الأدب مثل وجبة يتناولها القارئ الذي يسعى لسد جوع روحه وعقله النهمين، والأديب مثل طباخ ماهر يسعى لتقديم وجبته من أجود الأنواع في أجمل الأوعية، ولست أشك في حرصه على تقديم وجبته طازجة، حتى لكأننا نرى بخارًا يتفلت منها، ورائحة تخترق خلايانا.
لست أدري.. لماذا أستدعي هذا التشبيه كلما انتهيت من عمل (دسم) مشبع، له نكهته الخاصة ورائحته المميزة.
والأديب الماهر كصانع الحلي الذهبية، تراه منكفئًا على طاولته يحيل قطعة من الذهب الخالص إلى حلي ومشغولات لا نملك إذ نراها إلا إبداء الإعجاب، وربما عجزنا عن التعبير عن مشاعرنا فلا يكون منا إلا أن نفتح العيون عن آخرها ونفغر الأفواه في صمت تام، ثم لا نجد إلا أن نتساءل: كيف صنع كل هذا؟
والأدب قريب الشبه من ذلك، فالأديب إذ يقدم وجبته يسعى لعمل خلطة سحرية من قطعة الذهب الخالص (الحكاية)، ليصيغ منها عملًا إبداعيًا كيفما كان تصنيفه، ثم هو يختار وعاءه بعناية فائقة. وهم- أي الأدباء - في هذه الحالة يختلفون في أوعيتهم، فمنهم من يقدم لنا الحكاية في وعاء ذهبي، ومنهم من يأتي وعاؤه فضيًا، وآخرون يأتون بأوعية من الألومنيوم الذي قد يجعل قارئه غير قادر على تذوق وجبته، وربما غير قادر على الاقتراب منها ابتداء.
وخلطة الكاتب السحرية، هي مزيج من الحكاية والمعاني والدلالات، والتقنيات التي يتكئ عليها من أجل إنضاج وجبته، ومن ثم تقديمها طازجة لقارئه، وهو إذ يدخل مطبخه (مكتبه) يعد لنا هذه الوجبة، يحاول أن تكون المقادير بنسب دقيقة، بحيث لا تطغى إحداها على الأخرى، ثم يقدم ذلك في وعاء يحرص كل الحرص أن يكون ذهبيًا، فإن لم يستطع جاء الوعاء فضيًا، فإن أعجزته الأوعية جاء وعاؤه من الألومنيوم الذي تعافه الأذواق، وأقصد بالوعاء هنا (اللغة)؛ ألم يقل الفلاسفة قديمًا اللغة وعاء الفكر؟!
جريمة دبي نموذجًا:
لا شك أن لكل عمل أدبي قضية يسعى الكاتب لمناقشتها مع قرائه، فكيف يناقش الأديب قضيته؟ هذا هو السؤال الأهم في الفن.
ومن إجابة هذا السؤال يتخلق العمل الأدبي، إذن فالسؤال الأهم في الأدب هو: كيف؟
كيف كتب الكاتب عمله؟ كيف عرض قضيته؟ كيف فند حيثياتها؟ كيف طرح أسئلتها؟ كيف أجاب عنها؟ كيف دافع عن رؤيته؟ كيف اختار وعاءه؟ كيف كان نوع وعائه؟ كيف أسهب وكيف كثف؟ كيف صور وكيف قرر؟ كيف بدأ وكيف انتهى؟
قلت منذ قليل إنه بالإجابة عن كل سؤال من هذه الأسئلة، يتخلق العمل الفني، فالقارئ إذ يضع هذه الاستفهامات في عقله ساعيًا للإجابة عنها، يجد نفسه غارقًا في بحر من لذة ومتعة لا تدانيها متعة.
وفي رواية «جريمة دبي» تتبلور القضية ويبرز السؤال: ماذا لو قتل شخص ما قاتلًا روع الناس وأزهق أرواحهم؟
هل من العدل محاكمة شخص خلصنا من قاتل؟ هل من العدل أن نقتص ممن أراح الناس من شره؟
ربما كانت هذه القضية هي التي سعى الكاتب لعرضها، وربما كان هذا هو السؤال الذي طرحه الكاتب على نفسه قبل طرحه على قارئه، وهنا يقفز على الشفاة سؤال كيف؟
كيف طرح القضية والسؤال؟ وكيف عرض القضية؟ وكيف أدان القاتل؟ وكيف برأ من قتل القاتل؟
ربما كانت هذه هي القضية الرئيسة في هذا العمل، بيد أننا سرعان ما نكتشف قضايا فرعية كثيرة خرجت من رحم القضية الأم.
