الثقافية - علي بن سعد القحطاني:
قبل أن تُدرَج العجائبية والغرائبية ضمن التيارات الأدبية الحديثة، كانت تسكن في جوهر الحكي العربي منذ نشأته، متوارية بين أسطر ألف ليلة وليلة، وهادرة في مغامرات السندباد البحري، ومضمّخة بالحكمة في كليلة ودمنة. واليوم، تعود هذه الأنساق الحكائية إلى المشهد الثقافي العربي بثوب سردي جديد، تستعيد فيه حضورها الآسر عبر نصوص تتجاوز قوانين المنطق، وتفتح أبوابًا على عوالم سفلية، وكائنات خارقة، وحروب متخيلة تُشعل خيال القارئ وتوقظ شغفه بالقراءة.
وفي ظل هذا التحول اللافت، أجرت الثقافية استطلاعًا موسعًا بعنوان «الأدب العجائبي والغرائبي وصناعة الجمهور الجديد»، رصدت من خلاله تنامي حضور هذا النمط الأدبي في الساحة العربية، ومدى تأثيره على الذائقة المعاصرة، لا سيما في أوساط الشباب والقراء الجدد الذين وجدوا في هذا الأدب امتدادًا لخيالهم، ومنفذًا للهروب الرمزي من رتابة اليومي.
في هذا الاستطلاع جمع آراء عدد من المتخصصين في البلاغة، والسرديات، والنقد الثقافي، الذين تناولوا هذه الظاهرة من منطلقات معرفية متعددة، وطرحوا رؤى حول أصالة هذا الاتجاه في الثقافة العربية، ومدى ملاءمته لروح العصر، وأثره في تجديد الكتابة والتلقي، وصياغة خطاب أدبي قادر على استيعاب التحولات الجديدة.
العطش الثقافي
وأكد أستاذ البلاغة وتحليل الخطاب بجامعة القاضي عياض في المغرب، أ.د. سعيد العوادي في حديثه لـ «الثقافية»أن الغرائبية والعجائبية مكونان أصيلان في بنية الإبداع الأدبي، وليسا ظاهرة طارئة، مشيرًا إلى أن الصورة الفنية تنبع من مفارقة الواقع وتوليد عوالم رمزية جديدة. كما لفت إلى أن البلاغة العربية، وخصوصًا علم البيان، اهتمت بهذا البعد من خلال أدواتها التشبيهية والاستعارية والكنائية وقال: قبل أن تكون الغرائبية والعجائبية اتجاها من اتجاهات الكتابة الأدبية، فهي عنصر جوهري لا ينفكّ عنه الأدب، إن لم أقل الإبداع عموما، في تنويعاته المختلفة وتحولاته الكبرى؛ إذ يندسّ المقوّم الغرائبي والعجائبي في ثنايا النصوص الأدبية، مشكّلا «ماء الكتابة» الذي يعطي للنصوص رونقها الفني الجمالي.
المساحات الغرائبية والعجائبية
ويشير د.سعيد العوادي إلى أنه :إذا كانت الصورة الفنية هي أعلى المكوِّنات التي تجعل من الأدب أدبا، فهي حسب ما ذكره كبيدي فاركا في كتابه النوعي «ثوابت القصيد»: «العنصر المولِّد للعالم»، بمعنى أنها تقوم أساسا على مفارقة الواقع وخلخلة نظامه وبناء عالم جديد وارتياد آفاق غريبة وعجيبة كأن تجعل الحيوان إنسانا والإنسان حيوانا... وعلى هذا الأساس، كانت الصورة الفنية هي «هزّة النص» التي طالما دوَّخت القراء في كل الأزمنة، حتى إننا لا نستغرب أن كثيرا من الشعراء والكتاب قد لُخِّص إبداعهم في صور معدودة. واللافت أن هذا التلخيص المبتسر كان مثار فخر واعتزاز، كما يصرِّح بذلك الشاعر الأمريكي إزرا باوند في قوله: «إنه من الأفضل أن تقدِّم صورة شعرية واحدة طوال الحياة من أن تنتج كتبا عديدة».
