شغل الزمنُ اهتمام النقاد والباحثين المحدثين، باعتباره هيكلًا تقوم على أساسه الأعمال السردية عمومًا والرواية خصوصًا، وكان للشكلانيين الروس ريادة الجهود في هذا المضمار، فهم من أول من أدرج الزمن في نظرية الآداب، ومارسوا بعض تحديداته على الأعمال السردية المختلفة، وقد تم لهم ذلك، في حين جعلوا ارتكازهم ليس على طبيعة الأحداث في ذاتها، وإنما على العلاقات التي تجمع بين تلك الأحداث وتربط أجزاءها.
الزمن من أهم العناصر التي تشكل العمل السردي بأنواعه، والرواية من أكثر الأنواع الأدبية استخدامًا للزمن ثم القصة ثم الأسطورة وغيرها، ويعد الزمن من بين أهم الركائز التي تقوم عليها البنية السردية، فهو إطارها العام الذي تتمحور فيه مختلف التقنيات السردية، إذ لا حكي بلا زمن، ولا شخصية مجردة عن الزمن، هنا يتبين الارتباط الوثيق بين الزمن والسرد، فلا تتم البنية السردية دون زمن، فهو المحرك للعناصر الأدبية واللبنة التي تؤسس الأحداث. فالزمن يمثل محور الرواية وعمودها الفقري الذي يشد أجزاءها، كما هو محور الحياة ونسيجها، والرواية فن الحياة، وعند النظر إلى استخدام الزمن المستقبلي نجد أن روايات الخيال العلمي لها النصيب الأكبر من خلال اللعب بأزمنة الماضي والحاضر، واستثمار معايير علمية متعلقة بالإنسان والكون والفضاء، وبالتأمل في رواية ( عودة الشر)، نلاحظ اعتماد الكاتب خالد الحقيل غالبًا على الزمن في تناولات عديدة داخل روايته؛ ذلك الزمن الذى لا يعرف ترتيبًا للأحداث، وإنما يكون الاهتمام الأول بالزمن الذى تعيشه الشخصية لعرض أبعادها النفسية والاجتماعية والفكرية، ولا شك أن بناء العمل القصصى بهذا الزمن، يجعله أكثر حيوية وتماسكًا، وتدور فكرة رواية «عودة الشر» حول مدينة (نيوم) التي بلغت حضارتها مبلغًا لم يشهده البشر من قبل، كأكبر مصنع هيدروجين وطاقة نظيفة بالعالم، وأكبر تجمع لألمع العقول من جميع أنحاء العالم للبحث والإبتكار العلمي، إلا أن هناك الإمبراطور الفضائي (غور) الذي يعود إلى الأرض مرة أخرى ليبسط نفوذه على هذه المدينة الأسطورية الحالمة التي تتلألأ كجوهرةٍ ماسيّةٍ وسط الكرة الأرضية، ليتصدى فارس وفريقه السعودي لهذا الغزو الفضائي ويسطرون أروع البطولات في الدفاع عن موطنهم والذود عنه، وبالنظر إلى عتبة العنوان «عودة الشر» جاء العنوان شاملًا لما في الرواية من زمنٍ ماضٍ وزمن حاضر، فالزمن مرتبط ارتباطًا وثيقًا منذ الوهلة الأولى لدى الكاتب خالد الحقيل، وبناء على هذا سنقوم بتناول ”تقنية الزمن في رواية الخيال العلمي عودة الشر” باستخدام وسيلة الاسترجاع والتي تنحصر في الاسترجاع الداخلي، والاسترجاع الخارجي، وقد عرّف حسن بحراوي الاسترجاع على أنه كل عودة للماضي تشكل بالنسبة للسرد استذكارًا يقوم به لماضيه الخاص، ويحيلنا من خلاله على أحداث سابقة عن النقطة التي وصلت لها القصة، ومن بين الأنواع الأدبية المختفة تميل الرواية أكثر من غيرها إلى الاحتفال بالماضي واستدعائه لتوظيفه بنائيًا عن طريق استعمال الاستذكارات التي تأتي دائمًا لتلبية بواعث جمالية وفنية