الثقافية - علي القحطاني:
يحضر الأدب العجائبي في التراث بقوة عبر عدد من المصنفات، وقد استمر هذا الحضور في الأدب حتى العصر الحديث عبر أدب الخيال العلمي والفانتازيا، الذي يحضر الآن بقوة في أدب الرواية، وقد تُوج هذا الحضور بدعم هيئة الأدب والنشر والترجمة بوزارة الثقافة، وقد اخترنا أن يكون موضوع الحوار عن الأدب العجائبي، حيث تتحدث عنه الناقدة والأدبية والأستاذة الجامعية المتميزة د.أسماء بنت صالح المبارك، وهي مؤلفة كتاب: «الخبر العجائبي في مصنفات التنوخي»، لتكشف أصول هذا الأدب ومستوى حضوره، وتقنياته الأدبية عبر هذا الحوار..
* كيف يساهم الأدب العجائبي في تحفيز الخيال البشري، وكيف يؤثر هذا التحفيز على القارئ في مواجهة التحديات الاجتماعية أو الفكرية؟
يساهم الأدب العجائبي في تحفيز الخيال البشري من خلال عرضه لعوالم غير مألوفة، وأمور خارقة، وأحداث تتجاوز الواقع، مما يفتح أمام المتلقي مجالاً واسعاً لتصور عالم ومفاهيم لا حدود لها، ويثير لديه ملكة الخيال، ويجعله يتعرف على عالم لا تحكمه حدود المنطق، وتتصل موضوعات الأدب العجائبي في بعض الأحيان بمفاهيم واسعة: كالهوية، والسلطة، وهذا يساعد المتلقي على إعادة التفكير في تلك المفاهيم، ولا يقف التأثير عند هذا الأمر، بل يتعداه إلى أن يكون هذا التحفيز مصدر إلهام للمتلقي يساعده في اقتراح الحلول، ويدفعه إلى رؤية تلك التحديات والمشكلات من زوايا أخرى جديدة غير مألوفة، فيصبح المتلقي أكثر قدرة على تخيل حلول بديلة لمشكلات مجتمعه، أو حتى مشاكله الشخصية. مما يجعله أكثر إيجابية تجاه واقعه. فالأدب العجائبي يعد محفزاً ذهنياً وفكرياً مهماً يمكِّن القارئ من القدرة على التعامل مع التحديات من خلال تحفيزه على تجديد رؤيته للأشياء حوله، ومن ثم التأثير على سلوكه الاجتماعي، وتوجهاته الفردية.
* هل يمكن للأدب العجائبي أن يكون وسيلة لمساعدة الأفراد على التفكير خارج حدود الواقع وتخطي القيود التي تفرضها الحياة اليومية؟ وكيف يؤدي ذلك إلى فتح آفاق جديدة للإبداع والتفكير النقدي في مجتمعاتنا؟
نعم، بلا شك يمكن للأدب العجائبي أن يكون وسيلة قوية لمساعدة الأفراد على التفكير خارج حدود الواقع، وتخطي القيود التي تفرضها الحياة اليومية؛ لأن الأدب العجائبي يقوم على تجاوز المألوف، من خلال خلق عوالم خيالية، أو أحداث غير واقعية، مما يجعل المتلقي مدفوعاً إلىالتساؤل والتأمل في تلك المفاهيم والقواعد الراسخة وهذا يمنحه مجالاً رحباً للتفكير في احتمالات جديدة، ويحرره من قيود النمطية المعروفة.
