يهدف هذا العمل الاستشرافي الضخم لمجموعة من المؤلفين (صدرت النسخة الفرنسية منه عن دار نشر جيلو في حوالي 320 صفحة عام 2022) إلى إعلام كل رئيس أمريكي جديد وإدارته بالعديد من المخاطر التي تُهدّد ليس فقط مصالح الولايات المتحدة الأمريكية ولكن أيضاً مصالح العديد من الأطراف الفاعلة المنضوية تحت لواء الولايات المتحدة الأمريكية في العالَم. إن هذا العمل بما أنه انتقل من السرية إلى العلنية، وهو ما يمكن أن نُطلق عليه تفعيل التحول التدريجي من إستراتيجيات القوة الناعمة إلى إستراتيجيات القوة الصلبة، فانه يسلِّط الضوء على المجتمعات التي تواجه تهديدات وتحديات اجتماعية وسياسية خطيرة، وهو بهذا يُعتبر وثيقة فريدة من نوعها تساعد في الكشف عن طبيعة التحولات الجيوسياسية المحورية والفارقة التي سيشهدها العالَم في العقدين المقبلين.
يبرز الدور الجوهري الذي يضطلع به المجلس الاستخباراتي الوطنيNational Intelligence Council ، العقل الاستشرافي لوكالة الاستخبارات المركزية من خلال إصدار كتاب «العالم عام 2040 كما تراه وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية،» باعتباره أداة ترسم للصانع القرار وللدائرة المحيطة به في مقر إقامته بالبيت الأبيض مستقبل العالَم.
جدير بالذكر أن المجلس الاستخباراتي الوطني (NIC) بالولايات المتحدة الأمريكية، الذي أصدر هذا العمل، تأسَّس عام 1979 ويتبع مدير الاستخبارات الوطنية، علما بأن هذا المجلس يعدّ بمثابة الجسر الذي يربط صانعي السياسات في الولايات المتحدة الأمريكية بمجتمع الاستخبارات الأمريكي (IC). معلوم أيضا أن هذا الأخير (IC) الذي تم إنشاؤه في 4 ديسمبر 1981 يضم منذ 9 يناير 2021 ثمانية عشر جهازاً استخباراتياً لدعم السياسة الخارجية والأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية.
يطرح كتاب «العالم عام 2040 كما تراه وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية» مجموعة من الأسئلة: كيف ستتعامل المجتمعات مع شيخوخة سكانها؟ كيف ستقاوم هذه المجتمعات ضغوط الهجرة وشحّ في المياه؟ لماذا يتعرض الشباب في هذه المجتمعات لخطر الإصابة باضطرابات نفسية حادة؟ هل ستتمكن التكنولوجيا من التخفيف من الآثار التي يفرضها وسيفرضها تغير المناخ على العالَم؟ ما الدور الذي يلعبه الذكاء الاصطناعي وما تأثيره على مستقبل العالم؟ كيف سيتحدد مستقبل العقود المقبلة وما هي الدول التي ستحدد هذا المسار؟ هل النهضة الديمقراطية ممكنة؟
ان الدراسة التي يقدمها المجلس الاستخباراتي الوطني (NIC) للعالم في عام 2040 وتُغطي جميع المجالات الديموجرافية والبيئية والاقتصادية والتكنولوجية أظهرت نتائج مثيرة للقلق: فالديمقراطيات الغربية تخاطر باستمرار بفقدان شرعيتها، إذ إنها لم تعد دوَل الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية القادرة على تقديم الدعم لسكانها لا سيما المسنين، ولهذا، فإن إمكانية نشوب صراعات اجتماعية حادة أصبح واقعاً ملموساً، الأمر الذي سيشكل تحدياً للاستقرار السياسي خاصة في الدول الغربية.