ويبدو أن علم البيان، المهتم بمبحث الصورة تخصيصا، قد انصرفت عنايته أساسا إلى تفكيك هذا البعد الغرائبي والعجائبي الثاوي في التركيب التصويري في أبعاده التشبيهية والاستعارية والكنائية.
لقد كانت مساحة الغرائبية والعجائبية ضيقة إلى حدّ ما في البدايات التأسيسية للأدب العربي، موزّعة على جسد النصوص هنا وهناك، إلى أن اتسع مداها في النصوص المتأخرة التي انتقلتْ من منحى التضييق إلى منحى التوسيع، فتحوّلتْ من الصور الجزئية الصغرى إلى الصور النصية الكبرى، منتِجة ما يسمى بأدب الفانطستيك أو الأدب الغرائبي العجائبي. ونجد هذا المنحى في نصوص كثيرة من قبيل: «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري، و»رسالة التوابع والزوابع» لابن شهيد الأندلسي...
وعادت مثل هذه النصوص لتظهر من جديد في الأدب العربي الحديث والمعاصر بصيغ متعددة، مستفيدة من نظائرها في الآداب الغربية. والواضح أن كتابات الأديب السعودي أسامة المسلم أبرز ما يمثِّل هذه النهضة الجديدة لهذا النمط من الكتابة الذي تمخّض عنه موقفان متباينان: موقف رافض للمسار الذي سار فيه أسامة، معلّلا ذلك بأنه لا يستقيم مع مقاييس الأدب الرفيع. وموقف ينوِّه بهذا المسار، ويرى فيه إحياء لفعلي الكتابة والقراءة معا.
ولعل استثمار مقاربة نقد النقد من أجل قراءة هذين الموقفين سياقا ومساقا من شأنه أن يفيدنا بأنهما قد أسهما في صياغة نقاش نقدي ثري بدأ من المملكة العربية السعودية وامتد إلى دول عربية مختلفة؛ وهو نقاش افتقدته الساحة الثقافية العربية، معيدا إلى أذهاننا تلك الخصومات النقدية التي عرفتها مصر خصوصا، مع روادها الكبار أمثال العقاد والرافعي وطه حسين وزكي مبارك. ومثل هذا النقاش، على الرغم مما يشوبه من تجريح شخصي أحيانا، إلا أنه ينعش الفكر، ويقابل بين الرؤى المختلفة، بل يدفع الأقلام الجديدة نحو الكتابة.. وهذا أمر في بالغ الأهمية والقيمة.
وتفاعلا مع الموقفين السالفين، فإنني ألحّ، بداية، على ضرورة توسيع دائرة الأدب وعدم حصرها ضمن معايير نقدية محددة وصارمة، مما يتيح لنا التعامل مع هذا النمط من الأدب بكثير من التسامح والترحيب.. وعلى هذا الأساس، فكما نقدّر «الأدب النخبوي» الذي لا تهتم به إلا فئة قليلة من القراء ممن تمتلك مواصفات معرفية وذوقية معينة، نقدِّر أيضا «الأدب الجماهيري» الذي تهتم به فئات عريضة من القراء، خصوصا من المراهقين والشباب.
الأدب العجائبي
وفي سياق حديثه لـ«الثقافية»، اعتبر الدكتور سعيد العوادي، أن ما يحدث اليوم من إقبال الشباب والمراهقين على القراءة عبر بوابة الأدب العجائبي والغرائبي يُعدّ «فتحًا ثقافيًا» حقيقيًا، أعاد هذه الفئة إلى دائرة الفعل القرائي بعد غياب طويل وقال:وأسامة حين يكتب الغرائبي والعجائبي في نسق «الأدب الجماهيري»، فهو قد أروى «عطشا قرائيا» لجمع كبير من القراء الذين لم يجعلهم الأدباء ضمن مخططاتهم للأسف.. وربما نختلف حول معايير القراءة عند هذه الفئة وسياقاتها وغاياتها، إلا أنه لا يجب أن يعزب عن بالنا أنها لم تكن تقرأ أساسا، وأنها كانت جزءا من خيبات القراءة عندنا. وعلى هذا الأساس، فإن ما قام به أسامة هو أشبه بـ «فتح ثقافي» جعل المراهقين والشباب يتصالحون مع القراءة. ولا أرى ضيرا في أن تتحدّد القراءة عندهم في الأدب الغرائبي والعجائبي؛ لأنه وإن بدا ظاهريا بعيدا عن الواقع ومغرقا في الوهم، إلا أنه مشدود إلى هذا الواقع بما يستضمره من قيم ومواقف واتجاهات هي نفسها التي يجهر بها أدب النخبة.
