(إنسان .. وطن .. تراث .. حياة)، حول هذه المفردات نُسجت قصائد ديوان «أبجديات الكون» (2024) الذي قدمته «هيئة الأدب والنشر والترجمة» لليافعين في خطوة تعزز صلة جيل تكاد تنقطع مفردات حياته عن هذا الفن؛ حياة طغت عليها تطبيقات التواصل الاجتماعي بسطحية فكر، وتدني خطاب؛ لذا أوضح الديوان في تعريف على غلافه الأخير أن جوهره ينبع من «فرادة تجربة كل شاعر أو شاعرة شارك فيه تعزيزاً وتشجيعاً وترويجاً لأدب اليافعين،» فقد شارك فيه «خمسة عشر شاعراً وشاعرة سعوديين، ألهمتهم تجربة صوغ الشعر لليافعين، بوصفها خطوة أولى في درب التعرف على العوالم الشعرية، وحافزاً للإبداع واكتشاف جماليات اللغة العربية.» فكان هذا الديوان إضافة نوعية إلى ساحة أدب اليافعين في المملكة والعالم العربي، الذي ما يزال سوق الكتابة فيه بحاجة ماسة لجهد إبداعي جاد، وما يتوفر من إبداع تنقصه الدراسة الناقدة والتتبع المستكشف لسماته وتوجهاته(1).
يقدم الديوان قراءات شعرية متنوعة ومبتكرة تسعى لتلبية تطلعات الشباب وتثير فضولهم. هذه التجربة الرائدة تهدف إلى توسيع آفاق الإبداع الشعري لدى الناشئة، وتشجعهم على استكشاف جماليات اللغة العربية وتراثها الغني، وغرس القيم الإنسانية النبيلة في نفوسهم. ولكن، هل يمكن للشعر أن يكون وسيلة فعالة للتواصل مع فئة اليافعين؟ وكيف بنى كتاب الديوان تصورهم عن القارئ الضمني المتخيل من هذه الفئة؟ يبرز هذان السؤالان عند مطالعة ديوان «أبجديات الكون»، فهذه الفترة من حياتهم، كما أبان قديماً محمد النويهي (ثقافة الناقد الأدبي، 1949)، هي «الفترة التي ينبغي أن يبدأ فيها تعرف الفرد على الأدب .. حيث يبدأ يتعرف الحياة، إذ يبتدئ دبيبها العجيب يغزوه» (ص4). وهي فئة لها ثقلها من حيث العدد، حيث تشير إحصائيات منظمة الصحة العالمية إلى أن ما يقرب من سدس سكان العالم تتراوح أعمارهم بين العاشرة والتاسعة عشر، ومن حيث الأهمية فهم عدة المستقبل. لكن قبل استعراض مفصل للديوان، يلزمنا وقفة مبدئية نُعرف بها أدب اليافعين، وهل بالفعل هذا الديوان يمكن تصنيفه ضمن هذا الصنف الأدبي؟
أدب اليافعين: النشأة والخصوصية
يعد نشر الكاتبة الأمريكية إس. إي هينتون لرواية «الدخلاء» (1967) بمثابة ميلاد فرع من الأدب اصطلح على تسميته «أدب اليافعين» (Young Adult Literature). ومنذ ذلك الحين ظل هذا النوع الأدبي يكتسب انتشاراً وقبولاً حتى احتل مكانه بين الأنواع الأدبية في نهاية القرن العشرين، وما يزال يعزز من مكانته. وليس أدل على تلك المكانة من الجوائز العديدة المخصصة لهذا النوع والتي تقدمها عدة منظمات ودور نشر لها ثقلها في الساحة الفكرية، في الغرب(2)، وبعضها في العالم العربي (3). ومع هذا ما يزال الجدل سائداً حول أهلية هذا الفرع الأدبي أن يسمى نوعاً بحد ذاته، حيث يعتبره البعض امتداداً لأدب الأطفال، بينما يعتبره آخرون مجرد تصنيف في مبيعات الكتب.
فاليافع إنسان يمر بمرحلة حرجة في تطوره الجسدي والنفسي والعقلي؛ مرحلة تتميز بتسارع النضج والتحولات وتغير علاقات السلطة من الضعف والتبعية التي تميز فترة الطفولة إلى مزيد من الاستقلالية.
