للقانون صلة باللغة؛ فاللغة هي الأداة التي يستعين بها الخطاب القانوني؛ لتحقيق اشتغاله وتماسكه وانسجامه الداخلي، وهي -أيضاً- الأداة الحاملة للقوانين والتشريعات، والوسيلة المثلى للتواصل والإبلاغ والتأثير والتوجيه. فالخطاب القانوني ذو طبيعة إجرائية، وخصائص إنجازية، ومقاصد تواصلية؛ ولهذا فهو يستدعي الكفايات اللسانية والتداولية لواضع القانون ومتقبله، وفق مقتضيات المقام والسياق، وأحوال التلفظ.
إن الحجاج في الخطاب القانوني قائم على التعاون، وفعل ما يجب فعله، وترك ما يجب تركه؛ لتحقيق العدالة، وحماية الحقوق والحريات، ونصرة المظلوم، والأخذ على يد الظالم، وهذا ما أكدته النيابة العامة في رؤيتها ورسالتها؛ وبهذا يكون الحجاج في الخطاب القانوني عمل قولي إنجازي، يهدف إلى تحقيق التوجيه التداولي؛ لاستمالة الجمهور وإذعانه، وحمله على التسليم بما في النصوص التشريعية والقانونية، وعليه، فوظيفة الحجاج في الخطاب القانوني تنظيم حياة الناس؛ لحفظ الحقوق، وتحقيق العدالة والمساواة بين أفراد المجتمع، وهذا ما يجعل الحجاج في الخطاب القانوني عملاً تواصلياً، وصورة من صور التفاعل الإنساني.
ولما كان القانون مجموعة من القواعد التشريعية التي تصاغ باللغة، صار الخطاب القانوني محكوماً باللغة وبضوابطها اللسانية والتداولية حتى يصل إلى أفراد المجتمع كافة، ومن أهم الخصائص اللسانية المميزة للغة القانونية الخصائص التداولية التي تجعل الخطاب القانوني خطاباً وثيق الصلة بالمجتمع، بوصفه خطاباً موجهاً للأفراد لأداء عمل ما، أو الامتناع عنه.
إن السمات السابقة للخطاب القانوني تجعل منه عملاً حجاجياً كبيراً، يستعين باللغة؛ لتطبيق القوانين المنظمة لحياة الناس، وهذا ما تحرص عليه النيابة العامة في بلادنا الحبيبة، وعليه يمكن الوقوف عند أهم الإستراتيجيات الحجاجية والإقناعية في الأنظمة القانونية الصادرة من النيابة العامة المنشورة في منصة (إكس)، ومن أهم تلك الإستراتيجيات:
حجاجية العموم في التركيب
يصاغ الخطاب القانوني في شكل قضايا كلية، وهذا ما يجعله خطاباً عاماً، يستوي أمامه الناس كافة، ومن أمثلة ذلك ما جاء في نظام الأجهزة والمستلزمات الطبية: (كل من باع، أو صرف، أو حاز بقصد الاتجار أجهزة، أو مستلزمات طبية مغشوشة مع علمه بذلك، يعاقب بالسجن مدة تصل إلى عشر سنوات، وغرامة مالية تصل إلى عشرة ملايين ريال، أو بإحدى هاتين العقوبتين). نلاحظ في القانون السابق استعمال المشرِّع لفظ (كل)، وهو لفظ يدل على الاستغراق، أي شمول الحكم لكل أفراد الموضوع والمحمول من ناحية الكم، فهذا القانون موجهٌ إلى جميع أفراد المجتمع على اختلاف مشاربهم، ومن هنا تكمن حجاجيته، فلفظ العموم (كل) يوجه المتلقي نحو النتيجة المحددة، فهو قائم على استغراق جميع أصناف المتلقين، وأوضاعهم التلفظية، وهذا ما يجعله عملاً قوليا إنجازياً، ومسلكاً استدلالياً موجهاً نحو نتيجة محددة، فكل من باع أو صرف أو حاز بقصد الاتجار أجهزة، أو مستلزمات طبية مغشوشة مع علمه بذلك، النتيجة المقصودة: يعاقب بالسجن أو الغرامة، أو بكليهما معاً، وعليه: لا تفعل ذلك حتى لا تعاقب بتلك العقوبة، وهذا الخطاب القانوني عمل حجاجي بامتياز، فهو تحذير من السلوك الآثم المتمثل في الغش في الأجهزة والمستلزمات الطبية، سواء في البيع أو الصرف أو الحيازة بقصد الاتجار. إن هذا الخطاب القانوني يوضح الدور الريادي للنيابة العامة في الحفاظ على المنتجات التجارية من السلوكيات المشينة الموجبة للعقوبة، وفي ذلك تأكيد الحماية العدلية للمنتجات التجارية، ومحاربة الغش التجاري في المستلزمات الطبية؛ رغبة في سلامة الأجهزة، وحماية صحة المرضى، والعاملين في المرافق الصحية، وهذا يعزز الأمن القضائي، ويسهم في تحقيق العدالة لكل أفراد المجتمع.