النقاد ومصادرة الروايات
وشدد الناقد الثقافي المغربي د. عبدالرزاق المصباحي في حديثه لـ«الثقافية» على أنه ولا يحق لأحد مصادرة حقه، كما هو الشأن في ظاهرة الروائي السعودي «أسامة المسلم»، الذي يتقاطر إليه مئات القراء من اليافعين على الخصوص في كل معارض الكتب كأنهم يتجمهرون إلى نجم سينمائي وقال :إن الإجابة عن سؤال عن العجائبي والغرائبي باعتباره مورداً فنياً في الرواية العربية، يقتضي تحديد الوضعية والمرجعية التي ينطلق منها السائل، فينبغي من حيث الوضع التساؤل عن القارئ هل هو عاشقٌ ينطلق من اختيارات شخصية ومن ذوق فنيّ خالصٍ؟، وهنا يكون علينا احترام أي حكم يطلقه، فيكون على السواء ميلُه إلى الروايات التي تتنضد بنياتها بوساطة إعادة بناء الواقع، أو التي تؤسس حبكتها على استثمار العوالم الماورائية؛ ذلك أن الأثر التخييلي وحاجته الجمالية يجدهما في أحد هذه الأنواع، ولا يحق لأحد مصادرة حقه، كما هو الشأن في ظاهرة الروائي السعودي «أسامة المسلم»، الذي يتقاطر إليه مئات القراء من اليافعين على الخصوص في كل معارض الكتب كأنهم يتجمهرون إلى نجم سينمائي. فهل لنا واستنادا إلى هذا الوضع أن نصادر حق هؤلاء القراء، ونتهمهم بالسطحية القرائية، أو نؤطر تجربة «المسلم» ضمن كتابة «الشو» ونقايسه بالشرائط القصيرة reels على وسائط الثقافة، التي تُستهلك بسهولة، و»تنسى كأنها لم تكن» بالتعبير الدرويشي؟ إننا في هذه الحالة أمام وضع قرائي حر، لا تجوز مصادرته، فهو اختيار ناجم عن رغبة في تلبية الحاجة الجمالية، انطلاقاً من نوع روائي. ثم إننا إذا قايسنا توجه مئات القراء الصغار إلى هذا النوع الروائي، مع ممكنات تحقيق حاجتهم الجمالية من الوسائط الرقمية، التي لا تستدعي مجهوداً قرائيا، فإننا سنكون أمام ظاهرة إيجابية، تعدل من التوجيه الناعم والخطير الذي تمارسه تلك الوسائط على هذه الفئات نحو فعل محمود هو «القراءة».
الوضعية المرجعية
أشار الناقد الثقافي المغربي د. عبدالرزاق المصباحي في حديثه لـ«الثقافية»، إلى أهمية استحضار الوضعية المرجعية عند تناول الأدب العجائبي والغرائبي، موضحًا أن فهم هذا النمط من الكتابة لا يكتمل دون التمييز بين موقع القارئ ومرجعية الناقد وقال :وأما من ناحية المرجعية، فتعني النقاد والباحثين الذي من المفترض أنهم يؤسسون أحكامهم ويؤطرون آراءهم ضمن براديغمات ومرجعيات تجعلهم بعيدين عن الانطباعات المتسرعة أو الإسقاطات غير الموضوعية. ولا يمكن، ضمن هذا السياق، أن نتخيل ناقداً وباحثاً ينتمي إلى المؤسسة الأكاديمية خاضعاً لأعرافها، أن يتقبل، إلاًّ على مضض، رواية لا تستجيب لبنيات الخطاب والقواعد الراسخة التي تحددها نظرية الأدب، ومن هذا المنطلق فإنه ينطلق، بوعي منه أو حتى من دونه، من فكرة «المعتمد»، أي تصنيف للنصوص ضمن أحقية الانتماء إلى الرواية كما يتصورها من مقياس «الرواية العظيمة» بأسمائها المؤسسة والرنانة، وهو، هنا، «يفتش» في اللغة فيفتحص استجابتها للقواعد، ويحلل الحبكة فيرى اتساقها وانسجامها، ويبحث في المادة السردية المعتمدة فيقوّم استنادها إلى ما ترتضيه التجارب السابقة.