يتميز أدب اليافعين بما يطلق عليه علماء الأنثروبولوجيا «الحدية» أو «العتبية» (liminality)؛ وهو مصطلح يستخدم في دراساتهم للتعبير عن المرحلة الوسطى في مظاهر الانتقال (ما يسمى بشعائر الانتقال) من مرحلة أو وضع اجتماعي إلى آخر، ويطلق عليهم في الثقافة العربية عد مسميات منها: مراهقون، وفتية، وناشئة، ويافعون. وهي فترة لا ينتمي فيها الفرد إلى وضعه السابق، لكنه -في الوقت ذاته – لم يكتسب الوضع الجديد ويستقر فيه، مما يشكل غموضاً في إدراكهم لهويتهم وأدوارهم. وقد اكتسب أدب اليافعين هذه الخاصية الحدية أو العتبية من طبيعة حياة اليافعين، فهو أدبٌ يراوح مكانه ما بين أدب الأطفال وأدب الكبار، مثل ما تراوح شخوصه بين الطفولة والنضج. فكان هذا النوع الأدبي -إن جاز لنا اعتباره نوعاً- تعبيراً عن هذا الصقل لشخصية اليافع معبراً -في أغلبه-عن تجارب تَشكل شخصية اليافع معتبرا هذه الفترة بوتقة الصهر لشخصية اليافع وتقديمه للمجتمع ناضجاً بما يكفي لحياة الكبار.
نظرة عامة على الديوان
تُشكّل هذه المجموعة الشعرية نافذةً واسعةً تطل على عمق التجربة الإنسانية، حيث تتجسد اهتمامات الشعراء المشاركين فيها بمجموعة متنوعة من القضايا الإنسانية والاجتماعية والثقافية التي يرون أنها تشغب الشباب اليافعين. يبرز في هذه القصائد اهتمامٌ بالماضي والتراث، حيث يرتبط الشاب بالأرض والتاريخ من خلال رموزٍ متكررة كالنخلة والأجداد والوطن. ويتجسد هذا الارتباط في حنينٍ عميقٍ للماضي، يظهر جلياً في قصائد تتناول مواضيع السفر والغربة والطفولة.
كما يسعى الشاب إلى استكشاف ذاته وهويته، ويبحث عن معنى لوجوده في هذا العالم، مطلقاً أسئلة وجودية حول الحياة والموت. كما يعكس مضمونها تفاؤلاً ملحوظاً بالمستقبل، حيث يتطلعون إلى تحقيق أحلامهم وتغيير واقعهم. ويركزون على أهمية الإيمان بالنفس والقوة الداخلية في مواجهة التحديات والصعاب. كما يؤكدون أهمية العمل الجاد والاجتهاد لتحقيق النجاح والسعادة. ويظهر ارتباطٌ وثيقٌ بين الإنسان والطبيعة في هذه القصائد، حيث يُستلهم جمال الطبيعة، ويرون فيها مصدر إلهامٍ وعزاء. كما يتناولون العلاقات الإنسانية، مع التركيز على قيم العطاء، والتضحية، والوحدة، والتكاتف. وللثقافة دور محوري في هذه القصائد، حيث تؤكد أهميتها في بناء المجتمع وتطوره، ويشدد الشعراء على ضرورة الحفاظ على التراث والقيم الأصيلة، مؤكدين على أهمية التراث في صياغة الهوية الوطنية. ويعبرون عن إدراكهم لسرعة الزمن وتغير الأحوال، ويؤكدون أهمية التكيف مع التغيير والتطور.
القارئ الضمني للديوان
يُشغل قارئ الديوان نفسه بالتفكير في التصور الذي يكنه شعراؤه عن القارئ الذي سيتلقى ما كتبوه. القارئ الضمني ليس شخصًا حقيقيًا، بل هو شخصية افتراضية تبنى داخل النص الأدبي تتمتع بالقدرات المعرفية والثقافية اللازمة لفهم النص واستيعابه، ويتمثل دوره في توجيه عملية القراءة، وتحديد المعاني الممكنة للنص. فهو بمثابة شريك خفي للمؤلف، يساعده على بناء العالم التخيلي للنص. يقدم ديوان «أبجديات الكون» نموذجًا واضحًا لكيفية بناء علاقة بين الشاعر وقارئه من خلال تحديد شخصية القارئ الضمني. هذا القارئ ليس مجرد مستقبل للمعرفة، بل هو شريك في التجربة الشعرية يساهم في خلق عالم شعري غني ومتنوع.