خالصة في النص الروائي، وتحقق هذه الاستذكارات عددًا من المقاصد الحكائية، مثل ملء الفجوات التي يخلفها السرد وراءه سواء بإعطائنا معلومات حول سوابق شخصية جديدة دخلت عالم القصة أو باطلاعنا على حاضر شخصية اختفت عن مسرح الأحداث ثم عادت للظهور من جديد. وهناك وظائف أخرى للاستذكار أقل انتشارًا، ولكنها أيضًا ذات أهمية كبيرة مثل الإشارة إلى أحداث سبق للسرد أن تركها جانبًا واتخذ الاستذكار وسيلة لتدارك الموقف وسد الفراغ الذي حصل في القصة، أو العودة إلى أحداث سبقت إثارتها برسم التكرار الذي يفيد التذكير، أو حتى لتغيير دلالة بعض الأحداث الماضية سواء بإعطاء دلالة لما لم تكن له دلالة أصلًا، أو لسحب تأويل سابق واستبداله بتفسير جديد، وكل ذلك يجعل الاستذكار من أهم وسائل انتقال المعنى داخل الرواية، ويمكننا بالتالي من التحقق مما يرويه السرد عن طريق تلك الاسترجاعات التي تثبت صحته أو خطأه.
وقسم (جيرار جينيت) الاسترجاع إلى نوعين: استرجاع داخلي، واسترجاع خارجي، أما الاسترجاع الداخلي فهو استرجاع لا يعود إلى أبعد من نقطة انطلاق الحكاية الزمني، وينحصر ضمن الحقل الزمني للنص، وأما الاسترجاع الخارجي فهو الذي يسبق مداه كله نقطة الانطلاق، وسمي استرجاعًا خارجيًا لأنه يقع خارج زمن الحكاية.
أما الاسترجاع الداخلي في رواية «عودة الشر» عندما ذهب الحقيل لسرد حدثين داخل الرواية يفصل بينهما صفحات قليلة إذ يقول: «تربطه علاقةٌ وطيدةٌ بوالد فارس، وهو المقدّم سامي الذي يرقد في غيبوبةٍ منذ سنواتٍ طوال.
سيدي الإمبراطور، كما تعلم أننا نُعدُّ من المخلوقات الصديقة لأهالي هذا البلد، حيث تربطنا بالمقدّم سامي وابنه فارس علاقات استراتيجية ممتازة و…..
الإمبراطور مقاطعًا فرسانه: لا رحمة لدينا عندما يتعلّق الأمر بأمن شعبنا، وكما تعلم.. انهار كوكبنا، ولم نجد أفضل من هذا الكوكب للعيش فيه.
سيدي.. هناك عشرات الدول الأخرى.. هناك الولايات المتحدة الأمريكية البالغة التقدّم، وهناك اليابان والصين، فلماذا الإصرار للعودة لغزو هذه البلاد.
ابتسم هذه المرة الإمبراطور (غور) وأجاب: عندما تشاهد المدينة السعودية التي سننوي العيش والاستقرار فيها، ستفهّم ما أقصد تمامًا»، فجاء سرد هذا الحدث الحاضر ليعلّل الحقيل سبب غزو هذه المدينة مرة أخرى إذ يقول: «امتلأت سماء مدينة نيوم بطنين وصفير آلاف المركبات الأرض جوية الناقلة للأفراد، ….. وهو يُلقِي نظرةً من خلال مركبته الميكروسكوبية من ارتفاعٍ يُقارب 30 ألف قدمٍ على تلك المدينة الأسطورية، التي تقع غرب المملكة العربية السعودية، وهي تتلألأ كجوهرةٍ ماسيّةٍ وسط الكرة الأرضية، والحياة الصاخبة تدبّ فيها، بينما البيانات تصطفّ أمامه على الأجهزة الاستشعارية بدماغه الأيونيّ ……. قالها الإمبراطور وسط ذهولٍ من قائد الفرسان، وهو يشاهد التصميم الإعجازيّ العمرانيّ لمدينة نيوم، ويقول للإمبراطور: بل أكتفي بما ذكرت، والذي أذهلني أنه خلال أقلّ من ربع قرنٍ على زيارتي السابقة تطوّرت هذه البلاد بشكلٍ لا يُوصف، وتجاوزت كافة الدول التي كانت عُظمى في ذلك الوقت».
