؟!
(أهكذا عرشُك) اللجيّ؟!
(كأنه هو)
(قيل: ادخلي الصرح)
وكانت الشاعرة ذكية جدا في توظيف التناص؛ حيث تصرفت في بعض العبارات بالحذف أو الإضافة بما يتلاءم مع الوزن، كما في تناصها مع قوله تعالى: « قيل لها ادخلي الصرح» فجعلتها: قيل ادخلي الصرح.
الألفاظ – في هذه المقطوعة- موحية وذات ظلال، وانزياحات ومكتنزة بالمعاني:
صودرت، أنطفئ، أطأ، زرقته، المرايا..
والعبارات معبرة، والتراكيب جزلة، وفيها توظيف بديع للانحرافات اللغوية، ومن ذلك:
«صودرت سبأ»، فهي توحي بالأخذ والسلب والحجب والمنع، وزاد من ثراء اللفظة أن جاءت بالبناء للمجهول.
«اتقاد الحب» توحي بثوران عاطفة الحب واشتعالها ثم المفاجأة بأنها تنطفئ رغم ذلك الاتقاد.
«اجترت خطيئتها» دلالة على تكرار الحدث وإعادته مع القصد والإصرار.
و«نكروا دمعها»
وغير ذلك ..
الصور بديعة، ومعتَنَى بها رغم عفويتها، ومنها:
نكروا لها دمعها
أهكذا عرشك اللجي
واجترت خطيئتها
..
وغيرها
وبرز التضاد بوصفه مكونا أساسيا في النص الشعري بما يحمل من توضيح للمعنى، ومفارقة في الدلالة، ومنه:
ماؤه - عطش/ اتقاد – أنطفئ..
الأساليب متنوعة بين الخبر والإنشاء حسبما يقتضيه السياق، فقد بدأت بالخبر:
ما زلتُ رغمَ اتقادِ الحبِّ أنطفئُ
بلقيس في العرشِ تبكي:
صُودرتْ سبأُ !
ثم انتقلت بسلاسة للإنشاء، والإنشاء الطلبي تحديدا:
ومنه الاستفهام، ومنها:
هل نكروا دمعها؟
أهكذا عرشك؟
وكذلك الأمر في:
قيل ادخلي الصرح..وغير ذلك.
ثم عادت للخبر، وهكذا في تنوع مدهش
تمكنت الشاعرة من التلاعب اللفظي برتب الكلمات في الجمل، من حيث التقديم والتأخير كما في:
أخشى بقلبي ممرات الهوى أطأ
إذ الترتيب الطبيعي للجملة هو:
أخشى أطأ ممرات الهوى بقلبي
وكذلك:
من خطوة غامرت
فقدمت الجار والمجرور
ولا يغيب عن حصافة القارئ ما تقدمه لنا براعة الشاعرة حين قدمت وأخرت؛ رغبة في الاستفادة من جماليات التقديم من تخصيص واهتمام وتشويق..
يمكن تصنيف النص ضمن الشعر القصصي الذي يعد عمر بن أبي ربيعة رائده، فقد أجرت الشاعرة حوارا في النص، والحوار من أهم سمات المقطوعات:
(قيل: ادخلي الصرح)
(قالتْ) -وهْي خائفةٌ-:
أخشى بقلبي ممراتِ الهوى أطأُ
وهذا الأمر يمنح النص حيوية، وقوة جذب بديعة، يستمتع بها المتلقي، وتشد انتباهه.
تكتنز المقطوعة بحقول دلالية ملائمة لفكرة المقطوعة، ومنها الحقول الدلالية للماء: «ماؤه - ظمأ - شطآنه - اللجي- زرقة ...»
كما يلمح المتأمل الاستفاد ة من الجمل الاعتراضية التي تعد من أنواع الإطناب الحسن، وحسن توظيفها بما يتطلبه المعنى، ويحتاجه السياق، ومن ذلك الجملة الاسمية الحالية» وهي خائفة»:
(قالتْ) -وهْي خائفةٌ-:
أخشى بقلبي ممراتِ الهوى أطأُ
وظفت الشاعرة الرمز بمهنية عالية، ومن ذلك رمزية المرايا، فهي من الرمزيات المهمة التي استغلها الشعراء بكثرة؛ لما فيها من دلالات عميقة؛ فهي توحي بما هو غير مألوف، ولا معتاد، وهي رمزية قديمة، ظلت مصدر إلهام، إذ تعكس الحقائق التي تنزاح عنها الحجب، ويُكشَف بها المستور.
تمكنت الشاعرة من توظيف هذا الرمز ببراعة في هذا النص:
(أهكذا عرشُك) اللجيّ؟!
تحسبه وحي المرايا
لبئرٍ ماؤه ظمأُ
أجادت الشاعرة في اختيار الهمزة المطلقة حرف رويّ لمقطوعتها؛ فالهمزة حرف حلقي يتميز بصفتين قويتين هما: الجهر والشدة، وصفتين ضعيفتين هما الاستفال والانفتاح؛ مما جعل النص مراوحا بين اتجاهين من المعاني، ويعبر عن نوعين من الأفكار، ما بين الشاعرة ومَن تخاطب داخل النص، وما بين الشاعرة والمتلقي، فانفتحت التأويلات وتعددت المآلات.
إنْ صودرت سبأ بلقيس، فلن يستطيع أحد أن يصادر عرش الشعر من حوراء الهميلي، فهي شاعرة مجيدة، رصينة الكلمة، قوية العبارة، عميقة الصورة.
قالت الشاعرة في هذه المقطوعة ما لو بُسط، ما وسعته ثلاثون بيتا أو يزيد.
إنه نص عالي التكثيف، بالغ التركيز، حشدت فيه الشاعرة معاني كثيرة في كلمات قليلة، ودلالات عميقة في عبارات محدودة.
نص بديع، متماسك الصياغة، قوي السبك، عميق الصور، رشيق الألفاظ، علا فيه صوت الأنثى، وبرز فيه حضورها بصورة واضحة جدا.
** **
- طارق يسن الطاهر