هذا هو موضوع الرواية في -تلخيص مخل- امرأة تقتل رجلًا عاث في العمارة فسادًا، رجل نهم وشره الرغبة في النساء، لم يتورع عن الإيقاع بهن حتى لو كانت إحداهن زوجة زميله في العمل، جعل من شقته وكرًا لهذا الأمر، وجهز غرفته بأدوات الفضيحة حتى تكون نتائجها سيفًا مسلطًا على رقبة الضحية، فما كان من رودينا إلا أن قتلته انتقامًا منه ردًا لكرامة كل بنات جنسها، ومنذ غرزت السكين في صدره ونحن نبحث مع الضابط (راشد) عن القاتل، فجاءت الرواية التي تقع في ثلاث مئة وأربعين صفحة بحثًا عن الجاني، لكنه البحث الفني، المغلف بالتشويق، الذي جعلنا جزءًا من هذه الدائرة التي كانت تارة تضيق وأخرى تتسع.
والسؤال الفني هو: كيف نقل الكاتب إلينا هذا العالم؟
أولًا: التشويق:
من السطر الأول، أدخلنا في لحظة الاضطراب ورسم لنا مشهد الخوف، كأنه أراد للقلوب أن تضطرب معه، كأنه أراد للعقول أن تنتبه، ثم لم يدع لنا فرصة لالتقاط الأنفاس، يقدم لنا الشخصيات واحدة تلو أخرى في عرض يجعلنا نوقن إنها القاتلة، ثم ما نلبث أن ننتقل إلى شخصية أخرى فتحدثنا أنفسنا إنها القاتلة أو إنه القاتل، وهذا لعمري من أصول صنعة الأدب الرئيسة: التشويق، وعدم المباشرة والوضوح.
عرف كيف يجعلنا نتعلق ونتطلع انتظارًا للإجابة عن سؤال: من القاتل؟
ثانيًا: التصوير:
الكاتب الحق كرسام لوحات أو كمصور فوتوغرافي، يعرف كيف يلتقط الصورة، أو يعرف كيف يرسم لوحاته، وما السرد الفني إلا نوع من التصوير الحي.
متعة القراءة تتجلى في إتاحة الفرصة للقارئ أن يرى كاتبه وهو يرسم له المشاهد، أن يمنحه منظارًا متعدد الأب عاد بحيث إذا وضعه -أي القارئ- أمام عينيه، شاهد وعاين وعايش كأنه في قلب الحدث، وهذا ما أجاده الكاتب، في صبر وتؤدة يحسد عليهما، صور لنا الأحداث كأنها تقع الآن، جعل الأبصار معلقة بكل مشهد، يرصد الحركة، وينقل الصورة ويجسد الانفعال، ويلون صفحات الوجوه بالسعادة والبشر تارة، وبالحزن والخوف تارة أخرى.
ولتجسيد المشاهد المرسومة بقلم الكاتب متعة لا تدانيها متعة، انظر معي إلى هذا المشهد:
في ص 62: وهو يصور لحظة احتفال سامح وسهام بعيد ميلاد سهام، وكيف وصف المشهد ببراعة شديدة وتكثيف أشد.
يتعلق بالرسم والتصوير: رسم الشخصيات وتصوير انفعالاتها، ونحن إذ نتحدث عن الشخصية في الرواية، فإننا نتحدث عن ركن ركين فيها، فالشخصيات هي حجر الزاوية في الرواية بصفة خاصة، ولذا يكون الكاتب في تحد كبير، وهو يوازن في وجبته الإبداعية بين سرد الأحداث ورسم الشخصيات. هو في تحد كبير لأنه يسعى أن يجسد الشخصية بحيث يتيح للقارئ أن يتماس معها ويعرفها عن قرب. انظر معي كيف عالج الكاتب رسم الشخصية في روايته، انظر إلى وصفه الخارجي لشخصية فاتن المندوبة الجديدة وهي تقف تحدث زميلها جوزيف ص 48.
وما نسوقه الآن ليس إلا نموذجًا لما صار عليه الكاتب في روايته من براعة التصوير.
