قبل عدة أشهر صدرت سيرة جديدة عن المفكر الفرنسي جان جاك روسو للبروفيسور البلجيكي ريمون روتسون ، أستاذ الآداب الفرنسية بجامعة بروكسل ، وهي غير مترجمة للعربية حتى الآن للأسف الشديد ، وتعتبر سيرة روسو من أكثر المواضيع إثارة لدى المهتمين بفن السيرة الذاتية كونها معقدة ومتناقضة وفيها شيء من المتعة والفكر والتاريخ ، يقول الأستاذ عباس العقاد عن روسو : لكل عظيم سخرية من سخريات القدر في تاريخه ، وتاريخ روسو سخرية تتبعها سخرية ، ومفارقة تتلوها مفارقة ، فهو أستاذ التربية الذي ضاع أبناؤه في ملاجئ اللقطاء ، وهو أستاذ الاستقلال الذي لم يعش حياته مستقلاً عن المعونة ، وهو أكبر أبناء زمانه عاش مظلوماً ولا يزال مظلوماً ، ولبث طوال أيامه يرفع الظلم عن المظلومين.
ولد جان جاك روسو من عائلة فرنسية الأصل في مدينة جنيف في سويسرا عام 1712م ، من أبوين ينتميان للطبقة الوسطى ، هما إسحاق روسو صانع الساعات وسوزان برنار ابنة أحد المعلمين المتميزين في سويسرا ، وقد تميزت حياة روسو منذ ولادته بالشقاء والتشرد والتعاسة، فبعد ولادته بأسبوع توفيت والدته لتتركه يتلقى العناية من الآخرين ، وفي وصف شخصيته التعسة نراه يتذكر في كتابه ( الاعترافات ) : لقد ولدت ضعيفاً ومريضاً ، وقد دفعت والدتي حياتها ثمن ولادتي ، هذه الولادة التي كانت أولى مصائبي ، و لم يبلغ السادسة من عمره الا وكان أبوه يجبره بحب وشغف على قراءة القصص الروائية والكتب الفلسفية مثل خطاب عن التاريخ العام من تأليف بوسويه ومحاورات الموتى لفونتينيل وبعض مؤلفات فولتير و بلوتارك.
بعد دخول والده في مشاجرة عنيفة واعتدائه بالضرب على أحد المواطنين واضطراره للهرب من جنيف خوفاً من ملاحقة العدالة له، بدأت حياة الشقاء والتشرد تلاحق روسو لتبني شخصيته المعقدة والمريضة بالآفات النفسية ، فقد أدخل في إحدى المدارس الداخلية ليبقي فيها سنتين ، اضطر لتركها بعد أن أخضع ظلماً لعقاب صارم ،، وبعد المدرسة وضع ليتعلم على أيدي أحد النقاشين حرفة النقش ولكن سوء ادب معلمه وجور أخلاقه اضطراه للهرب من جنيف ليقيم عند سيدة محسنة في مدينة آنسي الفرنسية ، والتي بدورها دفعته للتخلي عن المذهب البروتستانتي واعتناق المذهب الكاثوليكي وهو في السادسة عشرة من عمره ،، وبعد ذلك وبسبب حاجته للمال أخذ روسو ينتقل من عمل لآخر دون أن يجد ما يرضيه أو يوفر له الاستقرار ، فمن سكرتير عند سيدة عجوز وحاجب عند آخر إلى مؤلف ومدرس موسيقى ومن ثم إلى منصب سكرتير لسفير فرنسا في البندقية والذي سرعان ما قدم استقالته منه ليعود إلى باريس ليعمل سكرتيراً ومن ثم في التنقيح الموسيقي.
وما أن وصل روسو باريس حتى تمكن من مخالطة ألمع أدباء فرنسا من أمثال مدام دوبان ومدام دي بروجي ومارينو وفونتيل وديدرو ، ووضع أول تصميم موسيقي له بمسمى (عرائس الشعر المغنجات) .
تقرر تعيين روسو في سفارة فرنسا لدى البندقية بوظيفة سكرتير للسفير هناك ولكن روسو أبدى استياؤه من هذا السفير الذي كان محدود الفهم والمعرفة والذكاء ، فقدم استقالته وعاد إلى فرنسا وتعرف على خادمة لدى إحدى سيدات المجتمع الباريسي وتدعى ( تيريز) واتخذها خليلة له.