جرس الإنذار الذي يُطلقه كتاب « العالم عام 2040 « يُنذِر بأنه مع زيادة عدد سكان العالم بنحو 1.4 مليار نسمة، لن يتمتع العالم بالاستقرار وسوف تتكثف الهجرة من الجنوب الى الشمال. ستؤدي الهجرة السريعة إلى التأثير سلباً على نمو الاقتصادات المتقدمة كما ستزيد الضغوط على الحكومات لزيادة الاستثمار العام، في حين يفيد تباطؤ النمو السكاني وزيادة متوسط العمر بعض الاقتصادات النامية. يعتقد الخبراء الذين حرّروا هذا العمل الاستشرافي أن سكان الصين يتقدمون في السنَ وأن الهند ستتفوق على الصين من حيث عدد السكان في غضون بضع سنوات. ستساهم هذه المشاكل في جعل العالم عام 2040 أكثر اضطرابا.
يشير كتاب « العالم عام 2040 « إلى أن تغير المناخ وما يترتب عليه من مخاطر مرتبطة بشح الغذاء والماء والصحة وأمن الطاقة يعدّ واقعاً ملموساً. يضاف إلى ذلك الأزمات البيئية التي تفرض تحديات هائلة، سواء على مستوى التدهور البيئي أو سلامة الأفراد والمجتمعات، الأمر الذي يفرض تكاثف الجهود من أجل الحد من انبعاثات الغازات الدفيئة والحفاظ على الحياد الكربوني.
كما يستعرض كتاب « العالَم عام 2040» خطورة ازدياد معدل الدين الوطني لدى العديد من الدول لأن الإيرادات الحكومية أقل من معدلات الإنفاق، وبالتالي سيؤدي الكساد في هذه الدول إلى نمو الدين العام وستصبح العلاقات التجارية هي الأكثر تعقيدا وغموضا وستتقلص فرص العمل وستزيد الضغوط التي تمارسها الشركات العملاقة العابرة للحدود على حكومات هذه الدول. إلا أنه على غير المتوقع، سترتفع معدلات النمو في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OCDE) وفي آسيا ولكن بوتيرة أبطأ.
يرى المؤلفون أنه في العقود المقبلة وبحلول عام 2040، سوف ترغب العديد من الدول في إعداد إستراتيجية متكاملة للتحوّل الرقمي عن طريق دمج التقنيات الرقمية في العمليات والقرارات التي تنظمها الحكومات وبالتالي تركيز صلاحياتها من أجل السيطرة على السوق. سيسعى الجميع لاكتساب المهارات اللازمة للوصول إلى هذا الهدف وسيظهر قادة جدد وشركات تكنولوجية مهيمنة جديدة، تتنافس عليها العديد من الدول خاصة الصين والولايات المتحدة الأمريكية (الذكاء الاصطناعي أنموذجا).
من المتوقع أن تصل قيمة صناعة «إنترنت الأشياء»، التي ستبلغ قيمتها 64 مليار دولار في عام 2025، إلى عدة تريليونات دولار بحلول عام 2040. سيؤدي هذا التقدم التكنولوجي إلى زيادة الكفاءة والراحة ومستوى معيشة الشعوب، ولكنه سيخلق أيضاً توترات وسيؤدي إلى تفاقم العديد من الأزمات.
إن كتاب «العالم عام 2040» يولي أهمية كبيرة لدراسة المنافسة التكنولوجية بين الدول وأيضاً للطريقة التي ستؤثر بها إدارة الإنترنت وتدفق المعلومات على إعادة تشكيل الرأي العام في العديد من دول العالم. كما أن الرهانات المتوقعة في المستقبل كما يرسمها كتاب «العالم عام 2040 وفقاً لرؤية وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA» لا تزال تشكل أبرز التحديات لعالَم الغد، ويأتي في مقدمتها إمكانية وقوع اضطرابات في مجالات متعددة تشمل المناخ والاتصال والتكنولوجيا الحيوية والذكاء الاصطناعي، الأمر الذي يستدعي بناء سيناريوهات مستقبلية للعالَم لعقود قادمة.
** **
- د. أيمن منير