وليس ببعيد عن ذلك أن نتحدث عن تصويره للشخصية من الداخل، حال انفعالها وحديثها الداخلي، انظر معي الفقرة الأخيرة من ص 115 على سبيل المثال، حيث غاص الكاتب في أعماق ميسون ورودينا في مشهد واحد.
ثم في ص 117 نراه ينقل لنا كيف تفكر المرأة عندما يخونها الرجل.
وعلى ذلك، سار الكاتب بخفة ورشاقة واصفًا شخصياته متغلغلًا في أعماقها، ناقلًا إلينا ما يعتمل داخلها.
وجدير بالذكر أن شخصيات الرواية ليست من الكثرة بحيث ننساها أو نخلط بينهم، وهذا أيضًا يعد نجاحًا كبيرًا، إذ استولد من هذه الشخصيات على قلتها أحداثا كبيرة وكثيرة في آن.
الراوي العليم:
حسنًا فعل الكاتب، إذ اختار الراوي العليم الذي جعل منه كاميرا متحركة تستطيع رصد كل الأحداث خارج البناية وداخلها، في المتنزهات، في المقابر، في الكافيهات، في غرف النوم وفوق الأسرّة.
الراوي العليم هو الذي جمع بين هذه الشخصيات، هو الذي نقل لنا الصراع الدائر بينها، هو الذي عبر عن كل شخصية بما يناسبها، هو الذي كشف عن مخبئها، هو الذي كان ينتقل بنا بخفة، هو الذي أحاطنا علمًا بأحداث شتى، هو الذي اختبأ خلف الكاتب كي يعبر بحرية عن فلسفته وثقافته ورؤاه من غير أن نشعر بحضور الكاتب مطلقًا.
والراوي العليم كان من الذكاء، بحيث لم نضبطه متلبسًا بالانحياز لشخصية أو لموقف، أو مدافعًا عن أحدهم أو إحداهن. كان الراوي العليم ذكيًا، حتى إنه كان يتنحى جانبًا مفسحًا لكل شخصية أن تتحدث إلينا مباشرة، وكان أمينًا أيما أمانة في نقل الحوارات من غير أن يتدخل فيها، ولذا ليس غريبًا أن نجد أنفسنا - وقد تعرفنا على الصورة الخارجية للشخصية - أن نتعرف على الصورة الداخلية لها، بل وربما ميزنا لغة كل واحدة منها، ولا أبالغ إذا قلت ميزنا (تون) صوتها ونغمته، فهذا راشد، وهذا تامر، وهذا ميشيل، وهذه رودينا، وهذه سماح، وهذه ميسون، وهذه فتحية، إلى آخر الشخصيات التي عشنا معها الرواية.
قلت منذ قليل، أن الراوي العليم كان أمينا في نقل الحوارات، والحق أن الحوار يمثل ركيزة كبرى من ركائز الرواية، والكاتب يجد نفسه في تحد جديد للموازنة بين السرد والحوار، ولذا يراوح بينهما في لعب فني رشيق، وساهم الراوي العليم في إتاحة المساحة الكافية كي تعبر كل شخصية عن نفسها.
وربما يكون الحوار عائقًا إذا كان عبئًا على العمل بحيث لا يضيف شيئًا، ويكون مزية وقيمة مضافة إذا ساهم الحوار في الدفع قدمًا بالأحداث، وتطوير الصراع والكشف عن ما تكنه الأنفس والتعبير عنها في فلتات اللسان، وهنا نستطيع أن نصف الحوار في هذا العمل باعتباره تقنية من تقنيات السرد بأنه:
أولًا:
جاء فصيحًا، ترفع عن اللهجة العامية، خاصة أن أبطال العمل من دول مختلفة المواقع، لكنها في النهاية تستظل بمظلة عربية، فلدينا شخصيات سعودية، وأخرى إماراتية وغيرها أردنية ومصرية، ولذا كان مناسبًا أن يكون الحوار فصيحًا مبتعدًا عن اللهجات المختلفة.
ثانيًا:
جاء الحوار ذكيًا، وقد وافق أن يكون الكاتب ماهرًا في صناعة الحوار بهذا الذكاء، فنحن في حضرة جريمة قتل، وكل متهم حريص على النجاة بنفسه، ولذا جاءت الحوارات متسمة بالذكاء.