أما كيف يؤدي ذلك إلى فتح آفاق جديدة للإبداع والتفكير النقدي في مجتمعاتنا، فأعتقد أن الأدب العجائبي قادراً على ذلك من خلال خلق فضاءات لاتخضع لقواعد الواقع، مما يدفع المتلقي لاستخدام خياله دون سلطة وهذا بلا شك يعزز قدراته الإبداعية. فالنصوص السردية بصفة عامة، والعجائبية بصفة خاصة نصوص حمَّالة أوجه،تحرض القارئ على التأويل إلى حد كبير، بل تغريه بالإسهام في إنتاجها؛ كما أن الإغراق في عوالم العجيب يعد نزوعاً شمولياً يشترك فيه أغلب البشر على اختلاف فئاتهم، فعلى سبيل المثال يبدأ المتلقي بالمقارنة بين عالمه الواقعي وبين تلك العوالم غير المألوفة، فيكتشف أن كثيرا من الحقائق أو القواعد قابلة للتغيير. أضف إلى ذلك أن الأدب العجائبي يعرض بعض قضايا المجتمع بطريقة مبهمة وغير مباشرة، فيحفز المتلقي على التفكير النقدي ومحاولة سبر أغوار المعاني العميقة وراء النص، ويمكن أن يستخلص من هذا السبر العميق أفكاراً جديدة، وأساليب تفكير مختلفة. فالأدب العجائبي أداة فاعلة في فتح آفاق جديدة للإبداعوالتفكير النقدي في المجتمعات.
* الأدب العجائبي هو نوع أدبي غالبًا ما يتضمن أحداثًا خارقة للطبيعة أو غير قابلة للتفسير المنطقي. كيف يمكن تفسير هذا النوع الأدبي في ضوء التغيرات الثقافية والاجتماعية في العالم العربي؟
الأدب العجائبي يعبر عن الواقع بطريقة تتخذ الرمز أداة لتصوير هذا الواقع، بحيث تُمكن المبدع العربي من مناقشة قضايا معقدة في مجتمعه، لاسيما في ظل التغيرات السياسية والاجتماعية والثقافية في العالم العربي، وهنا يظهر الأدب العجائبي كمرآة تعكس هذه التغيرات داخل تلك المجتمعات، فالكائنات الغريبة والقوى الخارقة ترمز أحياناً إلى غير المعقول الذي يعيش الناس تحت وطأته، كما أن الأدب العجائبي يمنح مساحة كبيرة لتصور واقع آخر، والرغبة في التمرد على القواعد الصارمة، مما يهيئ العقل لطرح أسئلة عديدة حول تلك التغيرات وأسبابها، والأدب العجائبي أيضا في ظل هذه الظروف يمكن أن يساهم في إعادة تشكيل الوعي بنوعيه الثقافي والاجتماعي في ظل انحسار الثقة بالخطابات داخل تلك المجتمعات، ولذا فالأدب العجائبي يُمكن الكاتب العربي من مناقشة قضاياه، وطرح تساؤلاته الفلسفية والوجودية بعيدا عن المنطق والواقع الذي أصبح غير كافٍ لفهم تلك التغيراتداخل المجتمعات العربية. إذن الأدب العجائبي في رأيي هو نوع أدبي مهم وفاعل في تجاوز الواقع المتصدع الذي تعيشه بعض مجتمعاتنا العربية.
* في السياقات المعاصرة، هل يمكن للأدب العجائبي أن يعكس الخوف من التغيير أو يعكس أزمة الهوية التي تمر بها بعض المجتمعات العربية؟ كيف يمكن أن يساعد هذا النوع الأدبي في استكشاف أسئلة الوجود والنظام الاجتماعي في مجتمعاتنا الحديثة؟
نعم، يمكن للأدب العجائبي في السياقات المعاصرة أن يعكس الخوف من التغيير وأزمة الهوية التي تمر بها بعض المجتمعات العربية، فحاجة المبدع العربي إلى التحرر والانفتاح والمغامرة أوجدت لديه الرغبة في البحث عن أطر جديدة تستوعب مخاوفه، وآماله، ورؤاه. والأدب العجائبي بتجاوزه الواقع المألوف، يلبي لديه هذه الرغبة، بحيث يمكنه من طرح تساؤلات وجودية تتعلق بالذات والهوية، فهو في تقديمه لتلك العوالم غير المألوفة يعكس الخوف من المستقبل أو من المجهول، ويفتح الباب لجملة من الأسئلة الوجودية العميقة حول ماهية السلطة، والقوانين الحاكمة، ومصير الشعوب، وأدوات القمع وغيرها من الأسئلة التي تنتاب ضمير كل فرد في تلك المجتمعات من خلال حبكة عجائبية تتوارى خلفها معان حقيقة، وهذا الأمر ليس خاصاً بالمجتمعات العربية الحديثة، فقد وجد في السردية العربية القديمة أيضاً، ومن أمثلتها ما وجدته في دراستي للخبر العجائبي عند التَّنوخي الذي عاش في القرن الرابع الهجري فقد كانت المحن التي تعرض لها، والصراعات في عصره على اختلافها دوراً كبيراً في ميله للعجائبية، لا سيما اتصال تلك الصراعات بالحكم والخليفة، إذ كانت ستارا عبَّر من خلالها عما يعتمل في نفسه من رفض السلطة القائمة على الظلم.