وكان لهذا التصور للقارئ الضمني للنص أثره في لغة النص وبنيته ومواضيعه. فاللغة المستخدمة في القصائد تعكس مستوى الثقافة والمعرفة المفترض لدى القارئ، وحرص الديوان على تقديم تعريف مبسط للكلمات التي ربما تكون خارج قاموس مفردات هذا الجيل. لكن النصوص استخدمت رموزاً واستعارات مرتبطة بالتراث والطبيعة والإنسان؛ مما يشير إلى أن الشعراء يتوقعون من القارئ أن يفهم هذه الرموز ويستمتع بجمالها. أما المواضيع المطروحة فهي قضايا، وجودية، واجتماعية، وثقافية.
يمكننا استنتاج أن القارئ الضمني الذي يتصوره شعراء هذا الديوان هو قارئ يقدر التراث والقيم الأصيلة، ويفهم أهمية الارتباط بالأرض والتاريخ في تشكيل الهوية؛ قارئ يبحث عن المعنى، ويسعى لفهم معنى الحياة والموت، ويطرح أسئلة وجودية؛ قارئ متفائل ويرى في المستقبل آفاقًا واعدة؛ قارئ يقدر جمال الطبيعة، ويرى فيها مصدر إلهام وعزاء؛ قارئ مهتم بالعلاقات الإنسانية، ويهتم بالقيم الإنسانية مثل العطاء والتضحية والوحدة؛ قارئ مثقف يقدر دور الثقافة في بناء المجتمع، ويفهم أهمية الحفاظ على التراث؛ قارئ واعٍ يدرك سرعة الزمن وتغير الأحوال، ويستعد للتكيف مع التغيير. وبهذا يمكن استعراض قصائد الديوان وفق سمات ثلاثة خاطبها الشعراء في قرائهم: الشاب الباحث عن مغزى الحياة وقيمة الوجود، الشاب المتصل بالأرض ومقومات الحياة، والشاب المستشعر قيمة الإنسانية.
باحثٌ عن مغزى الحياة وقيمة الوجود
في خضم رحلة الحياة، يتوق الشاب إلى فهم مغزى وجوده وتحديد مساره. تلتقط قصائد ديواننا هذا همسات الشاب وهمومه وطموحاته، حيث يتجول بين أحلام اليقظة وتساؤلات الوجود. يبحث عن إجابات شافية لسؤال الزمن ومعناه، ويسعى إلى تحقيق ذاته في عالم متسارع التغيرات. تبدأ الرحلة الشعرية بانطلاق الشاب نحو آفاق جديدة، حاملاً معه أحلاماً وطموحات عريضة. ثم يتحول مساره إلى طريق مليء بالتساؤلات، حيث يبحث عن معنى الحياة وهدفها.
يواجه تحديات الزمن وسرعة تغيره، ويسعى إلى إيجاد مكانته في العالم.
في قصيدة «أفكاري» للشاعر أحمد المنعي، يظهر صوت الشاب الذي يعبر عن رغبته في التحرر من القيود والروتين من خلال حديثه عن أحلامه وطموحاته. يتأمل في مستقبله ويعيش حلمه، حيث يعبّر عن ذلك بقوله: (أفكر في غدي وأعيش حُلْمِي/ وأفرد في خيالاتي جناحي). القارئ يحمل طموحاً كبيراً لتحقيق شيء مميز في حياته، ويسعى بإصرار لتحقيق أهدافه، كما يتضح من قوله: (وأحمل في يدي الإصرار درعاً/ ومن ثقتي وإيماني سلاحي).