فالاسترجاع الداخلي جاء لبيان سبب غزو الأمبراطور (غور) مدينة نيوم، التي أصبحت أكبر مصنع هيدروجين وطاقة نظيفة بالعالم، وأكبر تجمع لألمع العقول من جميع أنحاء العالم للبحث والإبتكار العلمي، وما وصلت إليه من تصميم إعجازيّ، وتطور عمراني منقطع النظير، وذلك بإرادة قيادة حكيمة، ورؤية سديدة، وإدارة واعية، وطموح لاحدود له.
وأما الاسترجاع الخارجي يتمثل خارج النطاق الزمني لأحداث الرواية المسرودة، وهناك نماذج كثيرة في هذه الرواية ومنها يقول خالد الحقيل: «فلنعد قليلًا إلى الوراء (25 عامًا)، حين قرّر الإمبراطور غور، وهو قائد أحد أكبر الكواكب التي يعيش فيها أكثر أنماط المخلوقات الفضائية تطورًا وتقنيةً، ممّا يتجاوز ما توصلت إليه التقنية البشرية آلاف المرات، ونظرًا لضيق العيش عليهم، وشُحّ الموارد على ذلك الكوكب، قرّر حينها الإمبراطور غور إرسال ممثلٍ له (وهو م 1)؛ ليستطلع الكون، ويكتشف أيّ كوكبٍ يصلح للعيش الفضائي، فوقعت عيناه على الأرض، وتحديدًا تمّ اختيار المملكة العربية السعودية؛ لاستعمار عقول مواطنيها والاستقرار فيها، ومن ثمّ التوسّع والانتشار لاحتلال الكرة الأرضية جمعاء.
وفي تلك الأثناء، تمرّد م 1، وانشقّ عن الإمبراطور غور، وأراد الانفراد باحتلال الأرض وغزوها عبر المملكة العربية السعودية، فتمّ التصدّي له من قائد فرسان الإمبراطور غور، وتمّت الإطاحة الفعليّة به من المقدَّم سامي، عبر منظومة وزارة الداخلية، وسط ذهول العالم من هول ما جرى على أرض مدينة الرياض».
فالحقيل يسترجع في هذا السرد حدثًا ماضيًا وقع خارج زمن الرواية، وهو يسترجع حدثًا وقع قبل 25 عاما،عندما قرّر الإمبراطور غور احتلال الأرض وغزوها عبر المملكة العربية السعودية، وتمّ التصدّي له من المقدَّم سامي والإطاحة به، وربما هذا الاسترجاع جاء ليمهد السبب الذي دفع الحقيل لكتابة هذه الرواية التي عنونها بعودة الشر، وهذا ما جرى عليه أغلب كتّاب الرواية عندما كانوا يعلنون عن الأسباب التي جعلتهم يقومون بكتابة الرواية والأسباب التي دفعتهم لها، وأخيرًا اعتمد الكاتب خالد الحقيل في هذه الرواية على الزمن والتلاعب بترتيب الأحداث بين الحاضر والماضي من خلال الاسترجاع الداخلي الذي يتمثل في استرجاع الحدث في زمن الرواية، واسترجاع تجربتين فصلت بينهما مدة زمنية قصيرة، والاسترجاع الخارجي الذي يتمثل خارج النطاق الزمني لأحداث الرواية المسرودة وقد تكون الغاية غالبًا بيان نضج السارد وتطور شخصيته خصوصًا إذا كانت المدة الزمنية طويلة، ليضفي على هذه الرواية عنصر التشويق، وعنصر التصاعد الزمني من الماضي إلى الحاضر ليجعلها أكثر تماسكًا وحيوية، ويضفي عليها طابع التوازن المثالي لرواية الخيال العلمي.
** **
د. فهد الشمري - دكتوراه في الأدب والنقد والبلاغة
منصة إكس: @fahad2626