* تُعدّ القصص العجائبية والغرائبية أحد ألوان الأدب التي تحث على التفكير النقدي حول الظواهر غير المفهومة، ما هو الدور الذي تلعبه هذه القصص في تشكيل وعي القارئ بمفهوم الواقع والخيال؟
تلعب القصص العجائبية دوراً كبيراً في تشكيل وعي القارئ بمفهوم الواقع والخيال، ويبدو هذا من خلال تلك العوالم الغريبة والأحداث غير المنطقية، التي تحدث في عالم واقعي، فهذه القصص العجائبية تعمل على تداخل الواقع بالخيال بطريقة غير معقدة بحيث تجعل المتلقي مدركاً للفرق بينهما، ومدركاً أيضاً لأهمية توظيف الخيال لفهم الواقع، أو نقده، أو الانفلات منه، فالعجائبية تجعل المتلقي يتأمل أكثر في الواقع الذي يعيشه، وفي الوقت نفسه تمنحه فضاء من الخيال والابتكار، وهذا يسهم في تشكيل وعي نقدي للقارئ بهذين المفهومين.
* كيف يمكن للقصص العجائبية أن تمزج بين الواقع والخيال بطريقة تجعل القارئ يعيد النظر في فهمه لما هو ممكن وما هو مستحيل، وكيف يمكن لهذه القصص أن تساهم في إعادة تعريف الحدود بين الحقيقة والتخيل في الأدب؟
للقصص العجائبية قدرة كبيرة على المزج بين الواقع والخيال، والفضاء العجائبي يمتاح من الخيال أقصى درجاته لكن العجائبية تعرض تلك الأحداث غير المألوفة داخل عالم واقعي ومألوف، وهذا التداخل ينبه ذهن المتلقي إلى الاستفهام عن إمكانية حدوث هذا الأمر، فالأمر غير المألوف وقع داخل عالم مألوف، فما الذي يجعل حدوث أمر ما مستحيلاً، ولذلك درج السرد العجائبي على المزجبين الحقيقة والتخيل بطريقة سلسة لا يشعر القارئ بوجود خط فاصل بينهما.
* هل الأدب العجائبي يُعتبر مجرد نوع من الهروب من الواقع، أم أنه يحمل دلالات أعمق تتعلق بتساؤلات فلسفية عن طبيعة الإنسان والكون؟
من الإجحاف بالأدب العجائبي اعتباره مجرد هروب من الواقع، فالعجائبي لا يبدو مقصوداً لذاته، وليس هو مجرد تجاوزاً للواقع، صحيح أن هذا الأدب يعتمد على عناصر غير مألوفة وغير واقعية، مثل الكائنات الغريبة، أو الأمور المستحيلة، لكن هذه الكائنات غالباً تستخدم في السرد العجائبي كأدوات لطرح تساؤلات فلسفية عن طبيعة الإنسان والكون، وكثير من الروايات التي يظهر فيها السرد العجائبي تعكس قلق الإنسان المعاصر تجاه المجهول، أو تثير تساؤلات عن الكون والحياة، ولذلك يستخدمه بعض الروائيين رمزاً لواقع خفي غير ظاهر، بحيث تكون العجائبية مرآة تعكس صورة تلك الصراعات الوجودية. فالأدب العجائبي ليس هروبا من الواقع، بل هو طريقة رمزية وفلسفية لاستكشاف ذلك الواقع.