في الأبيات الأخيرة، يبرز الشاعر التحديات التي يواجهها القارئ في سعيه لتحقيق أحلامه، إذ يؤكد أن الإصرار والعزيمة هما السبيل للنجاح، حيث يتساءل: (فما مَعْنَى الْأَمَانِي دُوْنَ سَعْيٍ/ وما مَعْنَى الحَيَاةِ بلا كِفَاحٍ). تتحول هذه النظرة التفاؤلية في قصيدة «أسئلة» للشاعرة حوراء الهميلي إلى تعبير عن القلق، حيث يبرز حيرة القارئ أمام التساؤلات العميقة حول الحياة ومعناها. تطرح القصيدة تساؤلاً عن معنى الحياة، وتعكس تردد القارئ في فهم وجوده في العالم، متقمصةً صوت نخلة تتساءل عن مغزى وجودها: (لقامتي القصيرة أن تطولا/ كأي فسيلة تهوى النخيلا// حسِبْتُ الأَرْضَ أَمَّا أَنْجَبَت ْني/ كبرت ولم أزل طفلاً خَجُولا).
تتعمق الأسئلة لتستكشف طبيعة الوجود والحياة والموت، وتتساءل عن أسباب المعاناة والألم: (سألت الكوكب الدري ماذا يَضُرُّ/ إذا توقفنا قليلا؟). وتختتم بالتعبير عن شعور الوحدة والضياع، متسائلةً عن دور الإنسان في هذا الكون: (سأسبح في فضاء تساؤلاتي/ وأحمل في حقائبي الفصولات).
تدور الأسئلة في قصيدة «عقارب الساعة» للشاعر شتيوي الغيثي حول مفهوم الزمن وحركة الحياة وسرعة مرورها. تبرز القصيدة مدى سرعة مرور الأيام والشهور دون أن ندرك ذلك، حيث تشبه الحياة عقارب الساعة التي تستمر في الدوران بلا انقطاع، والزمن لا ينتظر أحداً: (يرقص الوقت في دمي/ والثواني مجلجلة). يربط الشاعر بين الزمن والكتابة، حيث تبدو الكلمات كأنها توثق مرور الوقت وتطرح تساؤلات وجودية: (بين دقات أحرفي/ يكتب العُمر أسئلة).
كل ساعة تمر تمثل سنبلة جديدة تنمو وتكبر: (ساعة بعد ساعة/ يزرع الوقت سنبلة). وينهي الشاعر بحكمة عميقة تتعلق بسرعة الزمن وأهمية اللحظة: (ما تراه سوى الندى/ حينما الصُّبْحُ بَلَّلَهُ).
وتظهر في قصائد أخرى من الديوان بعض الإجابات التي يسعى القارئ إلى اكتشافها، وتبرزها قصيدة «رموز الإبداع» للشاعر إبراهيم حلوش، حيث تركز على طموح الشباب ودورهم في بناء وتطوير المجتمع: (أنتم للإبداع رموز/ ولِكُلِّ سمو عنوان). الشباب هم رموز الإبداع، وكل إنجاز رفيع له مكانته المتميزة، مما يجعل الأرض تتغنى بتميزهم، وتزهر الأوطان بفضلهم: (طربت لتميزكُمْ أرض/ واخضرت بكم الأوطان). وتحددها أكثر قصيدة «التدوين: رحلة الخلود» للشاعر إبراهيم الوافي مقدمةً جانب آخر يتعلق برؤية القارئ الذي يسعى للحفاظ على التراث ونقل المعرفة عبر الأجيال، مما يساهم في استمرارية الذاكرة الجماعية. فهي تعبر عن أهمية التدوين كوسيلة للتغلب على الزمن والموت، حيث تبقى الكلمات حية حتى بعد غياب كاتبها: (سنرسمُ حَرْفْنَا أَثَرًا/ ونُدْرِكُ مَجْدَنَا صُوَرا// ونَجْمعُ مِنْ مَآثِرِنا/ حروفاً أينعت سيرا). فالتدوين يُخلد الحضارات ويجمع اللحظات، حيث إن حياة الإنسان تُسجل من خلال خطواته: (هو التَّدْوِينُ خَلَّدَنَا/ حضارَاتٍ وَمُدَّخَرَا// حياة المرء خطوات/ ندون وقعها أثرا).