ثالثًا:
كان الحوار سلسًا، فليس ثمة ما يدعو إلى التعقيد، سلاسة تجعل من القارئ مستمتعًا بالحوار وذكائه، لا يعوقه عن استكماله شيء. انظر معى ص 184 كي تتأكد من جمال الحوار وذكائه.
رابعًا:
نستطيع وصف الحوار بأنه فلسفي عميق، والحق أن الكاتب -عمومًا- أحيانًا يقع في شرك تمرير فلسفته الخاصة عبر أبطاله بصورة فجة، خاصة إذا جاء مستوى الحوار متناقضًا مع الشخصية. لكننا رأينا كيف جاء الحوار فصيحًا وعميقًا وفلسفيًا، وجاء مناسبًا للمستوى العلمي والثقافي للشخصيات، فنحن في حضرة ضابط (راشد)، وامرأة أعمال ناجحة (رودينا)، ودكتورة في الطب النفسى (ميسون)، ومُعلمة لغة فرنسية (فتحية)، و(تامر) يعمل في شركة كبيرة محاسبًا، و(ميشيل) مدير الشركة، إلى آخره. ولذا لم نجد ما يجعلنا نقول إن الحوار لم يكن مناسبًا للشخصيات بل العكس هو الصحيح تمامًا.
اللغة:
قلنا إن اللغة هي وعاء الفكر، وهي وعاء الأدب أيضًا، فما كان للكاتب أن ينجح -رغم أهمية موضوعه وحبكته وشخصياته وقضيته- إذا لم تسعفه لغته، وعندما أقول لغته لا أقصد انضباطها نحوًا وصرفًا. بل أقصد قدرتها على التعبير عن مقصود الكاتب وأبطاله، وقضيته تعبيرًا أدبيًا تفارق فيه اللغة الصحفية والتقريرية، فضلًا عن مفارقتها لغة عوام البشر.
فاللغة هي القارب الذي يحمل القارئ من شاطئ الواقع إلى شاطئ الخيال متهاديًا في رفق وأناة، وهي القارب الذي ينقل المعاني والدلالات تلميحًا لا تصريحًا، ولذا ليس غريبًا أن نجد ذلك القارئ مستلقيًا على ظهر القارب، ناظرًا إلى زرقة السماء وصفاءها، مستمتعًا بعليل النسمات الرطبة، حتى تجعله ناطقًا بلفظ الجلالة قائلًا: «الله». كلما وقعت عيناه على لفظة حلوة، أو تشبيه بليغ وصورة مدهشة.
يعجبني الكاتب وهو يختار أسماء شخصياته، فلا يقع في جريمة الاستسهال بحيث يختار أسماءهم كيفما اتفق، باعتبار أن القارئ لا يعرف هذه الشخصيات، وكما نقول أن لكل إنسان من اسمه نصيبا، فكذلك لكل شخصية روائية من اسمها نصيب، تعال معي نتأمل في أسماء الأبطال.
جهاد، هو البطل الرئيس في الرواية، رغم إننا لم نره حيًا يسعى بين أقرانه من الشخصيات بل أول تعارفنا به، وجدناه مقتولًا والسكين مغروزًا في صدره، ومع ذلك يبقى هو البطل الأول، فلولا فساده ونهمه وشبقه وهوسه الجنسي، ما وقعت الجريمة.
رجل يكاد لا يفيق من شهواته ورغباته و هيجانه الجنسي، الذي جعله لا يفلت امرأة إلا أراد مضاجعتها بل والتلذذ بتصويرها، ثم التلويح بفضيحتها إذا امتنعت عنه، أي جهاد كان يبذله في سبيل الحصول على مبتغاه، إنه جهاد مضن وشاق، جهاد في سبيل شيطان الغواية، ولذا اختار الكاتب له اسم (جهاد).
رودينا، بطلة رئيسة لأنها مارست المراوغة حتى النفس الأخير الذي اكتشفنا فيه إنها القاتلة، هي التي حدت سكينها لتغرزه في قلب الرجل الذي أذاق النساء ويلات المذلة والامتهان، رودينا هي التي امتشقت سيفها بعد أن سنته، وحدت شفرته كي يكون حاد القطع والوصول إلى شغاف القلب، وكأنها رودينا في العصر الجاهلي، التي كانت تسوي الرماح. وهو اسم أعجمي ولم يعرف له معنى في العربية. ومن سمات هذا الاسم أن صاحبته ذكية واجتماعية وناجحة في عملها وجذابة، وقد كانت كذلك بالفعل، فجاء اسمها مناسبًا لشخصيتها تمامًا.