ونلاحظ في القانون السابق - أيضاً- استعمال المشرّع للرابط الحجاجي (أو) الذي يربط بين الأعمال القولية في التلفظ الخطابي (البيع، الصرف، الحيازة بقصد الاتجار)، والنتيجة المحددة (العقوبة بالسجن أو الغرامة، أو بكليهما معاً)، وهذا دليل أخر على حجاجية الخطاب القانوني، وتأكيد انسجامه المفضي إلى التأثير والإقناع والحمل على الإنجاز.
حجاجية التعريف
يعدّ التعريف بمنزلة العقد الائتماني بين المشرّع والمتقبل للقانون، فهو عمل تواصلي محكوم بالسياقات والظروف التي أنتجته، وهو أيضاً منطلق للحجاج القانوني نحو النتيجة المقصودة، ومن أمثلته تعريف (التستر) في نظام مكافحة التستر: (اتفاق أو ترتيب يُمكِّن من خلاله شخص ٌشخصاً آخر غير سعودي من ممارسة نشاط اقتصادي في المملكة غير مرخص له بممارسته، باستخ دام الترخيص، أو الموافقة الصادرة للمتستر)، ففي التعريف القانوني السابق توضيح لمفهوم (التستر)، وشرح لصورته عند المشرِّع، وهذا ما يجعل التعريف عملاً توجيهياً إلزامياً نحو نتيجة محددة، وهي حظر التستر، ومكافحة ارتكابه بأي صورة كانت، وفي ذلك إشارة إلى خطورته على النشاط الاقتصادي، والأمن الاجتماعي؛ ولذلك تختص النيابة العامة بالتحقيق والادعاء في الجرائم المنصوص عليها في النظام، فالتعريف السابق للتستر يدخل في حجج المواضع المشتركة بين الباث والمتلقي؛ وهذا ما يقوي التوجيه التداولي للخطاب القانوني، ومن ثَّم يخضع المتلقي لسلطة المشرِّع، ويحمله على عمل الإنكار والتجريم لسلوك التستر.
حجاجية العمل القولي التداولي
تظهر علاقة الأعمال القولية بالقانون بإنجاز عمل الخطاب القانوني، وهذا يظهر جلياً في الإطار التعاقدي بين المشرِّع والمتلقي، فالقانون يلجأ - أحياناً- إلى الأفعال المضارعة الدالة على الاستمرار؛ لإنجاز عمل التأثير بالقول المتمثل في عمل (الإلزام)، ومن ذلك ما جاء في نظام عقوبات نشر الوثائق والمعلومات السرية وإفشائها: (يحظر على أي موظف عام، أو من في حكمه -ولو بعد انتهاء خدمته- نشر أي وثيقة سرية، أو إفشاء أي معلومة سرية حصل عليها أو عرفها بحكم وظيفته، وكان نشرها، أو إفشاؤها لا يزالان محظورين)، فالفعل الكلامي (يحظر) ألزم المتلقي بأن يتصرف مستقبلاً وفق ما يمليه عليه المشرِّع القانوني، بوصفه سلطة حجاجية عليا في إصدار الأحكام وتطبيقها. فالقرارات والأحكام القضائية في الدرس التداولي أعمال قولية، تهدف إلى التواصل مع المتلقي، وحمله على إنجاز ما يطلبه المشرِّع القانوني، وهذا يعني أن سلطة منشئ الفعل القانوني، هي المتحكمة في القوة الإنجازية للخطاب، وهي - أيضاً- المرجع لكل عمل قولي مباشر أو غير مباشر.
ومما يعطف النظر في الخطاب القانوني المار ذكره كثرة الألفاظ الدالة على العموم والاستغراق (أي موظف عام، أي وثيقة سرية، أي معلومة سرية)، وتكرار الرابط الحجاجي (أو)، وهذه كله راجع إلى القصد التواصلي للخطاب القانوني، المتمثل في الحفاظ على الأمن الوطني للدولة.
وختاماً، نسأل الله أن يحفظ قيادتنا وبلادنا، وأن يديم علينا نعمة الأمن والأمان والرخاء.
** **
د. قالط بن حجي العنزي - باحث في السرديات التداولية
@qalit2010