تعبّر قصيدة «أغنية المسافر» للشاعر حسن الرُبيح عن انطلاق القارئ الشاب في استكشاف العالم، مع تشبيه حركته بطائرات البجع التي تحلق في البحار، دون أن تفارق موطنها: (أطُوفُ الأَقاصي بلاداً بلادا/ وَأُنزِلُ أَرضاً، وَأَحْمِلُ زَادا). فهو يعبّر عن رحلاته إلى بلدان جديدة تضيف إلى تجربته ومعرفته، مما يثري حياته بالتجارب الجديدة: (وَفي كُلِّ أَرْضِ، وَمِن كُلِّ سَفْرَةً / أُضِيفُ لنَفْسِي، حَيَاةً، وَخِبْرَةً). ومع ذلك، يظل الوطن هو الملاذ الآمن الذي يعود إليه، حيث يذكّر نفسه بأنه يمتلك مكانًا يعود إليه كلما شعر بالحنين: (ولي مَوطِنٌ مِثْلُكُمْ، وَمَكَانَ/ أعودُ إِلَيْهِ، إِذَا الشَّوقُ حَانْ). وتأخذ هذه الرحلة شكلاً آخر بين دفات الكتب، فتطرح قصيدة «الثقافة» للشاعر حسن القرني الثقافة ملاذ للشاب الذي يفتقر إلى الاتجاه. فهي تميز الفرد عن الآخرين، تُشعل العقول وتفتح الأذهان، وتمكن الإنسان من فهم محيطه والتفاعل معه. يتمثل شعور السعادة والراحة حين يحمل الشخص كتاباً بين يديه، حيث يُغذي روحه وعقله: (إني أحب يدي إذا ما كان في كفي كتاب/ أجري كما تجري الجداول حين يمطرها السحاب). العلم هو النور الذي ينير الطريق، ويخرج المجتمع من الظلام: (لي من يقول اقرأ لتخدم موطناً وتشيد صرحا/ بالعلم لا بسواه تجلي ليلة ونجيء صبحا).
متصلٌ بالأرض ومقومات الحياة
يطوف الديوان بقارئه اليافع بين أرجاء الكون بأبجدياته (النخلة، والشجرة، والبحر، والنجمة)، ليسطر له معانٍي تعبر عن صلته بتلك المفردات وما تمثله من قيم حاضرة، وماضية، ومستقبلة.
تجسد قصيدة «النخلة» للشاعر جاسم الصحيح العلاقة العميقة التي تربط الشاب بأرضه وتراثه. تبرز النخلة رمزاً يحمل معاني ودلالات عميقة، فهي تجسد السمو: (حلقت صاعدة عبر الفضاء/ مثلما يصعد لله الدعاء). تمثل النخلة أيضاً الكرامة والعزة، حيث يصفها الشاعر بأنها «سندنا» و»مجدنا» و»رمزنا»، وجذورها تمتد في عمق الأرض: (وجُذُورٍ ثبتت في أصله/ تلهم الإنسان معنى الانتماء). هذا الانتماء متبادل، فهي تمنح الحياة والرزق، ويصفها بأنها «ظلنا» و»ماءنا» و»قوتنا» عبر العصور: (هي في تاريخنا رمز الندى/ وهي في الحاضر عنوان السخاء).
في الأبيات الأخيرة، ترتقي النخلة إلى رمزية دينية وثقافية، حيث ترتبط بالدين والتراث، فهي «بركة» و»نعمة» من الله، لتأكيد خلودها وعطائها المستمر في الحياة: (ستبقين خالدة في الحياة/ ويبقى عطاؤك طول الدهر).
معانٍ مماثلة تتعلق بالحياة والإنسان والعطاء في قصيدة «الشجرة» للشاعر فايز ذياب. يقف الشاب مشدوهاً أمام الشجرة رمز الحياة والاستمرار: (تباهي وجُري ذيول الثمر/ ومدي على الأرض ظل الخفر)، فهي تشبه الإنسان، كلاهما يمنح العطاء ويواجه تحديات الحياة؛ فالحياة مليئة بالتحديات والصعاب، ولكن علينا أن نكون صابرين وقادرين على مواجهتها: (وكنت على الدهر رمز العطاء /ونبع الجمال بشتى الصور، منحت الأنام صنوف الثمار/ ولم تَأْبَهِي بِانْهِمارِ الحَجَر). وتظهر علاقة أخرى فريدة بين الإنسان والطبيعة، خصوصًا العلاقة الروحية التي تربط الإنسان بالبحر، في قصيدة «البحر: نافذة أخرى» للشاعر محمد إبراهيم يعقوب، يصور فيها الشاب مستكشفاً أعماق النفس البشرية في صورة البحر نافذة على الذات، فالبحر أكثر من مجرد مكان، فهو يمثل مدخلاً إلى أعماق الروح: (هل تتعب الروح؟ من حدس إلى حدس/ البحر نافذة أخرى إلى نَفْسِي). كما يشكل ملاذًا آمنًا يلجأ إليه عندما يشعر بالحيرة والضياع: (قرأت في ملحه شكاً وأغنية/ لم ترو بعد، ولم أظمأ إلى الكأس).