سهام، فتاة طائشة تستجيب لنزواتها من غير أن تحسب لشيء حسابًا، ولذا فهي كالسهم إذا انفلت من قوسه لا نستطيع معرفة مصيره واتجاهه، وكذلك كانت سهام في الرواية.
**
راشد، ليس غريبًا أن يكون اسم الضابط الإماراتي راشد، وهو من الأسماء المحببة في عموم الدول العربية والخليجية خاصة، ولكن ليس غريبًا أيضًا أن يكون اسمه راشد، من الرشد والرزانة والعقل والحكمة، فهو ضابط. لا بد من أن يتصف بالرشاد في سلوكه وتعاطيه مع كل جريمة من أجل ألا يظلم أحدًا.
ميسون، هي زوجة القتيل الذي خانها رغم جمالها وعلمها، واسم ميسون يعنى ذات الوجه الأحمر، وهى جميلة الوجه والقامة، فيه معنى التبختر والخيلاء، وقد جاءت ميسون بهذه الصفات في الرواية.
إيمان التي هي صفاء، وهي الضحية التي استدرجها جهاد (القتيل) إلى شقته، ثم حاول اغتصابها، فدفعته ليسقط في لحظة إغماء، ولأنها إيمان، فلم ترض لنفسها المعصية، ولأنها صفاء، فقد ظنت -في سذاجة- أنها قتلته، وهى الشخصية الوحيدة التي ظلت في السجن حتى قرب نهاية الرواية.
خليل، من اسمه نعرف إنه كان صديقًا لراشد، كان صديقًا مخلصًا حتى صار خليلًا له.
تامر، يكفيه الصورة الذهنية المرتبطة بهذا الاسم، حيث ترتسم في الأذهان صورة الليونة والضعف كلما ذكر هذا الاسم، وقد كان كذلك فقد ارتضى لنفسه أن يكون ديوثًا في هدوء يحسد عليه.
الحبكة:
ليس كل كاتب قادر على القبض على الخيط الدقيق الذي يلقي بطرفه للقارئ، بينما يمسك هو بطرفه الآخر ولا يفلته، حتى يصل القارئ إليه في شغف وشوق لمعرفة السر.
والكاتب هنا كان من البراعة بحيث جذب انتباه قرائه إلى حبكته وجعلهم يتماهون معه، بل وشحذ هممهم من أجل البحث معه عن مرتكب الجريمة، وهو إذ يفعل ذلك كان يرخي طرف الخيط حتى يظن الممسك به إنه وصل إلى الحقيقة، ثم سرعان ما يشده ليجعل القارئ منجذبًا لاكتشاف السر من جديد، فعل ذلك الكاتب بحرفية شديدة. ولم نكتشف -على وجه اليقين- مرتكبة الحادث إلا في السطور الأخيرة، ولكن بلا شك أن بعض القراء حاضري الذهن متقدي الذكاء، اكتشفوا السر مبكرًا عن طريق بعض التسريبات والإيحاءات.
الفلسفي والنفسي:
في مثل هذه الروايات البوليسية، قد يجعل الكاتب جل اهتمامه منصبًا على الإثارة والتشويق، لكن كاتبنا ناقش القضية باعتبارها قضية اجتماعية، فحاول أن يسبر أغوار القضية فكشف لنا عن أسئلة ووضع لنا بعض الإجابات.
ما الخلفية النفسية والاجتماعية للأبطال، خاصة أن معظمهم كانوا مشوهين أخلاقيًا ومهتزين نفسيًا؟
فرودينا كانت ضحية أفعال والدها المتسلط، الذي كان سببًا في الدفع بابنه ليكون تاجر مخدرات، «وقد تجرعت رودينا مرارة الحرمان والبؤس والشقاء على يد والدي الذي أدمن المخدرات»، وكذا كانت تعتب على الأم ضعفها وقلة حيلتها إزاء الأب القاسي الذي فرحت بموته بجرعة زائدة من المخدر، ولذا فقد كرهت الرجال منذ صغرها، وربما كان قتلها لجهاد ليس إلا انتقامًا من كل الرجال السيئين.