النص «الوضيع» و«الرفيع»
وهنا فتلك القواعد الموجهة قد تمنع العقل النقدي «المعتمد» من تقبل أية مغامرة سردية خارج هذه «الأصول المرعية»، وقد يصنفها ضمن الأعمال التافهة، وينصح بتجنبها. في المقابل فإن الانطلاق من مرجعية مختلفة كالنقد الثقافي سيجعل الآراء تختلف، ذلك أن أساس هذه الإستراتيجية النقدية الموسعة، أنها لا تنطلق من مصادرات قبلية، فالناقد الثقافي لا يميز بين النص «الوضيع» «والرفيع»، وغير معنيٌ بالمقاييس الفنية «للمعتمد»، لكنه ينظر إلى الظاهرة الأدبية باعتبارها خطاباً ثقافياً، ويحرص على كشف أثرها. وفي حال روايات أسامة المسلم، فإنها ظاهرة تخرج عن السائد «فنيا» في المعتمدات الروائية، ولها أثر على الفعل القرائي، واستقطاب فئات واسعة من القراء اليافعين، ويوظف صاحبها وسائط الثقافة ليقترب من هؤلاء القراء، ويحرص على تواصل منتج معهم. وهذه جميعها شروط يفيد تحققها في خطاب أدبي معين أنها تكون موضوعاً أثيراً عند النقاد الثقافيين وإن سؤال الوضع والمرجعية مهم في النظر إلى الظواهر والتوجهات الأدبية عموماً، والتجارب الروائية الجديدة، على الخصوص.
تهميش «الف ليلة وليلة»
وختم المصباحي تصريحه لـ«الثقافية» بالتأكيد على أن الحق في النقد الموضوعي ينبغي أن يكون مكفولًا لكل نص ترك أثرًا في وعي المتلقين، بعيدًا عن الوصاية والانطباعية، مستشهدًا بتاريخ المؤسسة النقدية العربية التي همّشت ألف ليلة وليلة قرونًا، واعتبرتها أدبًا دونيًا موجهًا للنساء والأطفال وقال : لكن من المهم التأكيد على حق كل عمل أحدث أثراً جماهيرياً في الحصول على حقه في نقد موضوعي لا يتحامل ولا يجامل في الوقت نفسه، ويستحضر أبعاد تلك الظاهرة من زوايا متنوعة من دون وصاية، فتاريخ الأدب يعلمنا أن المؤسسة النقدية كانت تحتقر «ألف ليلة وليلة» التي تقوم على استثمار الغرائبي والعجائبي، وتضعها في مرتبة أقل من الشعر الرديء؛ بل تصنفها ضمن منتخبات قراءة الأطفال والنساء، في تصور فحوليّ لا يخطئه العقل، وهذا الاحتقار في الثقافة العربية حينها، هو الذي سيتحول إلى إقبال شديد من النقاد على استكناه بنياتها الفنية، والوقوف عند عوالمها الفنية العجائبية المؤثرة بعدما انتبهت إليها المركزية الثقافية الغربية. وهذا هو الوضع الذي لا يزال يستعاد على نطاق واسع في مناقشة أية ظاهرة جديدة في عالمنا العربية، كأن العقل النقدي الفحولي نفسه لا يزال يسكن ممارستنا النقدية.
حكايات الجدات والقارئ الجديد
وترى الروائية الجزائرية د. عائشة بنور في حديثها لـ «الثقافية» أن الأدب الغرائبي والعجائبي ليس نتاجًا معاصرًا طارئًا، بل هو امتداد عميق للتراث الحكائي العربي الزاخر بالأسرار والأساطير والحكايات الشعبية، التي أثّرت في وعي الأجيال منذ الطفولة، بدءًا من ألف ليلة وليلة، مرورًا بـالحمار الذهبي للوكيوس أبوليوس، وانتهاءً بحكايات الجدّات التي نسجت عوالم متخيلة خارقة، خارجة عن حدود الزمان والمكان.