يدرك الشاب قيمة البحر في حياته، وكيف يمنحه إجابات عن أسئلته، ويعلمه الكثير عن الحياة والإنسان: (البحر علمني الإنسان ما غده؟!/ إن لم يضئ شمعة في واقع البؤس، كبرت والبحر أوهاماً أجربها/ وعدت منه شديد الضوء والحس). وتصعد قصيدة «حكاية نجمة» للشاعرة مشاعل العبد الله بأفق الشاب إلى علياء السماء حيث النجوم وحيرة الشاب أمام جمالها وسر وجودها: (هنالك في البعيد نرى نجوماً/ لها لغز يحيرنا كثيرا)، فالنجم في لمعانه وأفوله يجسد الحب والحنين، والفقد والأمل. يجسد النجم تطلع الشاب وتوقه نحو العلو والسمو فنجو الأرض تحت سمائه تبز نجوم الفضاء: (أحب سماءنا وأرى نجوماً/ لأصبح مثلها نجماً منيرا، وأصبح كالثريا في الأعالي/ وأصبح دائماً شيئاً كبيرا).
مستشعرٌ قيمه الإنسانية
لا يقتصر الديوان على أن يكون مرآة عاكسة لذات الشاب، بل يتجاوز ذلك ليغوص في هموم المجتمع وتطلعاته، فيصوّر لنا جوانب الحياة المختلفة: نجد التطلع إلى المستقبل، والتقدير للأجيال السابقة، والاعتزاز بالوطن، والحث على التكاتف والتعاون. ترسخ قصيدة «وحدة الوطن»، للشاعر طارق الصميلي جذور الانتماء الوطني في أعماق القلوب، داعيًا الشباب إلى التمسك بتوحيد الكلمة ونشر المحبة بين أبناء الوطن الواحد. يصف الوطن بأنه الحضن الدافئ الذي يشعر فيه الإنسان بالأمان والانتماء: (أيا مستقبل الوطن/ أشيعُوا الحب في المُدنِ). ويشبه أبناء الوطن بالإخوة المتآلفين: (أخوك على امتداد الأرض/ مثل أخيك في السكن)، حيث يسري في عروقهم نبض واحد وروح واحدة: (بلاد شعبها يسري/ بها كالروح في البدن). وفي دعوة صادقة، يحث الشاعر على تجاوز الخلافات والعمل سوياً من أجل بناء وطن قوي ومتماسك، (تجاوزنا مناطقنا/ لنبلُغ وحدة الوطن).
في رحاب قصيدة «الجدية» لجاسم عساكر، نجد شاباً طموحاً يتوق إلى الحياة، يحمل في قلبه أمانٍ سامية، ويتطلع لأن يترك بصمة واضحة في هذا العالم. يرى الحياة ساحة للتحدي والإنجاز، فلا يرضى بالكسل ولا بالتراخي، بل يسعى جاهداً لتحقيق أحلامه: (أتيت للحياة بالأماني/ أريد للحياة أن تراني). إنه الباني الذي يرنو إلى العلاء: (أبني لكم شواهق الصروح/ ولا يفر من يدي طموحي). أما في قصيدة «العطاء» لسُلطان الضيط، فنجد الشعر يرتقي بنا إلى آفاق أسمى، حيث يصور الحياة رحلة عطاء لا تنتهي. يرى أن قيمة الإنسان تكمن في قدرته على البذل والتضحية: (لا شيء أنقى على الأرواح واللغة/ ولا لدي بكفي كان أو شَفَتِي // من العطاء)، مؤكداً أن العطاء هو أساس بناء المجتمعات: (البذل في الكون ميزان يوازنه/ به الحياة على آفاقها استوت). ويشدد الشاعر على أن الحب الحقيقي لا يكتمل إلا بالعطاء: (ما الحب دون عطاء في الحياة سوى/ أشجار بَر جفاها الماء فانتهت)، ويرى أن الحياة تفقد معناها وجمالها بدون العطاء: (وما الحياة؟ وما الإنسان؟ في زمن/ بلا عطاء.. سوى روح مشوهة).