ولنا أن نعرف قدر الألم النفسي لهذه المرأة، وكذا لنا أن نعرف حجم العقد النفسية التي تركت أثرها فيها وكبرت معها، حتى حان وقت التعبير عنها فعلًا لا قولًا بقتل جهاد.
وراشد الذي كان ضحية عقد نفسية، إذ رأى الفتاة التي كانت جارتهم، رأها متاحة للجميع فترسب في نفسه أن كل النساء كذلك، فكان يخشى الحب والزواج فساقه قدره إلى حب رودينا.
هل يتنازل الرجل عن مبادئه وقيمه من أجل حبه؟!
سؤال آخر في الإطار الاجتماعي والنفسي في هذه الرواية.
وقد أجاب عنه الكاتب في مشاهد مختلفة، جمعت بين راشد ورودينا، وفيها ظهر ضعف شخصية الضابط الراشد العاقل أمام امرأة (قاتلة)، ولكنه وقع في حبها وأصبح متيمًا بها.
وفي لقطة أخرى، رأينا تامر يخضع لامرأته فتحية التي كانت في علاقة جنسية بجهاد، ومع ذلك لم يستطع تامر إنكار ذلك على زوجته، لأنه كان يحبها حبًا جنونيًا.
الرواية بها أبعاد نفسية خاصة بشخصياتها، ولها أبعاد اجتماعية خاصة بتنشئة هذه الشخصيات ومسؤولية المجتمع عن سلوكها.
«المجتمع هو المجرم الحقيقي الذي ينبغي محاسبته، ذلك لأنه فرض عليهن الخروج وبذل الأسباب للعيش، ورمى الذكور في طريقهن حتى يبتزوهن لمنحهن حقوقهن، وهكذا تم توظيفهن لتحقيق مكاسب سريعة، اعتمادًا على الغرائز»، ولنا أن نتخيل أن يكون هذا كلام الضابط مبررًا به ضعف النساء ووقوعهن في براثن الجريمة.
وفيها أبعاد فلسفية تحدو القارئ لفعل التفكر، وخاصة عندما تطالبه بالإجابة عن سؤال كهذا: هل من العدل أن نقتص ممن قتل شخصًا كان يؤرق المجتمع بأفعاله ويعيث فيه فسادا؟!
إذن، فنحن لسنا بإزاء رواية بوليسية تبحث عن مرتكب الجريمة، بل نحن أمام رواية اجتماعية نفسية فلسفية، تحاول استجلاء حقيقة المجتمع وما يموج به من اضطرابات.
رواية كتبت بقلم محترف، يعرف كيف يعرض فكرته ويحرك شخوصه، ومن ثم كانت المتعة الخالصة.
وفي النهاية، أود طرح الأسئلة التي راودتني في أثناء القراءة:
- إذا كان جهاد مات مقتولًا بسكين، ألم يكن حريًا بالضابط رفع البصمات ومضاهاتها ببصمات المشتبه بهم؟
- هل منوط بالضابط إجراء التحقيقات، أم منوط به ضبط القضية وعرضها على النيابة للتحقيق فيها؟
- لماذا بدا الضابط متراخيًا حتى سمح لامرأة مثل سهام أن تتحدث معه بهذه الطريقة، حتى بعد أن علمت أنه ضابط؟ ص173 وص 184
- هل يسمح للمحقق أن يمارس دوره في الأماكن العامة؟
- لماذا تجاهلنا صفاء تلك المظلومة ولم نتابع حالتها في السجن؟
- لماذا لم يتحرك راشد على الفور للبحث عن الكاميرات التي صور بها جهاد سماح حال علاقته بها؟
والسؤال المهم، لماذا لم نتعرف على جهاد باعتباره بطلًا رئيسًا في العمل؟ لماذا لم نعرف الدوافع النفسية والاجتماعية التي جعلت منه مجرمًا جنسيًا؟
وفي النهاية، وبين متعة القتل وهو عنوان الفصل الأول، وعتمة مضيئة وهو عنوان الفصل الأخير. وانظر معي إلى كلمتي «متعة وعتمة» وما بينهما من جناس، وانظر إلى المقابلة بين متعة القتل والعتمة المضيئة، أقول بين متعة قاتلة وعتمة مضيئة.
** **
- زكريا صبح