سحر شهرزاد
وأوضحت الروائية عائشة بنور أن هذا النوع من القصص، الذي امتزج فيه الخيال بالخوف والخوارق، كان يُروى في طفولتنا بأصوات الجدّات اللائي يمتلكن سحر شهرزاد، حيث تتكرر الدهشة كل ليلة، ونشتاق لحكاية جديدة، مليئة بالعجائب والمخلوقات الأسطورية. وأضافت: «كنت أستمع في صغري لحكايات مثل الشيخ ذياب ولونجا بنت الغول وبنت السلطان، وقد وثّقتها لاحقًا كقصص للفتيان، بالشراكة مع الأديب رابح خدوسي».
غموض النفس البشرية
وترى الروائية عائشة بنور أن الرواية الغرائبية الحديثة هي ثمرة لهذا الإرث المتراكم، وتعبير عن تطوّر القصّ الشفهي إلى سرد مكتوب يمزج بين التراث والحداثة. وقد أثارت هذه الروايات، في السنوات الأخيرة، جدلًا واسعًا في الأوساط الثقافية، نتيجة تداخلها مع الواقعي، وتقديمها لصوت سردي مغاير، يستند إلى المغامرة، والرعب، وغموض النفس البشرية.
ولفتت إلى أن هذا النمط الأدبي، وإن كان صادمًا لبعض المناهج النقدية الكلاسيكية، إلا أنه يمثل فضاء حرًا للتعبير، يبتعد عن النمطي والمباشر، ويمنح القارئ – لا سيما من فئة الشباب – منفذًا للهروب من الواقع، نحو عوالم بديلة مليئة بالدهشة والتخيل، مشيرة إلى أن «الالتفاف الكبير من الشباب حول هذا النوع من الأدب لا يعني هروبًا من الواقع، بل رغبة في تجاوزه بفن وسرد متحرر من القيود».
الترف السردي والقارئ الجديد
وأكدت الروائية عائشة بنور أن الرواية الغرائبية تعكس تحوّلًا في الذائقة القرائية، وتُعلن عن قارئ جديد صنعته التكنولوجيا، وشكلته التحولات المعرفية والثقافية، وهو قارئ يبحث عن النص المفتوح على الاحتمالات، المتحرر من الواقعية التقليدية، والمشحون بالرمزية والسحر والتخييل.
واختتمت الروائية عائشة بنور حديثها بالقول: «هذه الروايات ليست ترفًا سرديًا، بل استجابة لواقع مأزوم تُعاد صياغته عبر الخيال، وهي تمثل في جوهرها محاولة لاستعادة الإنسان في زمن يضجّ بالضياع، والانفصال عن الذات».
روايات الفانتازيا و بلاد العجائب
ويرى الباحث المغربي د. عبد الرحمن إكيدر من خلال مداخلته لـ«الثقافية» أن الرواية العجائبية في الأدب العربي المعاصر تشهد رواجًا ملحوظًا، خاصة بعد الإقبال الواسع الذي حظيت به أعمال الروائي السعودي أسامة المسلم، والتي شكلت ظاهرة جماهيرية لافتة في معارض الكتب العربية.
وفي حديثه لـ»الثقافية وقال: حظيت الرواية العجائبية العربية باهتمام ملحوظ ومتزايد في السنوات الأخيرة من قبل فئة عريضة من القراء، خصوصا بعد النجاح المبهر لكتابات الروائي السعودي أسامة مسلم التي شهدت إقبالا لافتا؛ وهو إقبال يجعلنا نقف عند هذه التجربة الرائدة عربيا، والمتميزة بموضوعاتها وأساليبها ورمزيتها، والتي حاول المبدع من خلالها إعادة الروح إلى أدب تعود جذوره إلى التراث العربي كما في الحكايات الخرافية (كليلة ودمنة، وألف ليلة وليلة، ورسالة التوابع والزوابع...) وغيرها من الحكايات التي تنطوي على رؤى ووقائع قديمة، تداخلت فيما بينها وانصهرت في عصور زمنية متعاقبة، كاشفة عن تسربات كثيرة، تتعلق من جهة أولى، بمصير الإنسان في علاقته الغيبية بالظواهر الطبيعية، ومن جهة ثانية، بوعيه البدائي وبما يحيط به من أحداث وتطورات، ومن جهة ثالثة بالتعبير عن رغباته وأحلامه.