ترسم قصيدة «كبارنا»، للشاعر خليف الغالب لوحة بديعة تتجسد فيها قيمة الأجداد وكبار السن. بلغة شاعرية رقيقة، يصفهم بأنهم «الفضاء والنجوم» التي نستمد منها النور والإلهام، وهم «الأيقونة والفنار» الذي يرشدنا في دروب الحياة: (كانوا لنا الفضاء والنجوم/ كنا لهم أيقونة الفنار). يطوف بالشاب في رحلة استرجاعية إلى الماضي، حيث يرى في كبار السن «بداية الطريق» التي سلكناها، وهم الذين «ذللوا وعورة المسار» وساهموا في تشكيل شخصياتنا: (رأوا بنا بداية الطريق/ وذللوا وعورة المسار). ويرتقي إلى قمة الإجلال والتقدير، معبراً عن حبه لكبار السن بقوله: «نحبهم وهم لنا السماء/ نجلهم وهم لنا المدار».
وهكذا جاء ديوان «أبجديات الكون» إضافة بارزة في حقل أدب اليافعين في العالم العربي، حيث يعكس بعمق قضايا وآمال جيل يتوق لاستكشاف هويته في زمن يتسم بالتغير المتسارع. إنه نداء لبناء جيل متعلم وواعٍ بقضايا وطنه، وقادر على التصدي لتحديات المستقبل. ومع ذلك، يبقى السؤال قائماً: كيف يمكننا استثمار هذا الإنجاز الفريد؟
نحن في حاجة ماسة إلى مزيد من المنصات التي تقدم أعمالاً إبداعية تستهدف القراء اليافعين، وتعزز ثقافة القراءة بين الأجيال الجديدة، بالإضافة إلى تطوير أدوات نقدية مبتكرة لتقييم أدب اليافعين وتحديد معاييره. بمثل هذه المبادرات، يمكننا ضمان استدامة هذا الإنتاج الأدبي الغني والمساهمة في تشكيل مجتمع أكثر إبداعاً ووعياً.
هوامش
1) قدمت مجلة القافلة ملفاً عن أدب اليافعين تناول نشأته وتطوره عالمياً، ووضعه في الوطن العربي (عدد 703، مارس-إبريل: 2024).
2) على سبيل المثال لا الحصر: في الولايات المتحدة الأمريكية، الجائزة الوطنية للكتاب لأدب اليافعين (The National Book Award for Young People»s Literature) التي تقدم من مؤسسة الكتاب الوطني منذ عام 1996م. وجائزة أميليا إليزابيث والدن (The Amelia Elizabeth Walden Award) التي تقدم من تجمع أدب المراهقين التابع للمجلس الوطني لمعلمي اللغة الإنجليزية منذ عام 2008م. وجائزة مارجريت أي إدوارد (Margaret A. Edwards Award) التي تقدم من اتحاد خدمات مكتبات اليافعين ودورية المكتبات المدرسية منذ 1988م. وفي بريطانيا، جائزة الجارديان لروايات الأطفال (The Guardian Children»s Fiction Prize) التي تقدم من صحيفة الجارديان منذ عام 1956م. وفي كندا، جائزة الكتاب الكندي لأدب اليافعين (The Young Adult Canadian Book Award) التي تقدم من اتحاد المكتبات الكندي منذ عام 1980م.
3) رغم وجود العديد من الجوائز الأدبية المرموقة في العالم العربي والتي تتجاوز الخمس والعشرين، إلا أن الجوائز المخصصة حصراً لأدب الأطفال واليافعين قليلة. وتقتصر الجوائز المتخصصة على جائزة «اتصالات» التي بدأت عام 2009، و»مانجا العربية» في 2022، و»حَزَاوِي» في2021. كما تشمل جوائز أخرى مثل الشارقة، وزايد، وساويرس، وكتارا فروعًا للأطفال واليافعين (مجلة القافلة، عدد 703، مارس-إبريل: 2024).
** **
د.عبد الفتاح محمد عادل - أكاديمي مصري.. جامعة بيشة