أقام روسو حفلة موسيقية وعزفت مقطوعته ( عرائس الشعر ) ولكنها فشلت فشلاً ذريعاً ثم حاول بعدها أن ينقح مقطوعة موسيقية بعنوان ( أعياد رامير) كان قد ألفها الموسيقي رامو وهي من كلمات غريمه ( فولتير) ، لم يشأ روسو أن يمس أشعار فولتير دون إذن منه فكتب إليه يطلب موافقته بهذا الخصوص واستلم منه جواباً بالغ اللطف والمجاملة ، هكذا بدت العلاقة بين هذين الرجلين اللذين أصبحا فيما بعد عدوين لدودين.
تبدأ قصة روسو مع الفكر والفلسفة ودخول التاريخ الفرنسي من أوسع أبوابه عندما قرأ في عام 1749م بمجلة ( مركوردي فرانس ) مسابقة في المقال بعنوان ( هل أسهمت النهضة العلمية والفنية في إفساد الأخلاق أم في إصلاحها ؟ ) فقرر روسو الاشتراك في هذه المسابقة بتشجيع من صديقه ( ديدرو ) وحاز المركز الأول ونال جائزة المسابقة ،،، يقول روسو عن هذه التجربة : ومنذ ذلك الحين كتبت صك شقائي بيدي ، إن جميع البلايا التي أحاقت بحياتي فيما بعد كانت نتيجة حتمية لتلك اللحظة التي ارتكبت فيها ذلك الضلال.
نشر ديدرو مقال روسو حول العلم والأخلاق، وأثيرت ضجة كبرى في فرنسا بل وفي أوروبا كلها حول هذا المقال وانشغل روسو بالرد على منتقديه ومن بينهم بالطبع غريمه الشهير فولتير إلا أن ملك فرنسا نفسه لم يسلم من رد روسو المفحم الذي ألجمه إياه بعد أن قرر دخول الجدال.
بعد الضجة الكبرى التي أثارها مقال روسو حول العلم والأخلاق بدأت الشهرة تحيط بروسو حيثما حل وارتحل ، وفي أي مكان قام فيه أو نزل ، ولكن مرضاً نفسياً بدأ يقرع أبواب روسو ويؤرقه ويتعبه ما تبقى له في الحياة من عمر ، فقد بدأ يشك في كل شيء حول ه ، حتى في تيريزا التي هجرت أهلها وعملها من أجله ، بل ووصل حد المرض عنده أن أضحى لا يأكل إلا من الطعام الذي أعده بنفسه !!.
بعد ذلك كتب روسو مسرحيته الشهيرة (عراف القرية) ونال منها شهرة واسعة حتى تم تمثيلها في بلاط الملك فنالت إعجاب القصر ، وحينها طلب ( الدوق دومان ) من روسو أن يقدمه إلى الملك ، ولكن روسو رفض فحاولت تيريزا مع صديقه ديدرو إقناعه في ذلك ، فتوهم أنهما يتواطآن ضده ، ومن هنا انصدعت أواصر صداقته مع ديدرو أما تيريزا فتحملته وصبرت عليه كما صبرت عليه من قبل وكما ستصبر عليه لاحقاً.
رحل روسو إلى موطنه جنيف في سويسرا وهنالك احتفى به مواطنوه احتفاءً كبيراً ، وظل هناك ما يقارب الأربعة أشهر وبعدها عاد إلى باريس ،، وقد اشتهر روسو بحبه للتنزه والمشي ، وهذه عادة مشتركة عند أغلب العظماء والمفكرين كما ذكرنا في مقالنا السابق عن الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط ،، وحول هذه العادة يقول روسو : لا يمشي رأسي إلا مع رجلي ،، وإن جاز لنا القول إن حياة روسو كلها تنزه فإننا لم تفارق الحقيقة ، فقد زار كل المقاطعات الفرنسية والسويسرية سواءً رغبة أم اضطراراً ، كما أنه قصد البندقية وانجلترا ولوكسمبورغ.
كتب روسو كتابه الشهير ( ايميل ) وسخط عليه رجال الدين سخطاً شديداً وصبوا عليه لاذع تهديدهم وتحذيرهم ، كما سخط عليه الملحدون الذين ضجت بهم فرنسا حينذاك حتى أصبح روسو بين ناري المسيحية والفلسفة بالرغم من كراهية الفريقين لبعضهما البعض إلا أن اتفاقهما العجيب كان على فكر وفلسفة روسو!!