روايات أسامة المسلم
وأوضح د.عبدالرحمن إكيدرلـ «الثقافية» أن أعمال المسلم، في سلاسل مثل خوف وبساتين عربستان والبحور السبعة وصخب الخسيف، تُعيد تشكيل الموروث عبر سرديات عجائبية تتجاوز قوانين الواقع والطبيعة، لتؤسس عالمًا بديلًا يحمل منطقًا داخليًا خاصًا، ويعكس منظومة من القيم الإنسانية النبيلة وقال : سعى أسامة مسلم في أعماله الإبداعية ربط الحاضر بالماضي، مستلهما ما تحفل به المدونة السردية العربية القديمة من مادة غنية، لينسج لنا في عدد من الأعمال التي تنتظم في سلاسل روائية مثل: «خوف»، و»بساتين عربستان»، و»البحور السبعة»، و»صخب الخسيف»... سرودا عجائبية تخترق قوانين الطبيعة والمنطق وكل ما هو واقعي ومألوف، لتبني لها منطقا خاصا يعكس قيما إنسانية نبيلة. وتتمظهر هذه العجائبية في عدد من البنيات السردية؛ فعلى مستوى الأحداث تحفل روايات أسامة مسلم بالتعقيد والغموض والاختفاءات المفاجئة للأحداث، مستلهمة أحداثها من الخرافات والأساطير العربية والفارسية والتاريخ الشعبي مع إعادة تشكيلها وصهرها في قالب فني معاصر كما هو الشأن مثلا في (بساتين عربستان)، حيث تحضر المرأة بشكل بارزة في عالم بديل خيالي مليء بحروب تدور رحاها بين دعجاء الساحرة العربية الشجاعة والحكيمة والساحرة أفسار الفارسية. يتوسل الروائي في بناء هذه الأحداث على حبكة تتسم بالتعقيد والتشابك، تتطور فيها الأحداث بالعديد من الصراعات والمنعطفات الدرامية التي تغير مسار الحكاية بشكل كبير، مما يضفي على الرواية عنصر التشويق والغموض. فيما تتسم النهايات في جلها بكونها مفتوحة؛ تاركة القارئ في حالة من الترقب والتفكير.
الأسئلة الوجودية والرمزية
وأشار د.عبدالرحمن إكيدر إلى أن العجائبية هنا ليست مجرد عنصر للتسلية، بل أداة تعبيرية تتغلغل في عمق الأسئلة الوجودية والرمزية، وقال : فيما تتميز القوى الفاعلة بإمكانات خارقة وعجيبة، وأحيانا غامضة، تتراوح بين بشر خارقين وحيوانات وكائنات لا مرئية كالجان والعفاريت وكائنات أسطورية مثل الغيلان والسعالى والحوريات. وغالبا ما تخوض شخصية البطل رحلة مليئة بالأحداث والتحولات الداخلية والخارجية في عوالم مليئة بالأسرار والعجائب؛ مثلما نلحظه في رواية (البحور السبعة) مع الأميرة (لُجّ) التي تخوض معارك طاحنة وتحالفات معقدة بين ممالك البحار لاستعادة عرش والدها.ويؤثث أسامة مسلم فضاءات رواياته بأبعاد أسطورية وسحرية تهيمن بشكل لافت على بنيتها السردية، متراوحة بين عالم واقعي وعوالم أخرى غير مألوفة سفلية أو موازية أو في بحار عميقة، وهي في مجملها فضاءات لا تخضع لنظام الطبيعة وقوانينها. أما الزمن؛ فبدوره يعج بالعجائبية، فهو ليس زمنا واحدا، بل عدة أزمنة يتوالى ظهورها في الأحداث على نحو لا يخضع لترتيب محدد، حيث يجد القارئ نفسه أمام واقع تتهاوى فيه الحدود بين الأزمنة ويتقاطع فيه الماضي بالحاضر والمستقبل.