* كيف يمكن فهم العلاقة بين الأدب العجائبي والخيال العلمي، وما هي الحدود الفاصلة بينهما؟
العلاقة بينهما علاقة معقدة ومتداخلة، فكلاهما يقومان على تجاوز الواقع، لكن لكل واحد منهما طريقة خاصة به، فحين يقوم الأدب العجائبي على العناصر غير المألوفة والخارقة، في عالم يبدو واقعياً، دون تفسير، يقوم الخيال العلمي على تفسير عقلاني للظواهر، لأنه يتجه إلى التطورات المستقبلية، من خلال تكنولوجيا متخيلة، ولذا في الخيال العلمي نجد منطق صارم وإن كان يقوم على فرضيات مستقبلية، وتتميز الأعمال التي تسمى بأدب الخيال العلمي بالنزوع التنبؤي، الذي يهتم بالمستقبل، من خلال القلق الذي يظهر في تلك الأشكال المتخيلة، وهذا النوع يخضع لهالة من الغموض مع إشكالية الجمع بين الخيال بما يشيعه من تحرر وانطلاق، وبين العلم وما يعنيه من حقائق ومعلومات دقيقة، إلا أنه لا يمكن أيضاًأن نفصلهما عن بعضهما ؛ لأن العلم لا يمكن أن يستغني عن ثراء تلك المخيلة، فأغلب كتَّاب الأدب الفانتازي كانوا يتنبؤون باختراعات ظهرت بعد ذلك بسنوات.
* الأدب العجائبي يعتمد على عنصر المفاجأة والدهشة، كيف يساهم هذا العنصر في بناء العلاقة بين الكاتب والقارئ؟
عنصر المفاجأة والدهشة في الأدب العجائبي يلعب دوراً مهماً في بناء تلك العلاقة وتعزيزها، فالكاتب يعمد إلى تصوير تلك المشاهد الخارقة غير المألوفة، وعندما يواجهها القارئ يتملكه الفضول لمعرفة المزيد منها، مما يثير لديه الرغبة في مواصلة القراءة وهذا بلا شك يعزز العلاقة بينهما،فحالة الدهشة والتردد تحفز الخيال لدى القارئ بحيث يشعر بأنه يعيش تلك الحالة بعمق، فيتصور تلك العوالم العجيبة في ذهنه، وفيه يكونالارتباط مع النص في أعلى درجاته، كما يحفز هذا العنصر القارئ على إعادة تقييم فهمه للأحداث، ومعرفة أكثر بالشخصيات، وهذا بلا شك يجعل القارئ يتجه إلى تعميق قراءته مما يزيد من ارتباطه بالنص، أضف إلى ذلك نقطة مهمة جداً وهي أهمية إتقان المبدع لتوظيف هذا العنصر في النص الأدبي دون أن يوثر ذلك على تماسك النص، وهذا الأمر يخلق لدي المتلقي تفاعلاً جيداً مع النص، بحيث يجعله ذلك التفاعل يشعر بأنه شريك مع المبدع في فكِّ ألغاز تلك الأحداث العجائبية، ولذا يمكن اعتبار وجود هذا العنصر مهم جداً؛ لخلق علاقة تفاعلية بين الكاتب والقارئ.
* يعتبر الأدب العجائبي أداة لتحدي المألوف والواقع، ولكن هل يمكن أن يحمل رسالة اجتماعية معينة مثل الدعوة للقبول بالاختلافات أو التحلي بالمرونة في التفكير؟
نعم يمكن للأدب العجائبي أن يحمل رسالة اجتماعية مثل الدعوة للقبول بالاختلافات أو التحلي بالمرونة في التفكير، بل إن هذا الأمر هو أحد أبرز الأدوار التي يقوم بها الأدب العجائبي بما يشيع فيه من أمور خارقة وغير مألوفة، وهذا يمنح الكاتب مساحة كبيرة لطرح قضايا إنسانية، أو فكرية، ويحفز القارئ على تجاوز النظرة الشائعة أو التقليدية، ويدعوه لقبول الاختلافات، ويجعله ينطلق في فضاءات أخرى مغايرة عما هو مألوف، ويسهم في جعل التفكير لديه أكثر مرونة، فعلى سبيل المثال يتجسد القبول بالاختلافاتفي الأدب العجائبي من خلال تلك الشخصيات الغريبة غير المألوفة والمختلفة لكنها متعايشة مع بعضها داخل مجتمع واحد، فمن خلال هذا الاختلاف يمكن أن تظهر فكرة تقبل الآخر واحترام رأيه مهما كان غريباً.
** **
@ali_s_alq