لم يمض عشرون يوماً على نشر روسو لكتابه ايميل حتى حكم عليه البرلمان الفرنسي بالسجن في حزيران 1762م ، فهرب إلى سويسرا وبعد أربعة أيام من قدومه إليها حكم عليه مجلس جنيف بالسجن ، يقول روسو عن هذه الفترة : كان قد أثير ضدي في كل أوروبا صراخ لعنة هائج لم يسبق له مثيل !! ،، وبعدها غادر إلى مدينة نومشتيل الواقعة تحت حكم ملك بروسيا فريدريك الثاني ثم تبعته تيريزا فأقاما هناك لبضعة أيام بسلام .
بعد ذلك ظهرت مقالة انتقادية عنيفة لروسو عزاها البعض لفولتير أثارت الرأي العام ضده فهاجمه الفلاحون ذات ليلة في بيته ورموه بالحجارة حتى أصيب ، فقرر بعدها الرحيل إلى انجلترا 0وقد وصل روسو إلى لندن واستقبله الفيلسوف الشهير ديفيد هيوم وأسكنه ضاحية صغيرة بالقرب من العاصمة لندن حيث تمكن من تأليف كتابه ( اعترافات ).
عاود المرض النفسي روسو في لندن فتوهم أن هيوم أغراه بالمجيء إلى انجلترا لكي يسخر منه ويحقره ، فأخذ يتهم هيوم ويكيل له الرسائل واحدة تلو الأخرى ، وهيوم يرد عليه بهجوم مثيل ، ومما زاد الطين بلة على روسو أن رسائل فولتير بدأت تشن هي الأخرى هجومها على روسو وأفكاره حتى شرعت نوبات الصراع النفسي تجد لها ملعباً ومترعاً في نفس روسو ، فأصبح يتوهم أن الجميع يضطهدونه ، وبعدها قرر الرحيل من انجلترا ليعود إلى فرنسا.
كان الدوق دي شوازيل وزير خارجية فرنسا قد سمح لروسو دخول باريس بعد أن منعه البرلمان من دخولها سابقاً بسبب كتابه ايميل ، وفي باريس وجد شاباً انجليزياً مثقفاً فأودعه كتابه اعترافات وأوصاه بنشره بعد وفاته ، وفي باريس عاد إلى مهنته القديمة كـناسخ نوتات كي يتمكن من العيش ، وفي وقت ملله وسأمه كان يخرج إلى التنزه في غابات سان كلو مع صاحبه الروائي الشهير (برناردان دي سان بيير) وخلال هذه الفترة كتب كتابه (تأملات متنزه منفرد).
استمر روسو على هذه الحال حتى مات ، وقيل في وفاته الشيء الكثير، ويرجح أن الوفاة حصلت من تسمم في الدم ناتج عن مرض مزمن في المرارة رافق روسو طيلة حياته ، كما قيل أن تيرزا ضربته بآلة حادة حتى قتلته ولكن الطب الشرعي برأها من ذلك ، ودفن روسو في جزيرة صغيرة تدعى جزيرة الحور.
وفي عام 1794م قررت الحكومة الفرنسية نقل رفاته إلى البانثيون ( مقبرة العظماء ) كما يسميها الفرنسيون ليرقد بجوار عدوه اللدود وخصمه الشهير فولتير ، وقد أقيم احتفال رسمي بنقل رفات روسو ، فمشى الموكب من قصر التويلري إلى مدافن البانثيون مؤلفاً من فئات ترمز كل فئة إلى كتاب من كتب روسو ، فكان أمام أعضاء الحكومة حاجب يحمل العقد الاجتماعي وكانت الأمهات مع أطفالهن يرمزون إلى كتاب ايميل ، كما كان الموسيقيون يعزفون ألحاناً من معزوفته الموسيقية عراف القرية ، وهكذا تم تكريم روسو المفكر المجنون تكريماً يليق بعطائه الفكري والفلسفي في محفل رسمي مهيب.
وبعد أن نفي نابليون إلى جزيرة ألبا ، نبش قبريهما ووضع عظامهما معاَ في غرارة ثم ألقى بهما في الجير المتقد على قارعة الطريق فقد كان يكرههما كراهية شديدة ، وللقارئ الكريم أن يتخيل مصادفات القدر التي جمعت جان جاك روسو وغريمه فولتير في الفكر وفي حياتهما البائسة ، وفي سنة وفاتهما معاً عام 1778م ، وحكاية نقل رفاتهما إلى مقبرة البانثيون وحتى في سحق نابليون لعظامهما معاً !!.
** **
- عبد الله العولقي
@albakry1814